المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب السادس: الحكمة من استخدام الجمل والصيغ والعبارات في سورة القصص - سورة القصص دراسة تحليلية - جـ ١

[محمد مطني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: التمهيدي

- ‌المبحث الأول: دراسة عامة عن السّورة

- ‌المطلب الأول: اسمها

- ‌المطلب الثاني: التعريف اللغوي والاصطلاحي للقصص

- ‌المطلب الثالث ترتيب سورة القصص في المصحف

- ‌المطلب الرابع فضلها

- ‌المطلب الخامس: سورة القصص أمكية هي أم مدنية

- ‌المطلب السادس: الأغراض العامة لسورة القصص ومقاصدها

- ‌المطلب السابع: التناسب والتناسق بين سورة القصص وما قبلها وما بعدها

- ‌المطلب الثامن: التناسب بين بداية السورة وخاتمتها

- ‌المبحث الثاني: الحروف المقطعة في الَقُرْآن الكَرِيم وسُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌المطلب الأول: أقوال العلماء في معاني الحروف المقطعة

- ‌المطلب الثاني: إعراب الحروف المقطعة

- ‌المبحث الثالث: شبه وجود الأساطير والتكرار في القصة القرآنية والرد عليها

- ‌التمهيد

- ‌المطلب الأول: أدلة القائلين بوجود الأساطير والتكرار في القرآن الكريم والرد عليهم

- ‌المطلب الثاني: قضية التكرار

- ‌المطلب الثالث: الحكمة من التكرار

- ‌المطلب الرابع: فوائد القصص القرآني

- ‌الفصل الثاني: وقفات بين يدي السّورة

- ‌المبحث الأول: نظرات توجيهية في سُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌المطلب الأول: توجيه المعنى في ذاتية السورة

- ‌المطلب الثاني: توجيه الآيات التي أشكل إعرابها

- ‌المطلب الثالث: التوجيه المضموني في سورة القصص ودلالاته

- ‌المطلب الرابع: التوجيه البياني التفسيري في سُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌المطلب الخامس: الصورة البلاغية في سُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌المطلب السادس: الحكمة من استخدام الجمل والصيغ والعبارات في سُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌المطلب السابع: الرسم الَقُرْآني في سُوْرَة الْقَصَصِ وعلاقته بأداء المعنى

- ‌المبحث الثاني: الأطر العامة لسُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌المطلب الأول: دلالة التوحيد في سورة القصص

- ‌المطلب الثاني: المرأة في سُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌المطلب الثالث: الزمن في سورة القصص

- ‌المطلب الرابع: التربية والسلوك في سورة القصص

- ‌المطلب الخامس: النظرة القرآنية لليهود في سورة القصص

- ‌المطلب السادس: المال مفهومه وغاياته في سورة القصص

- ‌المطلب السابع: أسلوب الدعوة في سورة القصص

- ‌المطلب الثامن: النظرة القرآنية للإنسان في سورة القصص

- ‌المطلب التاسع: الإيمان والكفر في سورة القصص

- ‌الفصل الثالث: الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌المبحث الأول: مفهوم الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: علو فرعون في الأرض

- ‌المطلب الثاني: نصرة المستضعَفين

- ‌المبحث الثاني: الاستعلاء والطغيان بالثروة والمال

- ‌المطلب الأول: قارون وكنوزه

- ‌المطلب الثاني: تجبر قارون واستكباره

- ‌المطلب الثالث: هلاك قارون وماله

- ‌الفصل الرابع: نشأة سيدنا موسى عليه السلام والظروف المحيطة به

- ‌المبحث الأول: ولادة سيدنا موسى عليه السلام

- ‌المطلب الأول: إلقاء سيدنا موسى (عليه السلام) في اليم

- ‌المطلب الثاني: سيدنا موسى في بيت فرعون

- ‌المطلب الثالث: المعجزة الإلهية في تحريم المراضع على سيدنا موسى (عليه السلام

- ‌المبحث الثاني: سيدنا موسى (عليه السلام) في مرحلة البلوغ

- ‌المطلب الأول: سيدنا موسى (عليه السلام) يهبه الله الحكم والعلم

- ‌المطلب الثاني: سيدنا موسى (عليه السلام) يقتل قبطياً خطأً

- ‌المطلب الثالث: فرعون يريد قتل موسى (عليه السلام) لقتله القبطي

- ‌الفصل الخامس: هجرة سيدنا موسى (عليه السلام) إلى مدين

- ‌المبحث الأول: سيدنا موسى (عليه السلام) على ماء مدين

- ‌المطلب الأول: سيدنا موسى (عليه السلام) يسقي الماء لبنات شعيب (عليه السلام

- ‌المطلب الثاني: زواج سيدنا موسى (عليه السلام) من ابنة شعيب (عليه السلام

- ‌المبحث الثاني: المسائل الفقهية المتعلقة بهجرة سيدنا موسى (عليه السلام) إلى مدين

