المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بالمغفرة من رضحون الله تعالى، فإن الله تعالى لَا يغفر - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: بالمغفرة من رضحون الله تعالى، فإن الله تعالى لَا يغفر

بالمغفرة من رضحون الله تعالى، فإن الله تعالى لَا يغفر إلا لمن يرضى عنه، ويذهب عنه سخطه سبحانه وتعالى، ففي الوعد بالمغفرة نعمة الغفران، ونعمة الرضوان، وهو أكبر.

الأمر الثاني - الرحمة من الله تعالى، ورحمة الله تعالى تتضمن الثواب، والنعيم المقيم يوم القيامة، وذكر رحمة الله تعالى في هذا المقام لكيلا تذهب نفوس المؤمنين حسرة على ما ماتوا منهم، فإنهم ليسوا في شقاء بل هم في نعيم، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169).

وهنا بحوث ثلاثة حول هذا النص الكريم:

أولها: أنه سبحانه وتعالى صرح بأن مغفرته ورحمته خير مما يجمع المشركون من أموال وعقار وكل أغراض الدنيا، ويقول ابن عباس فيما روي عنه من تفسير:(خير من طلائع الأرض ذهبة حمراء) أي خير من ملء الأرض ذهب أحمر، و " خير " أفعل تفضيل، وهو هنا ليس على بابه فإن الخيرية في مغفرة الله تعالى، ولا خيرية فيما يكنزون، فإنها تُكوَى بها جباههم وجنوبهم، أو تقول أفعل التفضيل على بابه، ويكون المراد من الخير مطلق النفع، ولا شك أن رحمة الله ومغفرته أنفع لأنهما أبقى.

ثانيها: أنه ذكر أن الموت قد يكون في سبيل الله وذلك إذا كان المؤمن يعيش طول حياته مخلصا لله وللحق وللمعرفة والهداية يحب الشيء لَا يحبه إلا لله تعالى، وكان الله ورسوله أحب إليه من نفسه، فإن من يكون كذلك يعيش لله وفى سبيل الله ويموت في سبيل الله.

ثالثها: أنه قدم (قُتلتم) في هذا المقام لأنه المناسب؛ لأن الكلام الكريم في أعقاب مقتلة أصابت المسلمين وأصابهم هم بسببها فناسب تقديم (قتلتم) على (متم) وإن الخطاب هنا للمؤمنينِ الذين جاهدوا، وهو مبين لجزائهم وقال سبحانه:

* * *

ص: 1472

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‌

(158)

* * *

ص: 1472

الخطاب الأول للتبشير بالنسبة للمجاهدين كما أشرنا والخطاب هنا يعم المجاهدين وغيرهم، ولذا قدم فيه (متم) على (قتلتم)، وبين أن الجميع سيلقون ربهم، وأنهم سيحشرون إليه، أي سيجمعون جميعا يوم الحشر مسوقين إليه سبحانه وتعالى، والتعبير بالحشر إشارة إلى أن الجميع يجتمعون لَا يفلت منهم أحد، فالمنافقون والمشركون والمؤمنون الذين قتلوا والذين نجوا مجموعون عند ربهم، وسيلقاهم، وسيحاسب كل امرئٍ بما كسب، للمجاهدين مقامهم، ولغيرهم مهواهم الذي هووا إليه، ففي هذا إنذار وتبشير وتذكير بلقاء الله العلي الكبير، اللهم هب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الغفور الرحيم.

* * *

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

* * *

بين سبحانه حال المؤمنين قبيل المعركة في غزوة أحد، وبعدها، وفي أثنائها وما أصابهم من غم، ثم بين سبحانه دواء أسقامهم، ودعاهم إلى استئناف الجهاد، وإن يكونوا قد مسهم قرح، فقد مسَّ القوم قرح مثله، وقد بين سبحانه أسباب الهزيمة ليتوقوها، فإن الغلط الذي يعلِّم الصواب خير، وليس بِشَرّ، ولقد بين بعد ذلك سبحانه حال النبي صلى الله عليه وسلم في القيادة الحكيمة، وما اتبعه وما تحلى به، وأمره سبحانه وتعالى بالاستمرار عليها، فبين سبحانه أن القيادة الحكيمة تكون مع العزيمة رحيمة، ومع استقبال الأحداث بقوة تكون خالية من الفظاظة والقسوة، وتلتزم الصفح عن الخطأ ليعتزموا الصواب، والاستغفار من الذنب لتجدد التوبة،

ص: 1473

ولذا قال تعالى في حال النبي صلى الله عليه وسلم، وما انبعث منه في موقفه يوم أحد، فقال تعالت كلماته:

