المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بوضرها (1) ويوجهها نحو الخير، ومعنى يمحص قلوبكم، يزيل ما - زهرة التفاسير - جـ ٣

[محمد أبو زهرة]

الفصل: بوضرها (1) ويوجهها نحو الخير، ومعنى يمحص قلوبكم، يزيل ما

بوضرها (1) ويوجهها نحو الخير، ومعنى يمحص قلوبكم، يزيل ما عساه يعلق بها من أدران، ويطهرها مما يخالطها من ريب يحدث من الشدائد، وذلك لأن مَحَصَ ومَحَّصَ في أصل معناهما تخليص الذهب مما يختلط به من مواد غريبة عنه.

وخلاصة معنى النص الكريم: نزل بكم ما نزل لتتعودوا تحمل الشدائد والمحن، وليظهر الله ما في صدوركم فيصلحها، ويخرج من قلوبكم ما يخالط الإيمان من بعض الأوهام.

(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وهو إذ يفعل ذلك يعلم بما في صدوركم، يعلم ما يخالطها وما توسوس به ويعلم مَوَاضع أدوائها، وما تنطوي عليه نفوس الأبرار الأقوياء، ونفوس الضعفاء ونفوس الأشرار، وقد أكد سبحانه وتعالى علمه بخفايا النفوس، بثلاثة تأكيدات: التأكيد الأول - التعبير بالجملة الاسمية، والثاني - التعبير بوصف عليم، فهو يعلم صغائر الأمور وجليلها، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، والثالث - التعبير بذات الصدور، فهذا من قبيل ما يشبه التأكيد المعنوي، فمعناه يعلم الصدور ذاتها، فلا يقتصر علمه على ما في الوعاء، بل يعلم الوعاء ذاته، ولقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة بعد ذكر بيان السبب في الذنب، فقال تعالت كلماته:

* * *

(1) الوَضَرُ، محرَّكةً: وسَخُ الدَّسَم واللبنِ، أو غُسالَةُ السقاء والقَصْعَة ونحوِهما، وما تَشُمّه من ريح تَجِدُها من طَعامٍ فاسدٍ. [القاموس المحيط - فصل الواو - وضَر]. والمقصَود هنا آَثار الذنوب والأوزار.

ص: 1465

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا

(155)

* * *

التولي يستعمل بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار، فإن كان متعديا بنفسه كان بمعنى الإقبال، ومن ذلك قوله تعالى:(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .)، و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَولَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. . .).

وإذا كانت متعدية بـ " عن " أو غير متعدية أصلا كانت بمعنى الإعراض ومنه الإدبار عن الزحف والأمر في وقته، وهي هنا لذلك، والتولي الذي وقع فيه أولئك الذين ذكرهم سبحانه يوم التقى الجمعان كان في أحد ويشمل

ص: 1465

فريقين: أحدهما الذين أقبلوا على الغنيمة وتركوا مواقعهم من الرماية فأُولئك بتركهم مواقعهم وإقبالهم على الغنيمة كانوا مدبرين يشبهون الفارين (والفريق الثاني) الذين فروا من القتال يوم أن اضطربت الموقعة وأصيب المؤمنون بجراح، وكانت فيهم مقتلتهم. وقد ذكر سبحانه السبب فقال تعالى:(إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كسَبُوا) ومعنى استزلهم الشيطان طلب لهم الزلل وسهله لهم ببعض ما كسبوا من صغائر؛ فإن تضافر الصغائر، وطلب الدنيا من شأنه أن يسهل ارتكاب الخطايا فإن النفس تمرد عليها (1) وتسير في طريقها، ولقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني: استزله إذا تحري زلته. وقوله تعالى: (إِنَّمَا اسْتَزَلًهُمُ الشَّيْطَانُ) أي استخرجهم حتى زلوا فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه، ومعنى هذا أن الشيطان لَا يفتح معاقل النفس، ويغزو مواضع الفضيلة، إلا بالصغائر التي تسهل الرذائل، فإذا فتح النفس من هذا المعقل هجم بكل أسلحته، فتحكم الهوى والشيطان واستضعفت النفس وذلت، وأحاطت بها الخطايا، وسدت عنها منافذ الهداية والنور.

والمعنى الجملي أن أولئك الذين كانوا سبب تلك الجراح أو فروا من الموقعة قد وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب أن نفوسهم لم تتجه إلى الله بكليتها ولهذا استزلهم الشيطان، وأمامهم الفرصة لتطهير نفوسهم، وقد أعلن سبحانه العفو عنهم فقال:(وَلَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهمْ إِنً اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

وقد أكد سبحانه عفوه بأربعة تأكيدات أولها: باللام فهي تنبئ عن القسم، والثاني: قد، فإنها تفيد تأكيد تحقق القول، والثالث: وصف الله تعالى بالمغفرة فإنه يؤكد أن العفو شأن في شئونه سبحانه، والرابع: الوصف بالحلم فإنه سبحانه لَا يسارع بالعقاب: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ. . .).