- ‌المطلب الأول: المسائل المتعلقة بزواج سيدنا موسى (عليه السلام) من ابنة شعيب (عليه السلام

- ‌أولاً ـ تعريفه وألفاظه ومسائله:

- ‌ثانياً ـ ألفاظ عقد النكاح (الإيجاب ـ القبول)

- ‌ثالثاً ـ مسائله:

- ‌المسألة الأولى - الإشهاد على عقد الزواج

- ‌المسألة الثانية - الولاية في عقد الزواج

- ‌المسألة الثالثة - تعين الزوجة

- ‌المسألة الرابعة - المهر

- ‌المسألة الخامسة - مسألة الدخول قبل النقد

- ‌المسألة السادسة - اشتراط الولي شيئاً من المهر لنفسه

- ‌المطلب الثاني: الإجارة

- ‌تعريفها، وأركانها، ودليل مشروعيتها، والمسائل المتعلقة بها

- ‌المسألة الأولى: ذكر المدة دون ذكر الخدمة

- ‌المسألة الثانية: الإجارة على رعاية الغنم

- ‌المسالة الثالثة: اجتماع إجارة ونكاح

- ‌المسالة الرابعة: شبهات وردها

- ‌الفصل السادس: عودة سيدنا موسى (عليه السلام) إلى مصر

- ‌المبحث الأول: بعثة سيدنا موسى (عليه السلام

- ‌‌‌المطلب الأول: سيدنا موسى (عليه السلام) يرى ناراً في جانب الطور

- ‌المطلب الأول: سيدنا موسى (عليه السلام) يرى ناراً في جانب الطور

- ‌المطلب الثاني: تكليم الله لسيدنا موسى (عليه السلام

- ‌المطلب الثالث: تأييد الله لسيدنا موسى (عليه السلام) بنبوة أخيه هارون (عليه السلام

- ‌المطلب الرابع: المقارنة بين سورة النمل وسورة القصص

- ‌المبحث الثاني: موقف فرعون وقومه من دعوة سيدنا موسى (عليه السلام

- ‌المطلب الأول: اتهام سيدنا موسى بالسحر

- ‌المطلب الثاني: ادعاء فرعون الألوهية وتكبره وملؤه في الأرض

- ‌المطلب الثالث: عاقبة فرعون وجنوده

- ‌المطلب الرابع: الفرق بين الرواية التوراتية وسفر الخروج وبين الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ لقصة موسى (عليه السلام

- ‌الفصل السابع: الرسول مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) ودعوته في سُوْرَة الْقَصَصِ

- ‌المبحث الأول: الدلائل الَقُرْآنية على صدق الرَّسُول مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم) في دعوته

- ‌المطلب الأول: دلالة قصة سيدنا موسى (عليه السلام) على صدق دعوة الرسول مُحَمَّد (صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: إيمان طوائف من أهل الكتاب بدعوته (صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: الهداية البيانية والهداية التوفيقية

- ‌المبحث الثاني: موقف المشركين من دعوته (صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: أعذار المشركين والرد عليها

الفصل: ‌المطلب السادس: الحكمة من استخدام الجمل والصيغ والعبارات في سورة القصص

ولعل إحدى أهم الصور البيانية قوله تعالى فيها: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) ، فهي آية قد لا يشعر القارىء لأول وهلة بصورتها البيانية غير أنه ما إن يمضي بها ليصل إلى قوله تعال:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَه} يجد نفسه مستعيداً الصورة السابقة بالنهي عن دعاء سواه تعالى، ثم متقدماً على الصورة اللاحقة {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

وهل قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَه} حقيقة أو مجاز؟ ففي ذلك خلاف بين علماء الكلام منذ أمد بعيد، غير أن الأصل في ذلك أن الألفاظ القرآنية على حقيقتها ما لم تصرفها قرينة إلى المجاز.

وبذلك تكون الصورة في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَه} صورة حقيقية كل الحقيقة، مشعرة بما فيها من بلاغة وفن بلاغي وإيجاز في الوصف.

وإذا وصلنا إلى هذا الموضع من هذا التحليل، نجدنا قد حاولنا أن نبرز جملة الصور البلاغية من خلال المفهوم العام للصورة البلاغية في آيات سورة القصص.

