الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالذي دفعني لكتابة هذا المطلب في موضوع الزمن في سورة القصص بصورة خاصة، والذي يعبر عن دلالته في القرآن الكريم بصورة عامة هو ما يتفوه به بعض المتشدقين بالحضارة الغربية، والمنبهرين بترهاتها، مما أدى بهم إلى أن ادعوا ظلماً وبهتاناً أن القرآن لم يعد يصلح لزمن العولمة ولزمن الإنترنت ((1)) ، فنحن نريد أن نثبت ونبرهن من خلال هذا المطلب أن الزمن مستمر في دلالته على الماضي، والحاضر، والمستقبل على ما سنبينه ـ إن شاء الله تعالى ـ في الفصل الثامن، وبهذا بينا وجهاً من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم بقدرته على الأخذ بدقة الحياة وتوجيهها نحو شاطئ الأمان، بعد أن تاه الناس في دوامة الأيديولوجيات الغربية والأفكار المشوهة، فإنها خطوة أولى تتبعها خطوات على طريق تفعيل العمل بالقرآن الكريم.
قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ((2)) .
المطلب الرابع: التربية والسلوك في سورة القصص
لا يمكن إغفال أمر مهم كل الأهمية في استعراضنا التحليلي لسورة القصص، مفاده أن المرامي التربوية والسلوكية فيها تختلف كل الاختلاف عن باقي السور القرآنية التي تحتوي على غايات تربوية وسلوكية وإرشادية في كونها استهدفت أربعة أمور استطعنا أن نستخلصها من تحليلنا العام للسورة:
تسلية قلوب المؤمنين إيمانياً.
طمأنينة النفوس الإيمانية.
توجيه الفهم المعرفي إيمانياً.
إبراز المآل والعاقبة في الدنيا والآخرة ((3)) .
(1) مفاهيم قرآنية. مُحَمَّد أحمد خلف الله. الطبعة الثانية. الكويت. 1985 م.:
(2)
سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 65.
(3)
ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم. د. عبد الحميد سليمان. الطبعة الأولى. دار الرياض. جدة. 1411 هـ: ص 221 - 222.
ولا ريب في أن هذه الأمور تستلزم أن نفهم مسارد مجيء الآيات القرآنية في سورة القصص من تلك التي تحتوي فيما تحتويه على مكامن تربوية وسلوكية وتحليلها، وفق نظرة عصرية حديثة جديدة، لأجل فهم أدق وأشمل لتلك الجوانب التربوية والسلوكية، تعد سورة القصص ـ وهي مكية كما قدمنا ـ من أوائل السور التي احتوت على كافة مبادئ الإرشاد التربوي الخمسة:
القراءة: {نَتْلُو عَلَيْكَ} ((1)) .
البيئة: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} ((2)) .
الاطمئنان: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} ((3)) .
الوصول: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ} ((4))
التذكير {وَمَا كُنتَ} ((5)) .
وهذه المبادئ الإرشادية التربوية الخمسة احتوت فيما احتوته على جوانب هي في حد ذاتها جوانب التربية والسلوك القرآني الإيماني، فنحن نجد مثلاً أن دلالة قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((6)) ، تدل فيما تدل عليه على أن الإنسان في بلوغه أشد عمره واستواء فهمه يؤتى إذا ما اخلص نيته لله سبحانه وتعالى الحكم والعلم، وبخاصة إذا ما ترقى في مرتبة الإحسان التي هي ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) ((7)) ، وبهذا تستقيم التربية التي حض عليها الله سبحانه وتعالى.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(5)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44، 45، 46، 86.
(6)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(7)
صحيح البخاري وهو جزء من حديث طويل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كتاب الإيمان. باب سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان والإسلام والإحسان 4 / 1793. رقم (50) .
ونجد كذلك أن دلالة قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((1)) ، تدل فيما تدل عليه على أن الخروج لطلب العلم والمعرفة والفهم تكمن في النفسية التي تستطيع بشخصيتها أن تستهدي بالله سبحانه وتعالى، لأن الهداية الإلهية أساس طلب العلم، وهذا من أهم مبادئ السلوك التربوي الحديث التي سبقت آيات سورة القصص نظريات التربية الحديثة إلى أبرزها، ونجد أن قوله تعالى:{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} ((2)) ، يدل فيما يدل عليه على أن المراد بالحياء التربوي أساس من أساسيات السلوك العام والخاص الذي يتوجه، كما قال علماء النفس والسلوك: في أن الحياء خصلة من خصال التربية التي لا يمكن إقامة نظام تربوي متكامل إلا بها، لأن الحياء في أساسه أساس فعل كل شيء، أو الامتناع عن فعل كل شيء ((3)) .
ونجد في قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} ((4)) أنه يدل على جواز طلب الاستعانة في العلم بمن هو ناطق اللسان، وهذا من مبادئ علم السلوك التربوي الحديثة التي تنص على أن من حق الطالب أن يستعين في عرض آرائه بمن هو أقدر منه على عرض المادة.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(3)
ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم: ص 232 – 235.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.
