الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن سياق النص في سورة القصص الشريفة يدل على مكيتها وكونها ذات صبغة مكية من خلال الضوابط التي وضعها العلماء للتميز بين المكي والمدني، ولما اشتملت عليه من ذكر القصص بإسهاب، ومن الدلائل على توحيد الله عزل وجل بأسلوب الجملة الطويلة، وخلوها من الجملة القصيرة. وتكرار ذكر الله عز وجل، واليوم الآخر فيها، وذلك من ضوابط السور المكية.
المطلب السادس: الأغراض العامة لسورة القصص ومقاصدها
قبل التحدث عن غرض السورة، ينبغي أن نبين الظروف التي نزلت فيها، لأن معرفتنا لذلك تفتح لنا الباب الواسع أمام معرفة أغراض السورة وأهدافها التي من أجلها أنزلت.
كما هو معلوم أن السورة مكية نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، وقد لاقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه (رضي الله عنهم) ألواناً من العذاب، فقد مات تحت العذاب من مات، وسلم من سلم، في حين نجد تجمع المال والقوة العددية في يد المشركين، والمسلمون لا يملكون سوى قلوباً عامرة بالإيمان، يصارعون بها كل جبروت قريش ((1)) ، فنرى تشابهاً واضحاً بين الظروف التي أحاطت بالمسلمين، مع الظروف التي مر بها سيدنا موسى (عليه السلام) مع قومه، حيث تسلط جبروت فرعون والأقباط على سيدنا موسى (عليه السلام) ـ وبني اسرائيل يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم، فجاءت هذه السورة بأغراض مهمة، يمكن أن نعد منها:
(1) ينظر السيرة النبوية: عَبْد الملك بن هشام بن أيوب الحِمْيَري المَعَافِري البَصْري أبو مُحَمَّد ت 213 هـ تقديم وتعليق: طه عَبْد الرَّؤُوْف سَعَد. دار الجيل. بيروت. 1411 هـ: 2 /254.
أولاً: تسلية الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام وشد أزرهم، ليعلموا أن النصر حليفهم مهما طالت ساعة إعلانه وكذلك لتبين لهم حقيقة مهمة وهي ان كل اصحاب الرسالات السماوية السابقة لم يكن طريق الدعوة الى الله أمامهم معبداً ممهداً، بل جاهدوا وقاتلوا وقَتلوا وعُذبوا حتىأتى نصرالله، قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيْبٌ} ((1)) .
وربما يسأل سائل: لماذا هذا العذاب الذي يلقاه الأنبياء وأتباعهم؟ والجواب عن ذلك أن الأنسان بطبيعته مكلف بالعبادة لله، فهو مقرون بهذه التكلفة فلا عبودية بدون تكليف، والتكليف يستلزم تحمل المشاق ففي كلّ الدعوات إلى الله هناك تكليف وهناك تحمل مشاق لحكم ثلاث، هي:
1-
لاثبات صفة العبودية لله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} ((2)) .?
2-
لإثبات صفة التكليف المتفرعة من صفة العبودية فما من مؤمن يبلغ سن الرشد إلا وهو مكلف من الله عز وجل بتحقيق شرعه وعليه أن يتحمل في سبيل ذلك كثيراً من المشاق والأذى ((3))
3-
لإظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ} ((4)) .
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 214.
(2)
سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 56.
(3)
ينظر فقه السيرة. مُحَمَّد سعيد رمضان البوطي. ط7. مَكْتَبَة الشرق الجديد. بغداد (د. ت) : ص85-86.
(4)
سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 3.
ثانيا - نزلت هذه السورة لتضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، ولتبين أن هناك قوة واحدة مؤثرة في الكون ألا وهي قوة الله وحده وأن هناك قيمة واحدة في الكون هي قيمة الإيمان. وجاءت السورة لتقرر حقيقة مهمة ثابتة على مرّ العصور أن النصر لا يأتي بالضرورة مع الكثرة والقوة وأن النصر يأتي بأمر الله وحده فهو الناصر الذي ينصر عباده، فمن كانت معه قوة الله فلا خوف عليه ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع قوى الكون ((1)) . ومن كتب الله عليه العذاب لا تنفعه كل استحكامات العالم. ففرعون لما أخبره الكهنة بان قتله سيكون على يد طفل من بني إسرائيل ((2)) ، أستخدم نفوذه وجبروته وسلطانه في قتل الأطفال من بني إسرائيل ووضع الأعين من نساء مصر لكي يخبرنه عن أي مولود لم يصل إليه خبره ولكن يقظته وحذره وسلطانه وعيونه لم تمكنه من إزالة الخطر عن نفسه ولم تدفع عنه خطر الطفل الصغير المجرد من كل قوة إلا من قوة الله عز وجل فهي القوة الحقيقية في الكون فكان هذا الطفل الذي تربى في حجر فرعون سبباً في إنهاء جبروت فرعون وسلطانه.
(1) ينظر في ظلال الَقُرْآن. سيد قطب. الطبعة الثانية. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1971 م: 6 /317.
(2)
تفسير القرآن العظيم. الإِمَام الحَافِظ عماد الدِّيْن أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي. ت 774 هـ. ط1. دار مَكْتَبَة الهلال. بيروت. لبنان. 1986 م: 2 /225.
ثالثاً - بعد أن بين الله جل وعلا نهاية طغيان الملك والقوة أمام قوة الله تنتقل الآيات لتبين حقيقة أخرى وغرض آخر وهو نهاية طغيان الكفر، ثُمَّ نهاية طغيان المال وذلك من خلال قصة قارون مع قومه وكان قارون من قوم موسى قال تعالى:{إِنَّ قَرُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِم} ((1)) فخرج على قومه بهيئة المتبختر وهو يحسب انه أوتي هذا المال والعلم عن ذكاء ودهاء فانقسم قومه على فريقين فريق فتن فيه وتمنوا مكانه:
…
{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَرُون} ((2)) .
…
وفريق آخر هم عباد الله الصالحين لم يهتزوا بهذه المظاهر الزائفة {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} ((3)) .
…
وهنا تتدخل قوة الله فتخسف به وبداره الارض فلا يغني عنه ماله وعلمه من الله شيئاً. وقصة قارون مرتبطة كلّ الارتباط بنهاية فرعون وطغيانه، فالقصتان تعبران عن استمرار الانذار الإلهي.
رابعاً - كذلك تعزز السورةغرضاً آخراً، وهو التاكيد على أن الدنيا زائفة فانية، وأن الدار الباقية هي دار القرار (الجنة) جعلها الله للذين لا يريدون علواً في الارض ولا فساداً، وأن العاقبة للمتقين.
خامساً - في ختام السورة هناك وعدٌُ وبشارة للرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحبه الكرام بنصر الله والرجوع الى مكة فاتحاً منتصراً لنشر دعوة الاسلام الى أرجاء المعمورة وإمتلاك زمام الامور في الجزيرة العربية وانتقال مركز القوى من يد الشر الى الخير والى الابد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((4)) .
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(3)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 80.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.