الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد وصف عذاب هؤلاء بأنه مهين ليتعزى المؤمنون عما يرون من عزة هؤلاء وسلطانهم ببيان أنهم سيكونون من بعد في أشد الذلة؛ لأن عذاب الله سبحانه سيريهم الهوان الحقيقي الدائم الذي لَا رفعة معه.
وقد بين سبحانه أن تلك الشدائد التي تنزل بالمؤمنين هي خير لهم ليتبين الطيب من الخبيث، ولذا قال سبحانه:
* * *
(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
…
(179)
* * *
كانت هذه الشديدة التي نزلت بالمسلمين في غزوة أحد سببا في أن عُرف المؤمنون الصادقون من المنافقين وضعاف الإيمان، وقد بين سبحانه أن شأن الله تعالى في عباده أن يختبرهم، ويصهر جماعتهم بالشدائد لينفصل عنهم الخبث، كما ينفصل الخبث عن الذهب بصهره، و " يذر ": معناها يترك، وقوله:(عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْه)، من اليسر، وعدم التعرض للشدائد، ومعنى (يَمِيزَ) يفصل، وقرئ (يميِّز)(1) أي يحدد ويبين، والطيب هو الصادق الإيمان، والخبيث هو المنافق ومن يثق به من ضعاف الإيمان، ومعنى النص الكريم: ما كان من شأن الله تعالى وسنته في عباده، ومعاملته لأهل الإيمان والصدق أن يتركهم في حال من اليسر الذي لَا صعوبة معه، فإن ذلك يجعلهم مختلطين لَا مميز يميز من دخل في الإيمان وأشرب قلبه حبه، ومن دخل في الإسلام ولم يذق حلاوته، ومن أضمر الكفر وأظهر الإيمان، وما كان الله تعالى ليتركهم غير متميزين حتى يبين الخبيث من الطيب، وتنفصل الأقسام، وتتميز كل جماعة بحقيقتها. وهذا على أن قوله تعالى:(عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْه) من نصر مستمر، لَا مشقة فيه ولا ابتلاء، وعلى أن قوله تعالى:(عَلَى مَا أَنتَمْ عَلَيْهِ) بمعنى مختلطين غير متميزين يكون السياق واضحا، وقد بينه الزمخشري بقوله: (لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لَا يصبر عليها إلا الخلَّص الذين امتحن الله قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيكون عيارا
(1) أي بتشديد الياء؛ وبها قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف. المرجع السابق.
على عقائدكم، وشاهد بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لَا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها فإن ذلك مما استأثر به علم الله).
وإن أولئك المنافقين الذين يتخذون من الهزيمة دليلا على عدم صدق الرسول لكاذبون، لأن الله لَا يطلع على غيبه أحداً، وماكان لكم معشر المؤمنين أن تعلموا حقيقة المنافقين وضعاف الإيمان فإن ذلك من الغيب.
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ) الغيب ضد المشاهد، وهو ما غيب عنا مما لَا نعلمه بطريق الحس ولا تصل عقولنا المجردة إلى معرفته، كالعلم بما يكون في المستقبل، وحقيقة الملائكة وذواتهم، وغير ذلك مما غيب الله عنا علمه، و " اجتبى " معناها اختار واصطفى، والمعنى: من شأن الله تعالى أن لَا يطلع عباده المؤمنين على الغيب من الأمور، حتى يعرفوا ما يكون لهم في الغد، بل إنه يغيب المستقبل عنهم ليجدّوا ويجتهدوا، ويعلموا، وسيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون، ومع ذلك يصطَفي من رسله من يطلعهم على بعض الغيب، كما كان يطلع رسوله أحيانا على بعض ما يدبر له كاطلاعه على ما دبره اليهود لاغتياله، وكاطلاعه على من حملت رسالة إلى قريش تخبرهم بسر غزوته لهم، وكمكاشفته بالوحي لجبريل الأمين، وهكذا من شئون الغيب، ويستفاد من هذا أن الله سبحانه وتعالى قد اختص بعلم الغيب، كما فقال تعالى:(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ. . .)، وأن الأنبياء قد يصطفي الله منهم من يعطيه علم بعض المغيبات، فما يعطيهم يعلمونه، وإنه لنزر قليل لا يعد شيئا ولقد قال سبحانه على لسان نوح عليه السلام:(وَلا أَقُول لَكمْ عِندِي خَزَائِن اللَّه وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُول إِنِّي مَلَكٌ. . .)، وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم:(وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيرِ. . .).
(فَآمِنًوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إذا علمتم أن الله تعالى لَا يطلع على غيبه أَحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يتعين أن تؤمنوا بالله
حق الإيمان بأن تعرفوه متصفا بصفات الكمال منزها عن المشابهة للحوادث، ليس كمثله شيء، وأن تؤمنوا برسله فتعرفوا حقيقة رسائلهم وأن تؤمنوا بالله حق الإيمان، وبالرسل وما جاءوا به وتتقوا الله وتجعلوا وقاية لأنفسكم بالطاعات تقومون بها وتؤدونها على وجهها فلكم أجر عظيم.
* * *
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى العبر في غزوة أحد وما كان فيها، وقد أشار سبحانه في آخر بيان العبر إلى ما عليه أهل الكفر من نعيم دنيوي، وتمكين من أسباب الحياة، وأشار سبحانه وتعالى بالشدائد، مع رؤية نعيم الكافرين، ليميز الله سبحانه وتعالى الخبيث من الطيب، وأشار سبحانه إلى أن هذا الإملاء للكافرين ليس خيرا لهم، بل إن عقباه ستكون شرا لهم؛ لأنهم بهذا العطاء سيستمرئون الشر، ويوغلون فيه إيغالا، ووراء ذلك العذاب الأليم، والخزي في الدنيا والآخرة، وفي هذه الآيات يصرح سبحانه بما يكون منهم في النعمة التي اختبرهم سبحانه وتعالى بها؛ إذ إنهم لَا يجعلونها سبيلا للخير، بل يحبسونها على أنفسهم حبسا، فتكون شرا لَا خير فيه لأحد، ولذا قال سبحانه:
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَذين يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّه مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَر لَّهُمْ).
البخل هو الحرص الشديد فيما يملك الإنسان من مال أو علم أو أي ضرب من ضروب القدرة التي يستطيع أن يعين بها غيره، وعلى ذلك يشمل البخل كل شح، سواء أكان موضوعه المال، أم لم يكن موضوعه المال، وقد فسر بعض العلماء البخل في هذه الآية بكتمان العلم، ذلك أن اليهود كتموا أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وتبشير التوراة به، وضنوا بها فلم يعلنوها ليضلوا، أو ليمنعوا الهداية.
وقد فسر الأكثرون البخل بمعناه الظاهر المتبادر، وهو البخل في المال، ويتفق هذا مع سياق الكلام، إذ إن الله سبحانه وتعالى قد حكى عن هؤلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، أن منهم من يقول إن الله فقير ونحن أغنياء، ولأن الله سبحانه وتعالى ذكر بعد بيان بخلهم أن الله سبحانه وتعالى له ميراث السماوات والأرض، والتعبير بكلمة ميراث يومئ إلى أن موضوع البخل هو المال.
والنهي عن الظن وأن البخل المالي فيه خير في قوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) يدل على النفي المؤكد، فالمعنى لَا يصح لهم أن يظنوا بأي حال من الأحوال أن ذلك البخل فيه خير لهم، بل فيه شر لهم، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن سبب البخل نسيان أصل المال، إذ أن البخيل يحسب أن ما يأتي إليه من مال إنما هو بجهوده وكسبه فقط، وليس فضلا من الله، وينسى أن الله سبحانه وتعالى هو المعطي المانع، وأنه يرزق من يشاء بغير حساب، وأن الرجلين يسعيان ويتخذان الأسباب، فتأتي جائحة لهذا تأكل الأخضر واليابس، وينجو مال ذاك، والله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، ولذا بين الله سبحانه أن المال الذي يجيء إليهم إنما هو بفضل من الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال:(يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّه مِن فَضْلِهِ)، فهو يبين لهم أن المال مال الله تعالى، وأن الله تعالى يعطي من يشاء، ويمنع من " يشاء.
والضمير في قوله تعالى: (هُوَ خَيْرًا لَّهُم) تأكيد لمعنى البخل المفهوم من قوله تعالى (يَبْخَلُونَ)، ونرى أن الضمير ضمير الفصل لتأكيد نفي الظن في الخيرية.
