الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الولاية للعزة والقدرة والسلطان والعلم، فلله وحده العزة والكبرياء في السماوات والأرض. وقد ذكر سبحانه شمول القدرة بعد شمول العلم؛ لأن القدرة الكاملة لا تكون إلا عن العلم الكامل، فكمال القدرة من مظاهر كمال العلم. ولقد قال الزمخشري في معنى هذا النص الكريم: " هذا بيان لقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) لأن نفسه، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات متصفة بعلم ذاتي، لَا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها، وبقدرة ذاتية لَا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدرات كلها، فكان حقها أن تحذر وتتقى، فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب، فإن ذلك مطلع عليه لَا محالة فلاحق به العقاب، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الاطلاع على أحواله فوكل همه بما يورد ويصدر، ونصب عليه عيونا، وبث من يتجسس على بواطن أموره، لأخذ حذره وتيقظ في أمره، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به، فما بال من علم أن العالم بالذات الذي يعلم السر وأخفى وهو آمن، اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك؛ ولقد بين سبحانه وقت تنفيذ عقوبته المؤكدة، وهو يوم القيامة، فقال:
* * *
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
(30)
المعنى الجملي للنص الكريم: خافوا الله واحذروه، واخشوا حسابه وعقابه، وارجوا ثوابه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ظاهرا ثابتا واضحا، كأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأي العين، وما عملت من شر معلوما كذلك كأنه رئي بالحس والبصر، وتود كل نفس أن لو يتأخر أمدا طويلا بعيدا، وذلك لأن ما يخافه الإنسان يتمنى أن يتأخر ويؤجل؛ ليكون عنده أطول فسحة من الأمان. وهنا عدة مباحث لفظية تجلي المعنى:
المبحث اللغوي الأول - متعلق (يَوْمَ تَجِدُ): لقد ذكر العلماء ثلاثة توجيهات؛ أولها ذكره الزمخشري أنه متعلق بـ " توَد " والمعنى: توَد كل نفس لو
أن بينها وبينه أمدا بعيدا أي زمنا طويلا وقت أن تجد كل ما عملت محضرا من خير أو سوء.
وهذا يؤدي إلى أن من عملت خيرا تود أمدا بعيدا، مع من عملت سوءا، مع أن رجاء الثواب يسوغ تمنى المسارعة لَا تمنى التأجيل؛ ولهذا لَا نوافق عليه.
والوجه الثاني: أنه متعلق بقوله تعالى: (وَيُحَذّرُكُم اللَّه نَفْسَهُ) بدليل قوله تعالى مكررا التحذير، فقال:(وَيُحَذِّرُكُم اللَّهُ نَفْسَه) مرة أخرى، ولكن يرد على هذا بعد القول، ومجيء جملة مستقلة بينهما، واختلاف القائل؛ فالأول من قول الله ئعالى والتحذير من الله، والثاني من قول النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله ولكن قد يرد هذا الاعتراض بأن قوله تعالى:(قُلْ إِن تخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) معترضة بين كلامين متلازمين للمسارعة بإثبات شمول علم الله تعالى وقدرته.
التوجيه الثالث: أنه متعلق بمحذوف تقديره: اذكروا، وهذا أسلمها في نظري.
المبحث اللغوي الثاني - قوله تعالى: (وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ) أهي معطوفة على (مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ) أم " ما " مبتدأ خبره " تود "؛ أظهر الأقوال أنها مبتدأ وجملة تود خبر، والمعنى: ما عملت: ما عملت من خير تجده محضرا، وما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمد بعيد.
المبحث الثالث - الأمد اسم للزمان كالأبد يتقاربان، لكن الأبد كما قال الأصفهاني مدة من الزمان ليس لها حد محدود، ولا يتقيد، فلا يقال: أبد كذا؛ أما الأمد فمدة لها حد مجهول، إذا لم يضف إلى غاية معينة، فإن أضيف كان محدودا بهذه الغاية. والمعنى أن النفس التي تجد عملها السعي محضرا تود لو يتأخر أمدا بعيدا، ولكن لَا تحقيق لهذا التمني.