‌المطلب السادس: الحكمة من استخدام الجمل والصيغ والعبارات في سُوْرَة الْقَصَصِ

(1) سُوْرَة (ص) : الآية 88.

ص: 117

من الواضح أن في اللغة العربية أساليب متباينة يمكن من خلالها فهم دلالات ألفاظ نفسها، أو بمقارنتها بغيرها، وذلك أن علم اللغة الحديث المأخوذ من أصوله التراثية قد أثبت أن أي نص لا يمكن فهم أسلوبه إلا بمقارنته بنص آخر، أو بإبدال بعض كلماته (بمرادفات) أخرى. ولا ريب أن علم إعجاز القرآن استفاد فائدة كبرى قديماً وحديثاً من ذلك، لأن علم إعجاز القرآن يبحث في خصائص الأسلوب وبدائل الأسلوب. وقد حاولت استناداً إلى ذلك أن أدرس بعض الكلمات والألفاظ في آيات مختارة من سورة القصص مع توجيه المعنى المقارن نحو بدائلها بحيث يبدو إعجاز الأسلوب القرآني في سورة القصص خاصةً، وذلك من ثلاثة أوجه:

أولاً ـ البديل اللفظي.

ثانياً ـ البديل الأٍسلوبي.

ثالثاً ـ البديل المعنوي.

والجمع بين هذه البدائل فعله القاضي الباقلاني من قبل في كتابه إعجاز القرآن في سورة أخرى، ودرسها القاضي عبد الجبار في كتابه المغني في أبواب التوحيد والعدل، والإمام عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز، وابن أبي الإصبع المصري في كتابه بديع القرآن.

وممن درسها من المحدثين:

الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطي ((1)) .

الشيخ مُحَمَّد عبد الخالق عضيمة ((2)) .

الدكتور فاضل السامرائي ((3)) .

وسواهم من النحاة والبلاغيين المعاصرين الذين درسوا إعجاز النصّ القرآني لغوياً.

ونحن في دراستنا لسورة القصص أردنا ان ندلي بدلونا في ذلك، فنفهم لماذا جاءت بعض الأشكال اللغوية في مواقع منها دون أشكال أخرى قد يتوقع الإنسان أن تجيء في كلام بديل لو كان كلاماً بشرياً.

(1) التفسير البياني للقرآن الكريم. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ. الطبعة الثامنة. دار المعارف بمصر. 1982 م: ص 88.

(2)

دراسات في أسلوب القرآن الكريم: 5 /119.

(3)

التعبير القرآني. د. فاضل صالح السامرائي. بيت الحكمة. بغداد. 1989 م: ص 51.

ص: 118

وهذا الفن أولع به الأدباء إذ يروي اليازجي:

إن رجلاً سأل عن قول المتنبي:

قد شرف الله أرضا أنت ساكنها

وشرف الناس إذ سوّاك إنساناً

فقال: لماذا لم يقل خلاك بدل سواك؟ فأجابه ابن جني: إن قوله: (خلاك) لا يعطي النصّ بلاغته التي أعطته إياها (الصيغة القرآنية) سواك التي جاءت في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} ((1)) ((2))

وقد أكثر الدكتور فاضل السامرائي من ذكر النصوص المشابهة ((3))

إن سورة القصص في ألفاظها ومعانيها تحتوي على ما يمس القلوب والأرواح في المعاني المنطبعة في النفس الإنسانية عند قراءتها لأسباب تتعلق بذاتية الألفاظ وفق خمسة عوامل.

أولاً ـ الجرس اللفظي.

ثانياً ـ بنية الكلمة.

ثالثاً ـ موقع الكلمة.

رابعاً ـ سياق الكلمة.

خامساً ـ مقارنة الألفاظ بمرادفاتها.

ونحن سنحاول ان ندرس المرادفات البديلة التي تبرز إعجاز الألفاظ الأصلية.

إن الأسلوب الذي أنزلت به هذه السورة في مكة المكرمة يحمل كلّ سمات الأسلوب المكي (المختلف في دلالاته عن سمات الأسلوب المدني) ، وبذلك فإن الصورة العامة لسورة القصص تتميز بأن بناءها في إطاره العام خال من الجمل التي توجه المعنى نحو الدلالة الفقهية ـ الشرعية. بل إن جمله توجه المعنى نحو الدلالة التوحيدية التي تزرع العقيدة الصحيحة المستندة إلى نفي الشريك عن الله، والداعية إلى عبادة الله وحده. والتي تسلي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وتشد من أزره وأصحابه لمواجهة ظلم قريش.