ص: 1474

(فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللَّه لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

" الباء " هنا باء السببية، و " ما " زائدة في الإعراب، ولكنها في المعنى لتقوية معنى الرحمة، والمعنى: بسبب رحمة أي رحمة عظيمة فياضة أفاضها المولى العلي القدير كنت لئنا معهم في كل أحوالك، وكنت لينا لهم بعد الأخطاء التي وقعوا فيها، والكارثة التي نتجت عن مخالفتك، فما لمُتَهُم، ولا عنَّفْتَهم بل سكت حيث رأيت ما أصابهم من غم استغرقهم، وحزن استولى عليهم، ولقد شكر الله سبحانه وتعالى لنبيه ذلك اللين؛ إذ لم يؤاخذهم، ولم يفرط في القول معهم؛ لأن اللوم على الماضي يُيئس النفس من غير جدوى، وهو رجعة إلى الوراء، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل أمامه، وبمقدار ما يجنبه خطأ وقع فيه، وبمقدار ما يحفز همة من معه، ويشحذ عزيمتهم، وإن المبالغة في اللوم على ما وقع في الماضي يلقى باليأس، وفي اليأس الهزيمة، واليأس والقنوط إسراف على النفس بالهموم، ولا نجاح لمن في هم دائم، وحزن واصب، فكان لين النبي صلى الله عليه وسلم معهم في هذه الآلام التي أصابتهم كالبلسم الشافي لأسقامهم، والقائد الماهر الحكيم يجب أن يجمع إلى العزيمة القوية الموجهة إلى العمل البِشْر ولين العريكة، وتسهيل الخروج من أوضار الخطأ، حتى لَا يعنتهم ولا يبهظهم (1)، وحسبُهم ما أصابهم، وإن الشدة في مثل هذه الأحوال والغلظة في القول والعمل تنفر ولا تجمِع، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله:(وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حولِكَ).

وهذا النص الكريم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فظا ولا غليظا ولا قاسيا؛ لأن (لو) تدل على نفي الجواب لنفي الشرط، والمعنى أنك لست فظا ولا غليظ

(1) بهَظَه الحِمل: أثقله وعجز عنه، فهو مبهوظ، وأمر باهظ: أي شاق. الصحاح - بهظ.

ص: 1474

القلب، وهذا هو الذي يتفق مع صفات النبوة والقيادة الحكيمة الرشيدة الهادية الموجهة إلى أمثل الطرق الجامعة للقلوب، لأنك لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. والفظاظة خشونة المظهر، والعشرة السيئة، وسوء القول، وتجهُّم الوجه، وغلظ القلب قسوته، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نبيه الغلظة في المظهر والباطن، فالغلظة في المظهر هي الفظاظة، والغلظة في الباطن قسوة القلب وكلا الوضعين من شأنه أن ينفر، ولقد قال الله تعالى في وصف نبيه:(لَقَدْ جَاءَكمْ رَسولٌ منْ أَنفسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحِيمٌ). وكان النبي صلى الله عليه وسلم باشًّا لطيف المعشر متسامحا رحيما لَا يقسو ولا يعنِّت أحدا ولا يغضب ولا يسْب، وما ضرب أحدا بيده قط، وكان سهلا في معاملاته متسامحا، وكان طلق الوجه دائما، رآه أعرابي، فاسترعاه بشاشته وطلق محياه فقال له: أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب؟ والله ما هذا الوجه بوجه كذاب!. وأسلم إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم.

ولقد وصف عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:(إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح)(1). وكان عليه الصلاة والسلام لَا يثير غيظه شيء، ويداري الناس إلا أن يكون في المداراة حق مضيع، ولقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض "(2).

وإذا كانت الغلظة منفرة فالعفو جامع، ولذلك أمر الله تعالى نبيه الكريم بما يترتب على الرفق والبشاشة، وهو العفو فقال:(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمرِ).

(1) رواه بنحوه البخاري: تفسير القرآن - (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)(4461)، والدارمي: المقدمة - صفة النبي صلى الله عليه وسلم (6)، وأحمد مسند المكثرين (6333) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(2)

جمع الجوامع (4713)، والسلسلة الضعيفة للألباني (810)، والفتح الكبير ج 1، ص 269، وكنز العمال جزء 1، ص.51.

ص: 1475

الفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يترتب على اتصافك بالعفو والرحمة والبشاشة، والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب أن تكون عفوا، ولذا أمره سبحانه بالعفو عن المخالفة التي وقعوا فيها، وترتب عليها ما ترتب من هزيمة وفوات فرصة، وإن العفو في هذه الحال ليس للرحمة فقط، بل هو للمصلحة أيضا؛ لأنه يشحذ العزائم، إذ هو يقيل من العثرة، ويرفع من الكبوة، وعندئذ تستقيم القلوب نحو الحق، كما قامت الأجسام بعد الوقوع.