ولقد كرر الله سبحانه التحذير من نفسه تذكيرا، وليكون في بال المؤمن دائما، ولبيان أن ذلك التحذير من دواعي الرحمة كما هو من تربية الرهبة، فهو
قد ذكر تمهيدا لقوله تعالى: (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) فتذكير العباد وتحذيرهم من رحمته بهم حتى لَا يؤخذوا أخذ عزيز مقتدر، وختمت الآية بهذا التذييل الكريم؛ لإثبات أن عقاب المسيء وثواب المحسن من الرحمة، فليس من الرحمة في شيء أن يتساوى المحسن والمسيء، ولإثبات أن ولاء المؤمنين ومعاداة الكافرين من الرحمة بالعباد، حتى لَا يعم الظلم وينتشر الفساد. اللهم وحِّد الولاية الإسلامية، واجعل المسلمين جميعا بعضهم أولياء بعض.
* * *
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
* * *
يؤمن المؤمن رغبة في الثواب، ويؤمن المؤمن خوفا من العقاب، ويؤمن المؤمن إذعانا للحق، ومحبة للرب، وإخلاصا وخلاصا من أدران الهوى، ومآثم هذه الدنيا؛ وتلك أعلى المراتب، وأشرف المناصب، وبها يعلو المؤمن.
وفى الآية السابقة حذر الله المؤمن من نفسه، فقال:(وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) وقال: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) فكانت هذه الآية تدعو المؤمن إلى الطاعة ولزوم الجماعة بالترهيب، وفيها إشارة إلى الترغيب في قوله تعالى:(وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).
وفى هذه الآية يدعو إلى الطاعة لَا خوف العقاب ولا رجاء الثواب، ولكن لأن الطاعة تؤدي إلى أعلى منازل السائرين، وهي المحبة: محبة الله لعبده، ومحبة العبد لربه.
قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية المحبة:
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل سبحانه وتعالى الخطاب منه للنبي صلى الله عليه وسلم إليهم لبيان شرف النبوة وعلوها، ومكانة الاتصال بينها وبين الله سبحانه وتعالى، إذ جعل اتباع الرسول يكون من نتائجه محبة الله تعالى.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يخاطب بذلك ويقرره، وأن الله تعالى يمضي ما يقرره، علو بمقام الرسالة المحمدية، وبمقام النبوة؛ لأن فيه إشعارا بعظم محبة الله لنبيه، وأنها فوق كل محبة؛ فإذا كان من يتبعه يحبه، فهو إذن في أعلى درجات المحبة، ولأن فيه بيان أقوى الاتصال، لأن خطابه لهم هو خطاب من الله لهم، بدليل أن المحبة من الله تجيء نتيحة لاتباعه الذي دعا إليه صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) فيه إيجاز معجز، وهو إيجاز حذف دل عليه المقام؛ لأن المعنى: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني، وإن اتبعتموني يحببكم الله؛ لأن جواب فعل الأمر في معنى الجزاء، فكان ثمة فعل شرط مقدر، وإن هذه الجملة السامية تدل على ثلاثة أمور:
أولها: أن أول طوق محبة الله تعالى هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى جلت قدرته، وعصيان الرسول عصيان لله تعالى، وليس من المعقول أن يحب الله تعالى ويعصيه؛ ولذلك يقول الشاعر الصوفي:
تعصى الإلهَ وأنت تُظهر حُبَّهُ
…
هذا لعَمْرِي في القِيَاس بَدِيعُ
لو كانَ حُبُّك صادقًا لأطَعْتَهُ
…
إن المحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
الأمر الثاني الذي يدل عليه النص الكريم: أن الطاعة ومحبة العبد لربه يترتب عليهما حتما محبة الله سبحانه وتعالى لعبده. وأي منزلة للطاعة أسمى من أنه يتبعها حتما محبة الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث الذي يدل عليه النص القرآني: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أن من يصل إلى مرتبة المحبة التي تبتدئ بالطاعة وتنتهي بمحبة الله تعالى يغفر له الله
سبحانه وتعالى كل ما كان له من تقصير سابق وإثم قد جلته المحبة عن القلب؛ وذلك لأن السيئات أدران تعلق بالقلب، فإذا وصل إلى درجة محبة الله تعالى، بعد قيامه بحق الطاعات، انصهر قلبه بهذه المحبة، وإذا انصهر القلب بالمحبة زال عنه كل خبث ومحي كل درن، فصفا، والله سبحانه وتعالى يغفر لمن يصل إلى هذه المرتبة. ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله:(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ):
وصفان كريمان للذات العلية: أولهما أنه غفور؛ أي أنه كثير الغفران لعباده؛ لأن فعول تدل على المبالغة، ووصف الله تعالى نفسه بهذا الوصف للإشارة إلى أنه يحب من عباده الطاعة، ويحب من عباده التوبة، فهو ليس كحكام الدنيا الذين يفرضون العقاب ولا يتمنون لرعاياهم الخلاص منه، بل يتمنون إنزال العقوبة بهم، والله سبحانه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم يقبل التوبة عن عباده، ويحب المغفرة، ولذلك وصف بالتواب، فالعقاب ليس لذاته، ولكن لكيلا يتساوى المسيء بالمحسن، وليحمل المسيء على الطاعة ويستمر المحسن على إحسانه.
