الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: ادعاء فرعون الألوهية وتكبره وملؤه في الأرض
المناسبة
بعد أن بينت الآيات السابقات سرعة امتثال سيدنا موسى لأمر الله بدعوته لفرعون وقومه، وجاءهم بالمعجزات الدالات على صدقه، فاتهموه بالسحر، فقال لهم موسى بكل أدب:{رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فتضمن رده عليهم ترغيب وترهيب بعد أن قدم لهم المعجزات، وجاء رده عليهم بأسلوب غاية في الروعة، وبأسلوب عالٍ من أدب الخطاب والمناظرة " فهو لم يؤكد أن خصمه في ضلال، كما لم ينسبه إلى نفسه، بل ردده بينهما وهو يعلم انه لأيهما "((2)) ، ثم علل هذا بأن من سنن الله أن المخذول هو الكاذب فقال:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 38 - 39.
(2)
تفسير المراغي: 20/ 58.
ثم يأتي النص القرآني والذي نحن بصدد تحليله ليبين في الجانب الآخر رد فرعون على مقالة موسى بمقالة تدل على الجهل ونقصان العقل ليؤكد النص القرآني على أنه بلغ غاية لا حد لها في الإنكار، وأنه لا مطمع في إيمانه لعتوه وطغيانه واستكباره في الأرض، وما جرى له من العذاب في الدنيا والآخرة. قال تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} ((1)) . فأراد النص القرآني في هذا المقطع أن يبين الفرق بين رد أهل الحق المتمثل في قول موسى المتفائل بنصر الله والمتوكل على الله، ورد فرعون المتكبر الظالم وليبين لنا بوضوح الفرق بين أخلاق الأنبياء، وبين أخلاق أعداء الله.
تحليل الألفاظ
{صَرْحًا} :
الصَّرْح بيت واحد يبنى منفرداً ضخماً طويلاً في السماء. وقيل: هو القصر. وقيل: هو كل بناء مرتفع. وقال الزجاج: الصَّرح في اللغة القصر والصحن ((2)) . وقال الراغب الأصفهاني: " وهو بيت عالي مزوق سمي بذلك اعتباراً بكونه صرحاً عن الشوب، أي: خالصاً "((3)) .
وقال الآلوسي هو: " بناء مكشوف عالياً، من صرح الشيء إذا ظهر "((4)) .
وقال ابن عاشور هو: " القصر المرتفع "((5)) .
القراءات القرآنية
1.
{لَعَلِّي} :
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر بالفتح:
(لَعَلَى)((6))
2.
{لَا يُرْجَعُونَ} :
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 38- 39.
(2)
لِسَان العَرَب: مَادة (صرح) 2/ 511.
(3)
معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 287.
(4)
روح المعاني: 20/ 80.
(5)
التحرير والتنوير: 20/ 123.
(6)
ينظر الإقناع في القراءات السبع: 2/ 721.
قرأ حمزة، والكسائي، ونافع:(لَا يَرْجِعُون) مبيناً للفاعل والجهور مبيناً للمفعول ((1)) .
القضايا البلاغية
في قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} فيها إطناب ((2)) بديع، وذلك أنه لم يقل: اطبخ لي الآجر، وذلك ليتفادى ذكر كلمة الآجر لأن تركيبها على سهولة لفظه ليس فصيحاً، وذلك امر يقرره الذوق وحده، فعبر عن الآجر بالوقود على الطين لأن هذه العبارة أحسن مطابقة لفصاحة القرآن، وعلو طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة، وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين، منادى باسمه بـ (يا) في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر، وقد اشتملت هذه العبارة على الكثير من ألفاظ الجبابرة العتاة، وذلك على الوجه الآتي:
نادى وزيره بحرف النداء.
توسيط ندائه خلال الأمر وبناء الصرح.
رجاؤه الإطلاع إلى الله.
الغباء الذي يلازم الجبابرة العتاة، إذ يقعون في التناقض من حيث لا يشعرون، فقد صرح قبل قليل بقوله:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، فعرب عن نفي المعلوم بنفي العلم، وأعلن تصميمه على الجحود، ثُمَّ ما عتم أن أعلن رجاءه الإطلاع، فهل كان مصمماً على الجحود أم لم يكن ((3)) ؟
المعنى العام
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}
(1) ينظر الكَشَّاف: 3 /180. البحر المحيط: 7/ 120.
(2)
الإطناب: هو البلاغة في المنطق والوصف مدحاً كان أو ذماً، وأطنب في الكلام بالغ فيه. ينظر معجم المصطلحات البلاغية: 1 /224.