وقد بين سبحانه أنه شر لهم، فقال سبحانه:(بَلْ هُوَ شَرٌّ لهُمْ) وفي إعادة الضمير، وذكر الجملة الاسمية تأكيد لمعنى الشر في البخل، والبخل شر في الدنيا وفى الآخرة؛ وذلك لأنه يدفع إلى الحقد في الدنيا، والحقد في الآحاد يؤدي إلى النزاع المستمر، وتقطع العلاقات الأدبية، وهو في الجماعات يؤدي إلى الخراب والدمار. ولقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم "(1).
(سَيطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) التطويق إما من الطاقة، والمعنى سيكلفون أقصى ما يطيقون ليخسروا المال الذي بخلوا به يوم القيامة، ولكنهم لا يملكون في هذا اليوم من أمرهم شيئا، فلا يستجيبون لنداء، ولا لكلام، لأنهم لا يستطيعون، وذلك على حد قوله تعالى:(يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ).
وقد يكون وهو الأرجح من الطوق، والمعنى أنه سيكون ما بخلوا به طوقا في أعناقهم، وغِلا فيها يشعرهم بما كان منهم في الدنيا، وهو طوق مؤلم، مَثَلهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بثعبان، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له شجاعا (2) أقرع له زبيبتان يطوَّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه (3) يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا قوله تعالى: (سَيطَوَّقُونَ مَا بَخلُوا به يَوْمَ الْقِيَامَةِ) "(4).
(1) رواه مسلم: البر والصلة والآداب - تحريم الظلم (4675) عن جابر رضي الله عنه.
(2)
قال الإمام رحمه الله: الشجاع: هو الثعبان الذكر الذي يقوم على ذنبه ويوائب الراجل والفارس.
والأقرع هو الذي يكون أملس الجلد كثير السم، والزبيتان علامتان سوداوان فوق عينيه، وهما تكونان الأخبث الحيات.
(3)
اللهزمتان بكسر اللام والزاى: شدقاه.
(4)
رواه البخاري: الزكاة - إثم مانع الزكاة (1315). كما رواه النسائي: الزكاة - مانع زكاة ماله (2436)، وأحمد - باقي مسند المكثرين (7307) كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والنص القرآني والحديث النبوي استعارة تمثيلية لإحاطة البخل بصاحبه يوم القيامة، وإنها إحاطة إيلام، وفيها بيان أن السعادة الوقتية للاكتناز والبخل في الدنيا ستكون يوم القيامة بؤسا شديدا، وشقوة وإيلاما.
بهذا النص الكريم تبين قبح البخل، ويتبين مقام الإنفاق في سبيل الله ولكن ما حد البخل؛ وما حد السرف؟ وبهذين الحدين يتبين الإنفاق الحلال والقصد.
لقد قرر العلماء أن الإنفاق في سبيل الله تعالى لَا إسراف فيه قط، ولو كان بكل المال وأنه يروى أن عمر بن الخطاب تبرع في إحدى الغزوات بنصف ماله، وأن أبا بكر الصديق تبرع بكل ماله، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:" ما أبقيت لأهلك؟ " فقال صديق هذه الأمة: " الله ورسوله "(1) وقد كان ذو النورين عثمان بن عفان يجهز الجيش كله أحيانا، كما فعل في ساعة العسرة، ولم يعد ذلك إسرافا.
وقد اتفقوا أيضا على أن الامتناع عن الإنفاق في سبيل الله تعالى في عسرة الدولة، ومداهمة الأعداء لها، بخل بل هو أقبح البخل وأشده، ولذلك أجاز الفقهاء فرض ضرائب إذا داهمت الأمة الإسلامية الأعداء وامتنع الأغنياء عن الإنفاق، وهذا النوع من البخل هو المقصود بهذا النص الكريم.
وقد اتفقوا أيضا على أن كل درهم ينفق في معصية هو إسراف، والخلاصة أن الحد ما بين الإسراف والبخل هو الإنفاق في غير ما أمر الله تعالى، ولذلك يقول ابن عباس: إنفاق ألف في سبيل الله لَا يكون إسرافا، وإنفاق درهم في معصية يكون إسرافا.
(وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) هذا النص الكريم يفيد أربعة معان تؤكد وجوب الإنفاق في سبيل الخير، والجهاد في سبيل الله تعالى:
(1) رواه الترمذي وقالَ هَذَا حَديث حسن صَحيح: كتاب المناقب - في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (3608). كما روَاه أبو داود في الزكاة - في الرخصة في ذلك (1429)، والدارمي: الرجل يتصدق بجميع ما عنده (1601)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (باب لَا صَدَقةَ إِلا عَن ظَهر غِنى).