والوصف الثاني الذي وصف به ذاته العلية: أنه رحيم. وكان من رحمته أن قبل التوبة وغفر الذنب، ومن رحمته أنه أرسل الرسل بالبينات ليقيموا القسط بين الناس، وَيُعَلِّمُوا هذه الشرائع التي بها صلاح الدنيا، وبها تقوم على الخير والفضيلة، ولذا قال سبحانه وتعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وكان من رحمته أن سنَّ العقاب للمسيء المستمر على إساءته الموغل في الفساد، فإن من يفسد في الأرض يكون من الرحمة عقابه، ومن لا يرحم الناس كان من مقتضى الرحمة بالناس أن لَا يرحم؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من لَا يَرحم لَا يُرحم "(1).
(1) رواه البخاري: الأدب - رحمة الولد وتقبيله (5538)، ومسلم: الفضائل - رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال (4282).
وقبل أن نترك الكلام في هذه الآية الكريمة، لابد من الإشارة الواضحة إلى أمرين:
أولهما: في معنى الاتباع الذي يوجب المحبة، ومعنى ترتيب المحبة على الاتباع.
وثانيهما: التعريف بهذه المحبة التي يتصف بها العبد، وتترتب عليها محبة الله تعالى: أهي الطاعة أم شيء أعلى من الطاعة؛ وما محبة الله: أهي الرحمة أم أمر أعلى من الرحمة والإحسان، ولله الفضل والمنة في كل حال.
أما بالنسبة للأمر الأول؛ فإن النص الكريم (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) يفيد الطريق والغاية، أو الدليل والنتيجة؛ أما الطريق فهو اتباع الشريعة، وأما الغاية القصوى فهي محبة العبد لربه، ومحبة الرب لعبده، أي تبادل المحبة بين الخالق والمخلوق، وكل بما يليق به، وبما يتفق مع نوع وجوده؛ فواجب الوجود وذو الكمال المطلق جل جلاله محبته تليق بذاته العلية، وجائز الوجود الحادث المخلوق محبته حال يتفق مع حدوثه، ونقص وجوده.
وقد فصل الله الاتباع الذي يوجب المحبة السامية بعض التفصيل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ. . .).
فعلامات الاتباع التي يترتب عليها أن يحبهم الله ويحبوه، أربع:
أولها: أنهم أذلة على المؤمنين، وقد قال عطاء في هذا: إنهم للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته:(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. . .).
والعلامة الثانية: أنهم أعزة على الكافرين، أي لَا يخضعون للكافرين ولا يحالفونهم على المؤمنين، ولا يختارون أن يدخلوا في ولايتهم ويتركوا ولاية المؤمنين.
العلامة الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واللسان والمال، وذلك هو تحقيق دعوى المحبة.
والعلامة الرابعة: أنهم لَا يأخذهم في الله لومة لائم، وهذه علامة صحة المحبة، فكل محب أخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة (1).
تلك هي آيات الاتياع الذي يوجب هذه المحبة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان الذي يوجب هذه المحبة، فقال:" أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما "(2) وهذا الوصف هو الجامع لكل الأمارات التي لَا يند عنه (3) شيء منها.