ونجد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، أنه يدل في مجمل دلالاته الكلية والجزئية على أن إتيان الكتاب يكون من بعد إهلاك من لا يستحق إتيان الكتاب، وأن في العلم البصيرة والبصر، والهداية والهدى، والرحمة، وأن الغاية التربوية من ذلك كله التذكر العلمي الذي تكون نتيجة تحصيل كمال المعرفة، وقد نص علماء السلوك على أن أخذ العلم بعد ذهاب من لا يستحقونه ينتج عنه كمال العلم نفسه، وبهذا كذلك نجد السبق التربوي السلوكي للقرآن الكريم من قبل أصحاب هذه النظريات الحديثة.
ونجد أن قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} ((2)) ، يدل في اقتضاءات سياقاته التربوية على أن نقصان الهداية وإتباع الهوى يؤدي إلى الضلال، وهذا ما قرره علماء التربية الحديثة، إذ جعلوا الهوى أحد مهلكات تحصيل العلم، وقرنوا بين الهوى النفسي (الرغبات الشخصية الذاتية) وبين الجهل المطبق، فجاء القرآن الكريم وأثبت هذه الحقيقة مما يدل على مصدره الإلهي.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 51.
ونجد أن قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} ((1)) ، يدل في الذي يدل عليه على الأمر بترك سماع ما لا ينفع، لأنه يأخذ مساحة من العقل، جديرة بأن يخزن فيها أمر نافع، ولعل ذلك بعض العلة في تعوذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من العلم الذي لا ينفع ((2)) . وهو عين ما قرره علماء الإرشاد التربوي اليوم.
ونجد أن قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} ((3)) ، ثم نهاية قارون التي خسف فيه من خلالها، يدل على عدم جواز الاغترار بالعلم وحده، بل لا بد من تطبيق العلم والعمل، أو العمل والعلم. ورحم الله الإمام السنوسي صاحب الجوهرة إذ قال:
وعالم بعلمه لم يعلمن
…
... معذب من قبل عباد الوثن
وكل من بغير علم يعمل
…
... أعماله مردودة لا تقبل ((4))
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55.
(2)
إشارة إلى حديث رواه مسلم عن زيد بن أرقم قال: ((لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) . صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، 4/ 2088 رقم (2722) .
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(4)
بوارق الحقائق. مُحَمَّد مهدي بهاء الدين الرواس. تحقيق: عبد الحكيم القباني. الطبعة الرابعة. (د. ن.) . دمشق. 1994 م: ص 218.
وهذا هو عين ما قرره علماء السلوك التربوي إذ قالوا: إن من اغتر بعلمه جهل نفسه وعلمه، وكان القرآن الكريم قد سبقهم إلى ذلك في هذه الحقيقة التي لا زالت عندهم هنالك في الغرب نظرية لم تحقق، وهذا بعض أوجه الإعجاز التربوي القرآني.
ونجد أن قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ((1)) ، يدل في مفهومه العام على أن الإنسان مهما كان في ماضيه، وحاضره، ومستقبله لا يمكن له أن يتنبأ بما يؤول إليه أمره في العلم والمعرفة، لأن ذلك من الأمور المقدرة المسلمة بيد الله سبحانه وتعالى، وهذه الحقيقة كررها في العصر الحديث علماء التربية إذ ذهبوا إلى أن الإنسان مهما بلغ ذكاؤه لا يمكنه أن يعلم ما سيكون عليه مستواه العلمي والتعليمي، ولكنهم لكفرهم لم ينسبوا ذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى، أما القرآن الكريم كلام الله جل جلاله، فقد أسند هذه الحقيقة لله سبحانه وتعالى ليسبق هؤلاء العلماء في هذه الحقيقة التربوية.
وبذلك يمكن لنا أن نقول: إن سورة القصص الكريمة قد احتوت فيما احتوته على كافة المبادئ التربوية والإرشادية والسلوكية التي لم يتوصل إليها علماء النفس من التربويين إلا في أخريات العصر الحديث، وهذا مما توصلت إليه بحمد الله وشكره.
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
فسورة القصص الكريمة في جوانبها التربوية، وفي مضامينها للسلوك التربوي لا تغفل أمراً، هو جد مهم في الحياة الإرشادية التعليمية والتفهيمية للإنسان ألا وهي الحرص على الجمع بين الدنيا والآخرة، وبين العمل للآخرة ـ وهو العمل الأهم ـ وبين عموم نسيان نصيب الإنسان من الحياة الدنيا ـ وهو العمل المهم ـ وهكذا فإن من قيم سُوْرَة الْقَصَصِ الإرشادية في ذلك قوله تعالى:{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((1)) ، فالإمامة للدنيا في بعض معانيها، والوراثة للآخرة، كما ذهب إلى ذلك من ذهب ((2)) .
ونجد أن الإرشاد في ذلك يتمثل في قوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} (3) ، فالتمكين في الأرض يكون بنصيب من الحياة الدنيا مقابل (الجنة) التي هي نصيب الآخرة.
ونجد أن موسى (عليه السلام) أجر نفسه ثمان حجج أو عشراَ، وهذا أمر دنيوي أريدت به مجموعة الأمور الأخروية، وذلك في قوله تعالى:{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((4)) .
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(2)
ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم: ص 187.
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.