وأمره سبحانه بأن يستغفر لهم، بأن يطلب من الله أن يغفر لهم ما أساءوا، وأن يغفر هو لهم هذا الخطأ، وإن في استغفاره الله تعالى لهم، وإعلانه ذلك الاستغفار بينهم تأكيدا لعفوه، وتشجيعا، وضراعة إليه سبحانه أن يجعل حاضرهم وقابلهم خيرا من ماضيهم الذي أخطأوا فيه.

وقد أمر نبيه بأمر ثالث، وهو أن يشاورهم، وإن المشاورة من بعد ما كان منهم دليل على عفو النبي صلى الله عليه وسلم بعد عفو الله تعالى وغفرانه؛ لأن مما أخطأوا فيه في الماضي أن النبي صلى الله عليه وسلم شاورهم في أمر الخروج إلى لقاء المشركين في أحد، وأنه كان يميل إلى البقاء حتى يدخلوا المدينة، وشبابهم كان يريد الخروج، فنزل عليه الصلاة والسلام عند رأيهم، ثم كان ما كان منهم من أن طائفتين همَّتا بأن تفشلا، ثم ما كان من خروج الرماة عن مواقفهم، ولو بقوا في المدينة ما وقع هذا، ولكن الله سبحانه مع ذلك أمره بمشاورتهم للإعلان عن سماحته المطلقة، ولأن المشاورة إن أخطأت فيها النتيجة مرة، فصوابها كثير.

والشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، قد التزمها النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر كان يمس أمور المسلمين العامة فقد استشار في غزوة بدر قبل وقوعها، واستشار في الأسارى غِبَّ وقوعها، واستشار في أحد، واستشار في غزوة الأحزاب، وكان من نتائج الشورى حفر الخندق والتحصن وراءه، واستشار في القتال يوم الحديبية، والتزم أبو بكر ومن بعده عمر الشورى، وما اضطرب حبل الأمور من بعد إلا عندما منعت أمر الشورى.

ص: 1476

والأمر الذي وجه للنبي صلى الله عليه وسلم في الشورى قال بعضهم إنه أمر إلزام، وقال آخرون إنه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليس أمر إلزام، بل طلب استحباب، ولكن الأكثرين على أنه أمر إلزام، بدليل التزام النبي صلى الله عليه وسلم للمشاورة في كل أمر يمس مصلحة المسلمين في السلم أو في الحرب، ولم يكن تبليغا لرسالة ربه؛ وإن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تعليم لنا.

ومن المتفق عليه أن الشورى لازمة بالنسبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى:(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهمْ. . .)، أي الأمر الجامع للمسلمين يكون بالشورى وتبادل الآراء، والتعاون والإخلاص في القول، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم "(1). والنصيحة لعامة المؤمنين هي بالشورى التي تُبْدَى فيها الآراء لله وحده، لَا لشيء سواه، ولا لطلب الجاه عند الناس. ولقد قال البخاري:" وكان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها "(2).

ومع اتفاق الفقهاء على أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام لم نجد نصا قرآنيا وضع منهاجا لها، ولم نجد النبي صلى الله عليه وسلم وضح أسسها وطرائقها، نعم إنه كان يستشير من معه من أهل المدينة، وكذلك كان يفعل الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلماذا لم يبين ذلك في كتاب ولا سنة؛ والجواب عن ذلك أن مناهج الشورى تختلف باختلاف الجماعات وباختلاف الأحوال، وباختلاف الموضوعات ولا يوجد نظام ضابط لكل ذلك، بل ترك سن النظام للناس، ولابد أن يتحقق معنى الشورى في النظام على أن يكون أهل الشورى من ذوي العلم والخبرة، ففي أمور الحروب يستشار أهل الحرب، وفي أمور القانون يستشار الفقهاء

(1) رواه مسلم: الأيمان - الدين النصيحة (55)، وذكره البخاري في الترجمة: الإيمان - الدين النصيحة، كما رواه النسائي: البيعة - النصيحة للإمام (4126)، والترمذي: البر والصلة - ما جاء في النصيحة (1849) عن تميم الداري رضي الله عنه.

(2)

من كلام البخاري في ترجمة باب: الاعتصام بالكتاب والسنة - (بَاب قَوْل اللَّه تَعَالَى: وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنهمْ، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر).