هذا هو القول في الأمر الأول، وهو الاتباع الذي تترتب عليه المحبة. بقي أن نتكلم في الأمر الثاني وهو التعريف بالمحبة التي تكون من الله للعبد، والمحبة التي تكون من العبد لله تعالى:
أما محبة الله فحال من أحوال الذات العلية لَا نعرف كنهها، ولا ندرك حقيقتها وهي تليق بذاته الكريمة، وتتفق مع صفات الجلال والكمال التي يتصف بها واجب الوجود، والذي خلق بقدرته كل موجود، وهي غير الإحسان، وإن كانت من فضل الله، وغير الرحمة، وغير الرضا؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعلها لبعض عباده، والإحسان والرحمة يَعُمَّان كل موجود، والرضا وإن جعله جزاء أعلى للمحسنين، كما قال في جزاء المؤمنين بعد ذكر الجنات والنعيم المقيم:(وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .)، نجد المحبة أكثر منه. وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى فكان هذا دليلا على أنهما متغايران بالنسبة لذاته العلية، كما أن المدلول اللفظي لهما متغاير، وإن كانت المحبة تتضمن الرضا لَا محالة، بل إنها لا تكون إلا حيث يكون أقصى الرضا، هذه إشارة إلى محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم.
(1) جاء في هامش الأصل: راجع في هذا الجزء الثالث من " مدارج السالكين "، ابن قيم الجوزية، ص 14.
(2)
البخاري: الإيمان - حلاوة الايمان (15)، مسلم: الإيمان (60).
(3)
أي لَا يشرد. نَدَّ البعير يَنِدُّ نُدودا إِذا شَردَ. لسان العرب - باب النون - ندد.
وأما محبة العبد لربه، فقد قال الحارث المحاسبي في تعريفها بأنها الميل بكُلِّيته لربه، وإيثاره على نفسه وماله، ثم مرافقته له سرا وجهرا، ثم اعتقاده تقصيره في حقه مهما يؤدِّ من واجبات وطاعات.
ومحبة العبد لربه غير طاعته المجردة لأوامره ونواهيه، وإن كانت ملازمة للاتباع المطلق للأوامر والنواهي، وفي الحقيقة إن طاعة العبد لربه لها مرتبتان: أولاهما: الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والثانية: الطاعة محبة لله تعالى ولقد قال في هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في وصف بعض أصحابه " نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه ". ولقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين المتقين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)، فإن هذا النص الكريم دل على أن ثمة مقامين جليلين: مقام الطاعة رجاء الثواب وخوف العقاب، والطاعة بالتوسل إلى الله والتقرب منه، كما قال تعالى:(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) وهذا مقام الطاعة محبة وازدلافا إليه سبحانه، وهذه هي الوسيلة المبتغاة، والمحبة المرتجاة، وإن المحبة تقتضي الأنس بذكر الله تعالى، فتكون النفس ممتلئة بالسرور لقرب الله، ومعرفة الله، وكمال العبودية له، والشعور بكمال ألوهيته، حتى يستغرق ذلك كل حسه، وكل نفسه وقلبه، ولا يكون موضع لتذكر سواه.
والمحبة هي غاية التصوف العالي وسمته وعنوانه؛ ولذا يقول ابن القيم في مدارج السالكين: " المحبة سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم، الذين ركبوا جناح السفر إليه، ثم لم يفارقوه إلى حين اللقاء، وهم الذين قعدوا على الحقائق، وقعد من سواهم على الرسوم ".
والمحبة ثلاث درجات:
أولاها: استغراق النفس بذكر الله، فلا يرتفع إلى مقامه في القلب ذكر شيء سواه، ويصف الهروي في " منازل السائرين " تلك المحبة بأنها: تقطع الوساوس، وتسلي عن الصائب، وتثبت ئلك الدرجة من الشعور بقوة الله، ومن اتباع السنة المحمدية، والشعور بالحاجة والفاقة إليه تعالى.
والدرجة الثانية: وهي أعلى من هذه في درجات المحبة - هي التي يلهم فيها اللسان بذكر الله بعد امتلاء القلب، والجوارح بإيثار الحق، ويقول فيها ابن القيم:" فيها مطالعة الصفات، وشهود معاني آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة. وكل منها داع قوى إلى محبته سبحانه؛ لأنها أدلة على صفات كماله، ونعوت جلاله، وتوحيد ربوبيته وألوهيته، وعلى حكمته وبره وإحسانه، ولطفه وجوده، وكرمه وسعة رحمته، وسبوغ نعمه، فإدامة النظر فيها داع لَا محالة إلى محبته "(1).