(1) المرود على الشيء: المرون عليه. الصحاح. ومنه قوله تعالى في سورة التوبة (101): (مَرَدوا عَلَى النفَاقِ) أي مرنوا عليه وأقاموا فلم يتوبوا.

ص: 1466

وقد أكد سبحانه أمر العفو، لتذهب عن نفوسهم حيرتها، ولتنخلع من الماضي ولتستقبل الحاضر والمستقبل بقلب جريء ثابت، ولتشعر بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده.

ربنا اعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

* * *

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)

* * *

ما زالت النصوص القرآنية الكريمة تذكر العبر في هزيمة أُحُد، وكأن هذه الهزيمة التي لم تكن فاصلة، بل رجع فيها المنتصرون لم يلووا على شيء - فيها دروس فائدتها أكبر من فائدة النصر، وفيها كشف لأحوال نفسية، ومعرفتها ذريعة إلى الاستمرار على القتال والانتصار فيه، وفي هذه الآيات بين الله سبحانه وتعالى الفرق بين النفس المؤمنة إذا فقدت أحبابها أو أصفياءها في جهاد أو ما يشبهه، والنفس الكافرة إذا أصيبت بمثل هذه الإصابة، وفي هذه الآيات أيضا يبين سبحانه أن النظر إلى الماضي المؤلم من غير الاقتصار على الاعتبار يؤدي إلى الحسرة والحزن الدائم، فالنفس الدبرية التي تلاحقها دائما بآلام الماضي لَا تسعد في ذاتها، ولا تتأهب لعمل يحتاج إلى تضافر الهمم وتحفز العزائم، فإن تقرِّحُ القلب بآلام

ص: 1467

الماضي كفرٌ بالله، وعدم تفويض إليه سبحانه، وعدم إيمان بالمستقبل الذي يكون يوم القيامة، ويكون الأمر فيه كله لله تعالى، وإن هذه الروح الدبرية هي روحِ الكافرين، وقد نهى الله سبحانه عن أن يكونوا مثلهم، فقال تعالى:

ص: 1468

(يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ. . .).

الخطاب واضح بأنه للمؤمنين الصادقي الإيمان، وهو نهي عن التشبه بالذين كفروا، في حالهم التي يبينها سبحانه وتعالى، وفي التعبير بالذين كفروا إشارة إلى أن الجزع للحاضر أو الماضي، والالتفات إلى الماضي، والنظر إلى وجوب تغييره، وقد سجل في الوجود، وأصبح لَا سبيل إلى تغييره؛ لأن ما وقع لَا يكون - كل هذا من شأن الكافرين الذين يأسرهم ما يقع، ويتخذون " لو " التي هي سبيل الشيطان دائما وسواسا لنفوسهم، يكررون ما كان يجب، وقد وقع ما وجب، والبصير الذي آتاه الله نعمة الهداية والتوفيق لَا يفكر إلا فيما يجب في المستقبل على ضوء ما وقع في الماضي وصيغة النهي التي عبر بها سبحانه:(لاتَكونوا كَالَّذِينَ كَفَروا) تفيد تباعد ما بين المقامين: مقام الإيمان، ومنزل الكفران، وأنه لا يصح بالمؤمن أن ينزل إلى المرتبة الدون، بعد أن علا بالإيمان إلى مقام الأعلين الأبرار، وفي هذا تقبيح المنهي عنه بأبلغ تعبير، وأرق تصوير؛ إذ حسب الذين أهمتهم أنفسهم، وقالوا عن إخوانهم في حال يأس مستولٍ:(لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنَا هَا هُنَا. .)، أن يكونوا في هذا كالذين كفروا؛ إذ يوسوس إليهم الجزع بأن يقولوا مثل هذه المقالة - حتى يبتعد المؤمنون عنها، ويجانبوها كل المجانبة، والأمر نهي عن المماثلة فيما حكاه سبحانه يقول:(وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا).

ضربوا في الأرض معناها سافروا وأبعدوا في السفر، ولم يكن سفرا قاصدا، بل كان سفرهم فيه مشقة وجهد، وتعرض فيه المسافر للأذى. وغُزًّى: جمع غاز، كراكع ورُكَّع، وصائم وصُوَّم، ونائم ونُوَّم، وشاهد وشُهَّد، وغائب وغُيَّب، واللام في قوله تعالى:(لإِخْوَانِهِمْ) إما أن تكون دالة على موضع

ص: 1468

الخطاب، ويكون المعنى أن هؤلاء الذين كفروا لفرط جزعهم على الذين فقدوهم يقولون لإخوانهم الأحياء: لو كانوا مقيمين معنا، وملازمين بيوتهم، ولم يضربوا في الأرض ولم يغزوا فيها ما ماتوا وما قتلوا، فالأحياء يتبادلون الكلام في شأن الذين قتلوا أو ماتوا.