ص: 1477

والمشرعون، وفي أمور العمران يستشار أهل الهندسة، ولذلك تتألف اللجان في المجالس النيابية من أهل الخبرة في كل أمر من أمور العامة.

وفى الجملة فإن الشورى مطلب كالعدل، يجب تحققه من أقرب الوسائل إليه توصيلا، ولقد جاء في تفسير القرطبي ما نصه:

" والشورى بركة، وقال عليه الصلاة والسلام: " ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار " (1) وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما شقي قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأي "(2).

وإنه يجب أن نعلم حقيقتين ثابتتين:

أولاهما: أن الشورى إحساس نفسي من الحاكم يدفعه إلى طلب أمثل الطرق للحكم وتحقيق العدالة والمصلحة، فإن لم يكن في الحاكم ذلك الخلق، فإنه لا ينتفع بأي نظام للشورى مهما يكن، وإذا لم يكن المستشار يحس بأن إبداء القول في الشورى واجب عليه وليس مجرد حق له فإنه لَا يمكن أن يكون من رجال الشورى.

ثانيهما: أنه لَا يعادي الشورى من الحكام إلا أحد اثنين إما رجل قد أصابه داء الغرور، فظن أن قوله الحق الذي لَا يخالطه باطل، وإما رجل يخاف من اطلاع الناس حتى لَا يظهر شيء من أموره.

والمشاورة لها وقت معلوم، وهو وقت الدراسة والفحص، فإذا تمت المشاورة وجب الأخذ بالعزيمة في الأمر والإقدام على العمل، ولذا قال سبحانه بعد الأمر بالشورى:(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

(1) جاء في مجمع الزوائد: ج 8 ص 181 (7531) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلاً نَدمَ مَنِ اسْتَشَارَ، وَلاً عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ ". رواه الطبراني في الأوسط والصغير من طريق عبد السلام بن عبدَ القدوس، وكلاهما ضعيف جداً.

(2)

القضاعي في مسند الشهاب: ج 2، ص 6 (773) عن سهل ابن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما شقي عبد قط بمشورة، وما سعد باستغناء برأي، يقول الله تعالى -. (وشاورهم في الأمر) وقال تعالى (وأمرهم شورى بينهم).

ص: 1478

العزيمة عقد النية على إتمام الأمر بعد الاستشارة، والنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لتحقق العزم سبق الاستشارة فاعتبر الشورى ركنا من أركان العزم، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن العزم، فقال:" مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم "(1). وفي النص القرآني الكريم، والحديث النبوي الشريف إشارة إلى أنه بعد تعرف كل وجوه الرأي يكون الاعتزام ثم يكون العمل، ولا يصح أن تكون مشاورة أخرى بعد الدراسة العميقة السابقة إلا إذا جد أمر لم يكن في الحسبان ولم يكن في تقدير الذين استشيروا أولا فإنه يعاد النظر إليهم، وفي غير هذه الصورة تكون العودة إلى الاستشارة ترددا يدعو إلى الهزيمة والاضطراب، ولا يصح أن يكون التعصب لرأي إذا لم يؤخذ به باعثا على إعادة النظر، فإن ذلك استبداد من أصحاب هذا الرأي، وفوضى في الشورى؛ لأن ما يعتزم من آراء بعد الشورى هو رأى الجميع، ويجب أن يفنى معه كل رأى معارض وإن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه في غزوة أحد كان يرى البقاء في المدينة حتى يجيء إليها المشركون فيضيعوا في طرقها وأزقتها، وتكون الدور حصونا يرمون منها ولكن الكثرة رأت غيره، فنزل على رأيها، وأمضى الأمر، ولما وجدت حركة تدعو إلى رأيه وتكونت له كثرة، قال الرسول الحازم الرشيد:" لا ينبغي لنبي يلبس لأْمَته أن يضعها، حتى يحكم الله "(2) واللأمة: الدرع أو السلاح.

ولقد أمر سبحانه وتعالى بالتوكل بعد المشاورة وأخذ الأهبة، وأن يكون التوكل مصاحبا للعزيمة والإقدام على العمل، وإن ذلك يستفاد منه أن التوكل على الله تعالى حق التوكل لابد أن يقترن بالعمل، وأن يسبقه دراسة للموضوع من كل نواحيه، وإن التوكل بعد ذلك أمر لابد منه؛ لأن العلم بالحق الأمثل من المناهج والأعمال عند علام الغيوب، فمهما يكن علم الإنسان فهو ناقص، فالتوكل عليه سبحانه فيه معنى الشعور بالنقص الإنساني مهما يظهر كماله، ولأن

(1) أورده السيوطي في الدر المنثورج 2 ص 357.

(2)

سبق تخريجه قريبا.

ص: 1479