(1) سُوْرَة الانْفِطَارِ: الآية 7.

(2)

العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب. تحقيق: إِبْرَاهِيمُ اليازجي. الطبعة الثانية. دار العلم. بيروت. 1978 م: 2 /622.

(3)

التعبير القرآني: ص 51.

ص: 119

واستناداً إلى ذلك فإن آيات سورة القصص تعبر كلماتها تمام التعبير عن مقتضيات واقع الحال المراد إبانته لمن أنزلت السورة في زمنهم وبين أيديهم من أهل مكة.

فنحن نسأل استناداً إلى ذلك لماذا جاء النصّ القرآني في قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1)) ولم يستخدم كلمة أخرى في صفة الكتاب مثل (الحكيم) ، (العزيز) ، (المجيد) ؟

والذي نراه أن المبين هاهنا أنسب، لأن الإبانة متناسبة مع صفة الكتاب كونها الإبانة بليغة الدلالة على الظهور والنصاعة في تلك الفترة، أما لو قيل:

(الكتاب الحكيم) فمن أين لهم ان يعرفوا حكمته. أو العزيز فمن أين لهم أن يعرفوا عزه ولأنكروا ذلك رأسا، فقيل لهم:(الكتاب المبين) وهم لفصاحتهم لا يستطيعون إنكار إبانته ((2)) .

فالله جل وعلا وصف كلامه بصفة يعرفها أهل مكة أكثر من سواهم لاشتهارهم بهذا فكأن القرآن أراد أن يتحدا بيانه.

ونحن نجد أن الصيغة القرآنية: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ} ((3)) تحتمل سؤالاً هو: لِمَ لَمْ يقل تعالى: (طغى) ، أو (بغى) ، أو (استكبر) ؟

والذي نراه في ذلك أن دلالة (علا) من العلو الزماني والمكاني أبلغ من تلك الصيغ الأخرى، ومن كلّ صيغة، لأنه لو كانت العبارة (إن فرعون طغى) لكان ذلك دليلاً على الطغيان فقط، والطغيان (لا يعم، بل هو خاص بفرعون ولا يشمل جنوده ولا هامان) .

ولو قيل: (إن فرعون تكبر) لكان التكبر خاصاً به وبقومه لأن الإنسان لا يتكبر إلا على من هم من حوله يرونه ويراهم.

(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.

(2)

ينظر الكشاف: 3 / 164. جامع البيان: 6 /4963. البحر المحيط: 7 /104.

(3)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

ص: 120

ولو قيل: (إن فرعون بغى) لكانت الجملة غير مبينة عن هذا البغي، فجاءت العبارة (علا في الأرض) لتدل على أن فرعون جمع الطغيان والبغي والتكبر الذين اجتمعوا جميعاً في العلو على الأرض، فكان إعجاز استخدام الفعل الماضي (علا) دالاً تفضيلها على غيرها من الصيغ الأخرى، لأن كلمة (علا) في هذا الموقع في ذكر فرعون أبلغ في مكان الآية من أي صيغة أخرى، فالآية تصف دولة فرعون ومجتمعه أي نظام دولة كامل.

فلا بد من كلمة تصف نظام دولة فرعون. ولا يوجد أليق من كلمة (علا) في هذه السورة من القرآن الكريم، وربما استخدمت بقية الكلمات في مواضع أخرى من سورة أخرى فناسبت موضعها في تلك السور ((1)) .

إن قوله تعالى: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((2)) يحمل في استخدامه اسم الجمع (شيع) وهو منصوب بكونه مفعولاً به ثانياً دلالة خاصة تختلف عما لو استخدم فيه أي لفظ مرادف للكلمة نفسها، مثل (فرقاً) أو (أحزاباً) على سبيل المثال. ونحن نرى أن صيغة (شيعاً) التي جاءت في النص أبلغ من كلّ صيغة، لأن الشيع هي العصبة، ومن معانيها العصبة القوية، وفرعون إنما قسم الناس على شيع، أي: أقسام، فجعل منهم شيعته وشيعة موسى، ولو جاء النصّ بصيغة (فرقا) لدلّ على تحزب قوم دون كونهم من شيعته، أي: المطاوعون له.

(1) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4964.