(3)
ينظر الكَشَّاف: 3 /179 –180. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /231.
أي: وقال فرعون منكراً لما أتى به موسى (عليه السلام) من توحيد الله وحده وعبادته، فقد اخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" لما قال فرعون: {يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} قال جبريل (عليه السلام) : يا رب طغى عبدك، فأذن لي في هلاكه، قال: يا جبريل هو عبدي ولن يسبقني له أجل قد أجلته حتى يجيء ذلك الأجل، فلما قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} ((1)) قال جبريل: قد سكنت روعتك بقى عبدي وقد جاء أوان هلاكه "((2))
" أي أطبخ لي يا هامان الآجر، فعن ابن عباس رضي الله عنه وقتادة: هو أول من صنع الآجر وبنى به "((3)) .
وقد اختلف العلماء في فرعون هل بنى الصرح أم لا؟
1.
فقال قوم: إنه بناه، " فقالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتَّى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الاتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيدوه حتَّى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق فبعث الله تعالى جبريل (عليه السلام) عند غروب الشمس فضربه بجناحيه فقطعه ثلاث قطع "((4)) .
ونقل الآلوسي رواية عن السدي " بأنه لما بنى له الصرح ارتقى فوقه، وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي متلطخة دماً فقال: قتلت إله موسى "((5)) .
(1) سُوْرَة النَّازِعَاتِ: الآية 24.
(2)
ينظر تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 2979. والأثر لم أقف عليه في كتب الأحاديث والآثار.
(3)
ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5004 وما بعدها.
(4)
مفاتيح الغيب: 12 /253.
(5)
روح المعاني: 20 /80.
2.
ومن الناس من قال: إنه لم يبن ذلك الصرح، لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما يراها حين كان على قرار الأرض، ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل، وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء، وأن من حاول ذلك كان من المجانين، فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل، فيصير ذلك مشرعاً قوياً لمن أحب الطعن في القران ((1)) .
والذي أراه أن أمر فرعون لهامان ببناء الصرح لم يكن يقصد البناء حقيقة، ولكنه أراد الاستهزاء بموسى وتكذيبه بدلالة قوله تعالى حكاية عن فرعون:{وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} بعد الأمر ببناء الصرح، فهو إنما أراد أن يبين لهم بطريقة الاستدلال العقلي أنه لا دليل حيّ على وجود إله موسى، فأوهمهم بأن الإله لا بد أن يكون محسوساً، وهذا ما أراده من قوله لقومه:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}
أي: ما دمت أنا محسوساً فأنا أحق بالعبادة من إله موسى غير المحسوس وهذا من قلة عقله واستخفافه بعقول قومه.
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
(1) المصدر نفسه: 20/ 80.
أي: رأوا كل من سواهم حقيراً بالإضافة إليهم، ولم يروا العظمة والكبرياء إلا لأنفسهم، فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك للعبيد في الأرض وقوله:{بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، لأن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر، أي: المتبالغ في كبرياء الشأن، فكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق ((1)) . قال (صلى الله عليه وسلم) فيما يحكيه عن ربه:((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحدة منهما قذفته في النار)) ((2)) .
{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}
الظن، قيل: إما على ظاهره، أو عبر عن اعتقادهم به تحقيراً وتمهيلاً ((3)) .
ويقول الرازي في معنى قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} ، فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى، إلا أنهم كانوا ينكرون البعث، فلأجل ذلك تمردوا " ((4)) .
وقال ابن عاشور: " فذكر (إلينا) لحكاية الواقع وليس بقيد، فلا يتوهم أنهم أنكروا البعث ولم ينكروا وجود الله مثل المشركين، وبتقديم (إلينا) على عامله لأجل الفاصلة، ويمكن أن يكون المعنى: وظنوا أنهم في منعة من أن يقعوا في قبضة قدرتنا "((5)) . أو أنهم كانوا يعتقدون بالبعث، ولكن الذي يحاسبهم هو فرعون وليس الله سبحانه وتعالى كما هو الواقع بدليل قوله تعالى:{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُون} .
ما يستفاد من النصّ
(1) ينظر الكشاف: 3/ 181. روح المعاني: 20/ 82.
(2)
صحيح ابن حبان: 2 /35. المستدرك على الصحيحين: 1 /129. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأخرجه مسلم بغير هذا اللفظ.
(3)
روح المعاني: 20/ 83.
(4)
مفاتيح الغيب: 12/ 254.
(5)
التحرير والتنوير: 20/ 124.