والدرجة الثالثة: المحبة التي يكون فيها الشهود بنور القلب. وجاء في " منازل السائرين " في هذه المحبة (هذه المحبة هي قطب هذا الشأن، وما دونها محاب نادت عليها الألسن، وادعتها الخليقة وأوجبتها العقول).
هذه إشارات موجزة إلى ما يقوله أهل التصوف في المحبة بين العبد وربه، وقد قبسنا منها قبسة نرجو أن تضيء في هذا الموضوع، وإن كانت لَا تدفئ.
وإن العبرة في هذا الموضوع هي أن الشريعة لَا يصح أن تنسى حتى في أعلى مقام للمحبة، فإنها هي الدليل المرشد، والمصباح المنير لمن يريد أن يصل إلى درجة المحبة الحقيقية، وهي أعلى درجات الإيمان، وأقوى درجات الاتباع. فاتباع أحكام الشرع هو طريق المحبة عند أهل السنة الراشدين، وتنكب طريق الاتباع وادعاء الارتفاع عن التكليف هو مَخْرَف أهل الابتداع الضالين.
وإذا كان ذلك هو الحق، فإطاعة الله ورسوله هي فيصل التفرقة بين الحق والباطل وبين محبة الله ومحبة الضلال، وبين الإيمان والكفر، ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك:
(1)(مدارج السالكين) جـ 3 ص 25.
(قلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ).
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعوهم إلى طاعة الله وطاعته، وهو معنى الاتباع في الماضي، وتكرر الأمر بهذه الصيغة للإشارة إلى أن اتباع الرسول هو طاعة لله
ولل سول، فمن اتبع الرسول لايطيع الرسول فقط، بل يطيع الله رب العالمين، وما كان الرسول ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، والسبب في التكرار في ذاته هو تأكيد المعنى الذي قررناه، وهو أن محبة العبد للرب ليس لها طريق إلا الاتباع، ولذا يقول الزمخشري في الكشاف:" من ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب، وكتاب الله يكذبه، وإذا رأيت من يذكر محبته، ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب وينعر ويصفق، فلا تشك في أنه لَا يعرف ما الله، ولا يدري ما محبة الله. وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا لأنه تصور في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته ثم صفق وطرب ونعر وصعق على تصورها ".
وهنا إشارة بلاغية تتفق مع المقصد الأسمى من الآيتين الكريمتين، وهو إثبات أن محبة الله تعا أي طريقها المستقيم الذي لَا عوج فيه هو اتباع الرسول، وتلك الإشارة أنه سبحانه قال:(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) فقد ذكر الأمر بالإطاعة غير مكرر عند العطف، فلم يقل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وعدم التكرار يومئ إلى أن الطاعة واحدة، وأن إطاعة الرسول إطاعة لله تعالى، كما صرح سبحانه وتعالى بذلك في قوله تعالى:(مَن يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)، وإن من إعجاز القرآن الكريم أن تكون العبارات والإشارات البيانية كلها تتجه إلى مقصد النص الكريم وترشح له.
(فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) أي فإن أعرضوا عن اتباع ما تدعوهم وهو اتباعك الذي به تكون إطاعة الله ومحبته، فإنهم لَا ينالون محبة الله تعالى؛ لأنهم كافرون؛ إذ تعمدوا ألا يطيعوك، وأنكروا أن اتباعك طريق محبة الله رب العالمين. ففي هذا النص الكريم دلالة على أن محبة الله لَا ينالها إلا من يتبع الرسول بأبلغ ما يكون من بيان، وذلك لوجوه:
أولها: أنه سبحانه عبر بأنه لَا يحبهم، وليس بعد نفي الحب إلا البغض والسخط، فالله ساخط على من لَا يتبعون الرسول، وإذا كان رب العالمين ساخطا عليهم، فمن المؤكد أنه لم يعتبر حالهم حال من يحبونه ويبتغون رضاه.
وثانيها: أنه عبر عن تركهم اتباع الرسول بالتولي وهو الإعراض، وكيف يكون طالبا لمحبة الله من يعرض عن طاعة الله.
وثالثها: أنه سبحانه وتعالى عبر عنهم في حال الإعراض متعمدين منكرين بأنهم كافرون، وكيف يكون محبا لله ومحبوبا من الله من يكون كافرا بأوامره، منكرا لرسالته، معاندا لرسوله! إن ذلك في القياس غريب.