(2)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

ص: 121

ونحن نجد أن قوله تعالى في سُوْرَة الْقَصَصِ {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} ((1)) . {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} ((2)) دالان على كون شيعة موسى (وهم اليهود) تمبزوا منذ ذلك الوقت عن شيعة فرعون، فدل ذلك على أن الشيعة بالنسبة للرجل عصبته، وقد غرقت شيعة فرعون معه في اليم لإيمانهم بدعوته، بدلالة:{وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((3)) . وليس من الأسلوب القرآني ذكر جنود ملك ما إلا إذا بلغوا في عداوتهم للإيمان مبلغاً عظيماً.

وهذا يجرنا إلى صيغة (يحذرون) لماذا جاءت بهذه الصيغة في النصّ، ونحن نعلن أن الحذر " هو احتراز عن مخيف " وقد كانوا جميعاً أي: فرعون وهامان وجنودهما يحذرون مولوداً بعينه هو موسى (عليه السلام) فجاءت الصيغة

(يحذرون) بدلاً من غيرها من الصيغ مثل (يخشون) ، لأن الخشية هي خوف أو (يخافون) ، فالخوف هو أمر يقع بالمواجهة، وهم لم يواجهوا موسى (عليه السلام) ، فكانت صيغة (يحذرون) ابلغ في دلالتها من كلّ دلالة أخرى.

(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.

(2)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.

(3)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

ص: 122

ونحن نجد أن قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا

وَحَزَنًا} ((1)) يثير سؤالاً مهماً هو ما دلالة العداوة والحزن في كينونة موسى

(عليه السلام) ولم لم تستخدم أي صفة أخرى مثل (وبالاً وصعوبة) أو (كائداً ومعسراً) والذي أراه والله أعلم أن ذكر المصدر (العدو) والاسم (الحزن) أبلغ من أي تعبير أخر، لأن التقاط آل فرعون (وهي صيغة عمومية) بمعنى ذكر الحال بالمآل لموسى (عليه السلام) وهو رضيع في أيامه الأولى لا يحمل يومذاك لهم أي معنى بأن هذا الصغير سيكون سبب عسرهم (الحزن) وسيكون عدواً لهم (كلّ العداوة) في سبيل الله جل جلاله. ولو قيل:(ليكون لهم وبالاً) أو (كائداً) أو (معسراً) لم يكن كذلك ذا معنى، لأن كلّ ذلك لا يمكن أن يتحقق من طفل صغير رضيع فكانت صيغة (عدواً وحزناً) هنا دالة على أنه سيعاديهم هم وليكون حزنهم هم دون سواهم، فكانت هذه الصيغة أبلغ في حد ذاتها مما لو استخدمت ألفاظ الآية أي مجموعة أخرى من الصفات، واللام في هذه الآية تدلّ على أنها لام التعليل، أو لام كي ((2)) . ومما يؤيد هذا المعنى الذي ذكر ليكون موسى عدواً خاصاً لهم تقديم الجار والمجرور (لهم) من عدواً وحزناً، فهذا التقديم أفاد الاختصاص.

وقوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} ((3)) يَدُلُّ على أن الإعجاز الَقُرْآني إنما كان في استخدام لفظة (يشعرون) ونفيهما بـ (لا) لأن الشعور هو (العلم الدقيق)((4)) .

(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8.

(2)

الكَشَّاف: 3 /166. مفاتيح الغيب: 12 /228. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 / 4968.

(3)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.

(4)

ينظر جامع البيان: 1 0/38. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 269. مفاتيح الغيب: 12 /230.

ص: 123

و (لا يشعرون) أي لا تدركون بالحواس ودلالة (لا يشعرون) في هذا الموضع أبلغ من أية دلالة أخرى مثل لا يعلمون لأن العلم متحقق بعد وجود شيء ما معروف في العقل وليس الشعور بشيء مادي، بل هو شيء معنوي دقيق كلّ الدقة كخبر ولادة موسى (عليه السلام) ، وكونه بين ظهراني قوم فرعون، وأما دلالة (يعقلون) هاهنا فقد تكفل بهما وببيانهما الراغب الأصبهاني إذ قال:

" ولو قال في كثير مما جاء فيه (لا يشعرون) لا يعقلون لم يكن يجوز، إذ كان كثير مما لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً "((1)) ، والشعور إحساس، والعقل معرفة ونحن نرى أن هذه الآيات كذلك، وهو يوافق ما ذهبنا إليه آنفاً، لأن المعنى هو أن عدم شعورهم يعني انهم لم يحسوا بلهفتها عليه، ولو قيل: إنهم لا يعقلون لكان المعنى أنهم لا عقل لهم قط.