ويقول الزمخشري: إن اللام هنا ليست دالة على الخطاب، إنما هي للتعليل، والمعنى: يقول أولئك الذين نجوا لأجل ما فقدوه من إخوانهم، تحسرا وأسفا عليهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

وهذا القول ينبعث من قلوب غير مؤمنة يسيطر عليها غم حاضر وهم غابر، وهو يدل على ضيق العقول، ومصادمة لكل معقول تحت تأثير الهوى الجامح المسيطر، فإنهم ما داموا قد خرجوا مختارين، فليس لكلمة " لو " مقام بعد ذلك في اعتبارهم، ثم إن هذا الكلام يضعف العزيمة، ويفتح القلوب للخور، فالمأسور بهزيمة الماضي لَا ينتصر في المستقبل، وفوق هذا فإن ذلك القول يدل على عدم تفويض الأمور لله سبحانه، فهو مسير كل شيء، وكل شيء عنده بمقدار، وعلى المؤمن أن يعمل ويجد، ويترك تقدير الأمور لرب العالمين، وما حاول إنسان أن يضبط شئون المستقبل كما يجب إلا أصابه الله سبحانه وتعالى بما يخالف تقديره، ويبطل تدبيره، وهذا القول لَا يصدر أيضا إلا عن قوم لَا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يرجون ما عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك ذكر سبحانه أنه من خواص الذين كفروا بالله واليوم الآخر، وإن تلك الحال اليائسة القاتلة شأن من شئون الذين يلحدون في الله دائما، وهي عقاب دنيوي لهم، ولذا قال سبحانه:(لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ).

اللام هنا هي التي تسمى لام العاقبة، وهي تدل على المآل، ولا تدل على التعليل الباعث، وذلك مثل قوله تعالى:(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. . .)، فإنه ما كان الباعث على الالتقاط هو أن يكون لهم عدوا وحزنا، بل كانت النتيجة هي العداوة.

ص: 1469

ويصح أن تكون اللام للتعليل، ويكون المعنى أن الله سبحانه وتعالى خلق الكفار على هذه الأخلاق اليائسة، أو قدر لهم هذه الأحوال الموئسة ليلقي الحسرة في قلوبهم، والغم في نفوسهم، والضلال بهذه الأقوال في عقولهم.

والحسرة هي الهم المعيي الكاشف للنفس الذي يلقي بالحزن المستمر فيها، وقد قال الأصبهاني في هذه المادة: " الحاسر من لَا درع له، والحاسر المُعْيا لانكشاف قواه، ويقال للمُعيا حاسر ومحسور، أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله عز وجل:(يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)، يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور، وقال تعالى:(فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)، والحسرة الغم على ما فاته، والندم عليه، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، وانحسرت قواه من فرط غم، وأدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه، قال تعالى:(لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قلُوبِهِمْ)(وَإنَّه لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ). ومن هذا يتبين أن معنى الحسرة يتضمن هما وحزنا وإعياء، وتكشفا للآلام يلقى تشاؤما وارتياعا وانزعاجا مستمرا.

والكلام السابق على أساس أن الحسرة نتيجة لقولهم واعتقادهم الفاسد، ذلك أنها تلقي في قلوبهم ضعفا وألما، فالسبب في الحسرة على هذا التوجيه من أنفسهم التي ركبها الله سبحانه وتعالى ذلك التركيب، ويصح أن تكون الحسرة نتيجة للنهي، وتكون اللام للتعليل، ولا تصلح أن تكون للنتيجة والمآل، ويكون المعنى على هذا: يَا أيُّهَا المؤمنون لَا تكونوا كالذين كفروا إذ يشغلهم الماضي ولا يفكرون في الحاضر، بل اتخذُوا من الماضي عبرة، وفوِّضوا الأمور إلى الله تعالى ليجعل الله لكم بهذا قوة، ويكون ذلك حسرة في قلوب الكافرين؛ إذ يرونكم مستبشرين بنعمة من الله وفضل. دائما، فلا تألمون لمن تفقدون، ولا تتخاذلون بمن يقتلون من صفوفكم، بل تأخذون الأهبة، وتتقدمون طالبين الشهادة أو النصر المؤزر، وذلك هو سبب الحسرة.

ص: 1470