اللهم وفقنا لاتباع نبيك لنرتفع إلى مقام من يحبونك، ولننال سمو محبتك. فقد قال نبيك وقوله الحق:" إن اللَّه إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا دعا جبريل، فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض "(1).
* * *
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
(1) رواه مسلم: البر والصلة والآداب - إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده (4772)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (8984)، ورواه البخاري: التوحيد - كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة (6931).
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
* * *
أشار سبحانه وتعالى في الآيات السابقة إلى اختلاف المشركين وقتالهم المؤمنين وإلى اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم، وقال سبحانه وتعالى:(وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. . .)، ثم أشار سبحانه إلى محبته لعباده الذين يطيعونه ومحبتهم له، ورأفته سبحانه وتعالى بعباده، وسبق رحمته لغضبه وفي هذه الآيات:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) بين سبحانه وتعالى وحدة الإنسانية التي ما كان يسوغ معها خلاف إلا ممن ضل سبيل الهداية، ووحدة النبوة والرسالة الإلهية، التي وحدت بها شريعته تعالى، وما كان يسوغ بعد هداية الله تعالى خلاف إلا إذا كان الضلال. ثم بين سبحانه من يجتبيهم ومن يصطفي ويحب من عباده، وكيف يحبونه هم ويخلصون لذاته العلية: بأن يسلموا وجوههم له سبحانه وتعالى، ويحررون أولادهم لعبادة الله تعالى.
وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذا أربع قصص، كلها يصور قدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته في خلقه، ولا تخلو واحدة منها من خوارق العادات.
وأولى هذه القصص: قصة مريم البتول، وكيف كانت خالصة لله تعالى مذ حملت بها أمها، حتى ولدت، ولزمت المحراب، وكفلها زكريا، وكيف كانت مرزوقة مكفولة يأتيها رزقها رغدا بغير حساب.
والقصة الثانية: قصة زكريا، وكون الله سبحانه وتعالى قد وهب له يحيى، مع أنه كان قد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر، وبذلك خرقت العادة المعروفة، وهو أن العاقر لَا تلد قط، وهذا قد أنجب وقد أصابته الشيخوخة، وامرأته عاقر لا تلد.
والقصة الثالثة: قصة ولادة السيد المسيح عليه السلام، وقد كان ذلك أعظم خرق للعادات، إذ ولد من غير أب، وفي ذلك تتسلسل القصص الثلاث في خوارق تبتدئ بالخارق القريب من المعروف ثم بغير المعروف مطلقا، ثم بالخارق الغريب الذي لم يعرف قط لغير عيسى بعد أن انتشر بنو آدم في الأرض. القصة الرابعة: قصة حياة عيسى، التي اشتملت على خوارق كثيرة كانت في ذاتها أغرب من ولادته؛ منها: إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله على يديه، وهكذا غيرها.
وقصص القرآن ليس المقصود منه مجرد السرد التاريخي، كما يسجل التاريخ وتدون قصصه، إنما قصص القرآن المقصود به أولا: العظة والاعتبار، كما قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. . .)، ثم ثانيا:
إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن هذا القصص الحق يتفق مع الصادق من كتب أهل الكتاب يجري على لسان أمي لَا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس إلى معلم، ولم تعرف ملازمته لأحد من أهل الكتاب حتى يطلعه على ذلك، بل كان المنقطع في بلد أمي ليس به علم يدرس، ولا فلسفة تبحث. ثم المقصود ثالثا: بيان وحدة الشرائع الإلهية السماوية؛ لأنها جميعها تنبعث عن مصدر واحد، وهو رب السماوات والأرض وما فيهما؛ فبيان قصص النبيين السابقين وما كانوا يلقون في الدعوة إلى التوحيد دليل على أن التوحيد هو الوحدة الجامعة - بين كل الشرائع، وهو الحد الفاصل بين ما هو من السماء، وما هو من إفك أهل الأرض. وفي بيان قصص النبيين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسرية عن شدائده بالاستبصار فيما لقيه غيره من عنت.
وفى قصص النبيين وكفر أقوامهم مع الآيات الحسية التي أتى بها النبيون بيان أن الكفر ليس منشؤه نقصا في البينات، ولكنه ينشأ من الجحود وغلبة الهوى، والإعراض عن مناهج الاستدلال الصحيح. ولعل أوضح مثل لذلك، الآيات التي أجراها الله تعالى على يد عيسى عليه السلام، فما كانت وراءها آيات تقرع الحس، وتدل على خوارق العادات كهذه الآيات، - ومع ذلك كفروا وما آمنوا، وما ازدادوا إلا طغيانا وعتوا.