ونحن نجد أن قوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} ((2)) يثير سؤالاً هو: لماذا جاءت الصيغة القرآنية (يستصرخه) هكذا، ولم تجيء في الاستخدام أية صيغة أخرى مثل (يستنجده) ، أو (يستغيثه) ، أو (يستنصره) ؟

والجواب عن ذلك هو أن أية صيغة أخرى إذا ما وضعت موضع كلمة

(يستصرخه) لا يمكن أن تدلّ على المضمون الذي دلت عليه الصيغة القرآنية، فلو قلنا (يستنجده بالأمس) دلّ ذلك على طلب النجدة ولم يكن ذلك حال الرجل. ولو قلنا:(يستغيثه) لم يكن ذلك الاستخدام مناسباً، فطلب الغوث دعاء من قريب لبعيد، وليس ذلك واقع الحال، لأنهم كانوا جميعاً في مكان واحد.

(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 12 /230.

(2)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.

ص: 124

فكانت كلمة (يستصرخه) في مبناها القوي الصياغة أوفى بالمراد إذ فيها الحروف القوية (الصاد، والخاء) جرسيّاً، وفي معناها إذ نتخيل رجلاً يسترعي الانتباه من صراخه بأن يجيء له موسى (عليه السلام) وهي المعبرة كلّ التعبير عن حال الرجل، لأن المعركة بين الإسرائيلي والقبطي لم تكن في علم موسى (عليه السلام)((1)) .

ونحن كذلك نجد في سُوْرَة الْقَصَصِ أن قوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((2)) وهي من الآيات البليغة التي عدّها قدامى المفسرين من الآيات المعجزة كلّ الإعجاز، يحمل في طياته تساءلاً.. لماذا استخدم الَقُرْآن الكَرِيم المصدر المزيد بأحرف الزيادة (استحياء) ، ولم يستخدم ألفاظ أخرى مثل (تمشي على حياء) ، أو (تمشي على خجل) أما استخدام (حياء) فإن المصدر المزيد أبلغ في دلالته من المصدر العادي، لأن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني، على ما قاله اللغويون، فناسبت شدة الحياء أن يجاء لها بمصدر مزيد (استحياء) . أما الخجل فإنه أخص من الحياء الذي هو أعم، فالخجل يكون من أمر معين، أما الحياء فإنه خصلة في الذات، وهو إحدى شعب الإيمان، لذلك كان استخدام النكرة المصدرية المزيدة (استحياء) أبلغ من أي استخدام أخر. وإن استخدام صيغة (استفعل) تدلّ على الطلب فكأنها تريد أن تثير في مقابلها هذه الخصلة الشريفة ((3)) .

(1) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 236. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 980. البَحْر المُحِيْط: 7/ 110.

(2)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.

(3)

ينظر مفاتيح الغيب: 12 /240. البَحْر المُحِيْط: 7 / 114.

ص: 125

وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ} ((1)) يثير في النفس سؤالاً هو: لماذا جاءت الصيغة القرآنية بالمصدر (الرهب) ، وهي صيغة استعيرت من فعل الطائر، لأنه إذا خوف نشر جناحيه، ولم تجيء مثلاً على صيغة (الخوف) ، أو (الخشية) ، أو (التوجس) ، أو أية صيغة من صيغ العموم؟

والذي أراه، والله أعلم بالصواب، أن دلالة استخدام أي مصدر أخر غير

(الرهب) لا يمكن أن تكون له في نفس المقام الذي جاءت به. فلو قيل: (من الخوف) لم يكن للخوف، وهو معادل لفظي للجبن، أية دلالة، ولو قيل:(من الخشية) ، وهي لفظة تدلّ على ذات نفسية غير مطمئنة لم يكن لها أية دلالة، ولأن المراد الإلهي، والله أعلم بالصواب إنما كان أن يضمم موسى (عليه السلام) جناحه (يديه) من رهبته من الموقف الذي تلقى فيه الوحي دون الخوف الذي تقدم في قوله تعالى:{أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} ((2)) والأوامر الإلهية بعد صدورها متحققة كما هي القاعدة المعروفة، كان استخدام صيغة (من الرهب) هو الأبلغ في دلالته، فاستعارة صورة الطائر صور لنا دقة حال سيدنا (عليه السلام) ، فكأنه من حذره صار كالطائر الذي يتوجس من كلّ شيء ((3)) .

وقد يسأل سائل: لماذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (4) ، وليس هناك أحد يدعو إلى النار؟

قلنا: إن هذه الصيغة جاءت وفيها فائدتان:

(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.

(2)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.

(3)

ينظر الكَشَّاف: 3/ 175. مفاتيح الغيب: 12 /247. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5000.

(4)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 41.

ص: 126

الفائدة الأولى ـ غن النار هنا بتأويل ما سيكون، أي: إنهم يدعون لما يؤدي إلى النار في خاتمتهم، وهو كقوله تعالى:{أَعْصِرُ خَمْرًا} ((1)) ، والخمر لا تعصر بل العنب هو الذي يعصر، ولكنه بما أنه سيكون العنب خمراً قيل:{أَعْصِرُ خَمْرًا} ورأي أبي مسلم أن " النار هنا بمعنى التقدم نحو النار "((2)) ، فهو بتأويل ما سيكون.

الفائدة الثانية ـ إن الصيغة القرآنية لو جاءت بلفظ (يدعون إلى الضلال) مثلاً، لم تكن معبرة عن دعوة فرعون وجنوده، وكذا لو جاءت بلفظ (يدعون إلى الكفر) لكان المعنى أنهم في كفرهم يدعون إلى كفر، وهكذا على التوالي، فجاءت صيغة {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لتدل على المعنى الذي أريد لها أن تجيء به، وهو ما زاد النصّ الَقُرْآني جمالاً على جمال ((3)) . وارى أن الدعوة إلى النار بمعنى الكينونة في النار.

(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 36.

(2)

ينظر مفاتيح الغيب: 12 /254. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5005.

(3)

ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 254. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5005.

ص: 127

وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، فإن السؤال الذي قد يثار، هو عن دلالة قوله تعالى:{بَصَائِرَ} ، والبصائر جمع بصيرة، بمعنى العبرة ـ كما قال الراغب الأصفهاني ـ ودلالة العبر هاهنا أبلغ من أية دلالة أخرى، فمعنى الآية إذا ما حللناها هو أن التوراة أنزلت على موسى (عليه السلام) عبرة للناس وهدى ورحمة، أما دلالتها (أي كلمة بصائر) فهي أن في التوراة عبراً بالجمع، وليس عبرة بالإفراد، لأنها قد حوت على أحكام ومواعظ وقصص، وقد جمعت البصائر، والله أعلم لدلالة العبر البليغة وكونها أكثر في التعبير الَقُرْآني معنىً مما لو جاءت بلفظ أخر مثل (دلائل) ، أو (معالم)، أو أي جمع أخر. فلو قيل:

(دلائل) لم تدلّ هذه الكلمة إلا على كون التوراة علامات، لأن الدليل هو العلامة، ولو قيل:(معالم) لكان المعنى إشارات، لأن المَعْلَم هو الإشارة، أما لفظة

(بصائر) فدلت على أن المعنى هو العبر تلو العبر ((2)) .

(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.

(2)

ينظر جامع البيان: 10 /76. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 47. مفاتيح الغيب: 12/ 255. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5007.

ص: 128

وأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) . فإن سؤالاً قد يتبادر هنا عن دلالة

(عميت) دون سواها من الصيغ، لأن إسناد المعنى لتاء الضمير الخاص بالمذكورين آنفاً يَدُلُّ على حقيقة العمى عن رد السؤال، ولو جاءت الصيغة بلفظ

(فذهبت عنهم الأنباء) لم يكن ذلك دالاً على أي شيء، فذهاب الأنباء عن قوم يحتمل ردهم لجوابهما، ولو قيل:(فغادرت عنهم الأنباء) لكان كذلك، والمعنى أن حال الكفار والمشركين الظالمين يوم القيامة عند سؤالهم سؤال توبيخ، هو العمى الكامل حتَّى عمى الإجابة، ويفسر هذا المعنى الَقُرْآن الكَرِيم في آية أخرى هي قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ((2)) وهذا هو المعنى بعينه في الوصف الَقُرْآني، فدل ذلك على أن المعنى هو هو في الحالتين يوم القيامة، ولكن الأسلوب الَقُرْآني هو إعادة المعنى بأكثر من صيغة أسلوبية لإبراز أوجه الإعجاز في الَقُرْآن الكَرِيم، وقد أشار الطبري إلى غياب الحجة عنهم عند السؤال يوم القيامة فقال:" وإنما عني بذلك أنهم عميت عليهم الحجة، فلم يدروا ما يحتجون لأن الله تعَاَلىَ قد كان ابلغ إليهم في المعذرة "((3)) . وهذا يوافق ما ذهبنا إليه.

(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 65 – 66.

(2)

سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 72.

(3)

جامع البيان: 10 /94. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 360.