هذه تقدمة نقدم بها قصة أولئك الأبرار الأطهار، ونبتدئ بما ابتدأ به القرآن الكريم من قصة مريم البتول:(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وًالَ إِبْرَاهِيمَ وآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ):
معنى الاصطفاء: طلب الصفوة من كل شيء، ولذلك قالوا إن معناها اختارهم مؤثرا لهم على غيرهم، وفي التعبير بالاصطفاء إشارة إلى أن آدم ونوحا، وآل إبراهيم وآل عمران هم صفوة الناس والتعبير بعلى في قوله تعالى:(عَلَى الْعَالَمِينَ) إشارة إلى معنى التفضيل على غيرهم من الناس؛ فهم صفوة الناس، وهم مفضلون على كل الناس. وآل إبراهيم هم أسرة إبراهيم بفروعهم، سواء منهم من أووا إلى مكة وكان منهم صفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كانوا في الأرض المقدسة وكان منهم النبيون من بعد، وآل عمران هم ذرية عمران، وهو أبو مريم البتول، ومن ذرية عمران السيد المسيح عليه السلام الذي خلقه رب العالمين بكلمة منه هي " كن ".
وإن في ذلك التسلسل إشارة إلى أن الخليقة لم تخل من هاد يهديها إلى الحق وإلى صراط مستقيم؛ فقد ابتدأت الهداية بأبي الإنسانية آدم كما قال تعالى: (ثمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)، فهو أول خليفة، وأول هاد للإنسانية بمقتضى أبوته، وبمقتضى اجتباء الله تعالى له، وقد حكم بأنه هداه، واهتدى به بنوه من بعده.
ثم جاء نوح من بعده بسنين وقرون لَا يعلمها إلا علام الغيوب، وهو الأب الثاني للخليقة، فاصطفاه رب العالمين للهداية كما قال تعالى: (كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ
…
).
ثم جاء من بعد ذلك بقرون لَا يعلمها إلا فاطر السماوات والأرض أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان هو وآله من أقارب كلوط وذريته التي جاء من بعده فيها صفوة الخلق وفيهم النبوة، فكان منهم إسماعيل ومحمد في فرع، وإسحاق وبنوه في فرع آخر، وكان من هؤلاء آل عمران وهم ذرية عمران وأقاربه كزكريا ويحيى عليهما السلام، ومن تلك الدوحة النبوية عيسى عليه السلام الذي ختمت به تلك الشعبة من أولاد إبراهيم. وتسلم الرسالة الخالدة إلى يوم القيامة الفرع الثاني من أولاد إبراهيم وهم ذرية إسماعيل، فكان محمد، وبه ختمت الرسالة الإلهية في هذه الأرض. وعمران هذا هو أبو مريم كما نصت على ذلك الآية التالية، ولا حاجة لفرض أنه عمران آخر، وهو أبو موسى، فذكر اسم واحد في مقام واحد يشير إلى أن المدلول واحد، ولا حاجة إلى فرض التغاير. وكلمة الآل تشمل الأقارب من العصبات، والذرية.
ولقد بين الله سبحانه بعد ذلك تسلسل هذه الصفوة المختارة بعضها من بعض فقال:
(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ):
الذرية هم الفروع من الأولاد وأولادهم مهما نزلوا، وأصلها من مادة " ذرأ "، وقيل من " الذرو "، وقيل من " الذر "، وكل هذه الألفاظ تنتهي إلى التكوين والتفريع فرعا من بعد فرع؛ ومعنى النص الكريم أن أولئك المصطفين الأخيار بعضهم ذرية من بعض، فهم متصلو النسب بسلسلة لَا تنقطع، فنوح من ذرية آدم، وآلُ إبراهيم من ذرية نوح، وآل عمران من ذرية آل إبراهيم، وهكذا، فهي سلسلة متصل بعضها ببعض في النسب والهداية. ويترتب على أن بعضهم من بعض أن تتشابه صفاتهم في الخير والفضيلة ما داموا جميعا مصطفين، وما داموا جميعا من سلسلة ونسبة واحدة. وقد قال بعضهم إن معنى (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