ص: 129

ونجد في قوله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((1)) يحمل صيغة قرآنية ذات دلالة خاصة في عموميتها البلاغية وقد يسأل سائل: لماذا لم تجيء الصيغة بلفظة (أمماً) ، أو (طوائف) أو (شعوباً) ، أو (أناساً) بدل (قروناًُ) ؟

والجواب والله أعلم: إن دلالة (قروناً) في موضعها أبلغ مما لو قيل (أمماً) لأن الأمم هي المجموعات من الناس، والطوائف هي أناس بعينهم، والشعوب مجموعات غير متجانسة، والأناس، جمع ناس، وهم المجموعة ذات السمات المميزة، أما صيغة (قروناً) فتحمل كلّ تلك المعاني مجتمعة في لفظها، ولأن الَقُرْآن الكَرِيم يستخدم الألفاظ القصيرة التي تدلّ على المعاني العديدة، فاستخدم الَقُرْآن الكَرِيم لفظة (قروناً) بدل أية صيغة أخرى، وتلك خصيصة من خصائص النصّ القرأني، والآية تحمل معنى تقدم ذكر رَسُول الله (صلى الله عليه وسلم) . وتطاول العمر مشعر بتقادم ذكر رَسُول الله (صلى الله عليه وسلم)((2)) .

(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.

(2)

ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5706.

ص: 130

وفي قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((1)) تسائل عن ماهية دلالة (بطرت) بدل كلّ الصيغ الأخرى التي ترادفها، مثل (كفرت) ، أو

(بغت في) ، أو (عتت)، أو (طغت في نعمتها) ؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: إن صيغة (كفرت معيشتها) لا تحمل دلالة البطر لأن الفرق بين الكفر ـ وهو إخفاء الشيء ـ والبطر ـ وهو التكبر على الشيء ـ واضح بين، ولو جاءت الصيغة (بغت في معيشتها) لم تدلّ على البطر. ولو قيل:(عتت في معيشتها) لم تكن الصيغة دالة على معنى البطر مع دلالة انتصاب الفعل، لذلك كانت صيغة (بطرت) أوضح كلّ الوضوح من أية صيغة أخرى ((2)) .

أما قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ} ((3)) فإن سؤالاً قد يثار في معنى كلمة (سرمداً) المنصوبة مفعولاً به، هو: لماذا جاءت هذه الصيغة هاهنا بهذا اللفظ دون سواه؟

والذي أراه والله أعلم أن دلالة السرمد بمعنى (الدائم) أبلغ من أية دلالة أخرى، فالسرمد هو الدائم غير المنقطع، ولو استخدمت أية صيغة أخرى لم تدلّ على ما دلت عليه هذه الصيغة في مبناها ومعناها. فلو قيل بدلها:(دائماً) فإن الدوام هو البقاء، ولكنه لا يعطي المعنى الذي يعطيه معنى كلمة (سرمد) الذي يفيد الاستمرارية.

(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.

(2)

ينظر مفاتيح الغيب: 13/ 6.الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5017.

(3)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 71.

ص: 131

وقد بين الطبري، والقرطبي المعنى نفسه، ففسرا السرمد بمعنى الدائم، ونحن نرى أن معنى الآية هو امتنان الله عز وجل على الناس جميعاً بكون الليل والنهار ليسا سرمديين " أي: ليسا دائمين، وقد تكررت كلمة (سرمد) في الموضعين في ذكر الليل والنهار، لأن العرب تبدأ اليوم بالليل قبل النهار، ليكون أبلغ في التعبير البياني عن فضل الله عز وجل ((1)) .

وأما قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} ((2)) فإنه يثير سؤالاً مهماً جداً، هو لماذا جاءت كلمة (شهيد) هاهنا وهي بمعنى النبي في هذا المقام دون صيغة نبي أو رسول، مع أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالشهيد هنا هو النبي الذي يشهد على قومه بما فعلوه؟

قال الطبري في تفسير هذه الآية: " أي وأحضرنا من كلّ جماعة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله من الرسالة "((3)) .

وقيل: " أي نبياً عن مجاهد. وقيل: هم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا "((4)) .

ونحن نرى أن دلالة النبوة والرسالة في موضعها تفهم من خلال سياق معنى الآية لأن الآية تدلّ على أن الأمم يوم القيامة ينزع من كل منها نبيها يشهد على ما فعلوه عند دعوته لهم.

(1) ينظر الكَشَّاف: 3 /189. جامع البيان: 10 /98. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 236

(2)

سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75.

(3)

جامع البيان: 10 /89.

(4)

مفاتيح الغيب: 13 /13.

ص: 132