الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد أن ذهب إلى مدين واتصل بالشيخ الكبير والد البنات وقص عليه قصته فطمأنه: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((1)) .
وبعد البعثة طلب المعونة من الله أن يرسل معه أخوه هارون {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} ((2)) .
ونلاحظ في سورة النمل أنه لم يرد ذكر للخوف إلا في مقام العصا: {يا يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ((3)) . وانما اخترنا سُوْرَة النَّمْلِ نموذجاً للمقارنة بين القصتين، وقد وضعنا الجدول في أول المطلب لتسهيل المقارنة.
المبحث الثاني: موقف فرعون وقومه من دعوة سيدنا موسى (عليه السلام
-)
المطلب الأول: اتهام سيدنا موسى بالسحر
المناسبة
لقد بينت الآيات السابقات أن الله جل وعلا قد وعد سيدنا موسى بأن يجيب طلبه ودعائه بأن يحميه من فرعون وملائه، وأن يرسل معه أخوه هارون معيناً:
{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ، وليبين جل وعلا سرعة امتثال موسى وهارون لأمر الله قال:{فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَا سِحْرٌ مُفْتَرًى} .
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(2)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.
(3)
سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 10.
(4)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 36 - 37.
وقال البقاعي: " ولما كان التقدير فأتاهم كما أمر الله وعاضده أخوه كما أخبر الله ودعواهم إلى الله تعالى، وأظهر ما أمر به من الآيات بنى عليه قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله {فَلَمَّا جَاءهُمْ} ، أي: فرعون وقومه، ولما كانت رسالة هارون (عليه السلام) إنما هي تأييد لموسى (عليه السلام) أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي فقال {مُوسَى بِآيَاتِنَا} ((1)) .
فنلاحظ مرة أخرى إلى روعة التناسق والتناسب في الآيات القرآنية كذلك الروعة في استخدام الحروف للدلالة على معانٍ لا يمكن أن تعبر عنها الجمل الطويلة.
تحليل الألفاظ
1.
{سِحْرٌ} :
قال ابن منظور: هو كل ما لطف مأخذه ودقّ فهو سِحْر والجمع أسْحَار وسَحُور وسَحَرَة يَسْحَرَه سَحْراً وسِحْراً وسحَّرَه. ورجل ساحِر من قوم سَحَرَة وسُحَّار من قوم سَحَّارِين. وأصل السِحْر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لمّا أُري من الباطل في الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته ـ وقد سَحَر الشيء عن وجهه، أي: صرفه ((2)) وعرف الشافعي السِحْر بأنه: " عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور وقلبه، أو عقله من غير مباشرة وله حقيقته "((3)) .
2.
{مُفْتَرًى} :
الفِرْية الكذب فَرَى كَذِباً فَرْيَاً وافْتَرَاه اختلقه، ورجل فَرِىُّ ومِفْرىً وأنه لقبيح الفِرْيَة، قال الليث: يقال فَرَى فلان الكذب يَفْرِيه إذا اختلقه ((4)) .
القراءات القرآنية
1.
{وَقَالَ مُوسَى} :
(1) نظم الدرر: 5/ 488.
(2)
لِسَان العَرَب: مَادة (سحر) 4/ 348.
(3)
المغني (ابن قدامة) : 8/ 28.
(4)
لِسَان العَرَب: مَادة (فري) 15/ 154.
قرأ ابن كثير: (قال) بغير واو لأنها كذلك في مصحف أهل مكة كأنه استئناف كلام. وقرأه الباقون: (وقال) بالواو، كأنه عطف على ما قبله عطف جملة على جملة ((1)) .
2.
{رَبِّي أَعْلَمُ} :
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر بالفتح (رَبِّيَ) بالفتح ((2)) .
المعنى العام
{فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} وهي العصا واليد (بينات) ، أي واضحات الدلالة على صدقه وأنه أمر خارق معجز، كفوا عن مقاومته ومعارضته، فرجعوا إلى البهت والكذب، ونسبوه إلى السحر، لأنهم يرون الشيء على حالة، ثم يرونه على حالة أخرى، ثم يعود إلى الحالة الأولى، فزعموا أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله، فليس بمعجز ثم مع دعواهم إنه سحر مفترى وكذبهم في ذلك، زادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آباءهم، أي: في زمان آبائهم وأيامهم ((3)) .
لما اخبره تعالى بقولهم عطف عليه الأخبار بقول موسى (عليه السلام)
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، ليوازن السامع بين الكلامين ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما فبضدهما تتبين الأشياء ((4)) .
(1) الكشف عن وجوه القراءات: 2/ 174 الإقناع في القراءات السبع: 2/ 723.
(2)
الكشف عن وجوه القراءات: 2/ 176.
(3)
ينظر البحر المحيط: 7/ 119.
(4)
ينظر نظم الدرر: 5/ 489.
وقال الرازي في تفسيره لقوله تعالى: {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} :
" من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة، والدليل عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ} ((1)) . وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} ((2)) ، والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقابها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان، وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت، فإن قيل: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأن الدنيا قد تكون خاتمتها خير في حق البعض، وشر في حق البعض الآخر، فلم اختصت خاتمتها بالخير في هذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلنا: إنه قد وضع الله سبحانه وتعالى الدنيا مجازاً إلى الآخرة، وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الخير، وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار، ثُمَّ إنه (عليه السلام) أكد ذلك بقوله: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، أي: لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع، بل يحصلون على ضد ذلك، وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم "((3)) .
ما يستفاد من النص
(1) سُوْرَة الرَّعْدِ: الآيتان 22 -23.
(2)
سُوْرَة الرَّعْدِ: الآية 42.
(3)
مفاتيح الغيب: 12 / 351.
أولاً ـ في هذه الآية بشرى من البشارات القرآنية لانتصار المسلمين على أعدائهم، وذلك قوله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، وهذه الآية نظير ما جاء في سورة الأعراف من قول موسى لقومه:{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((1)) .
فمن السنن الإلهية التي لا تنتهي أبداً هي أن العاقبة الحسنة للمتقين في الدنيا والآخرة، وليست مقصورة على الآخرة بدخول الجنان، وإنما تشمل عاقبتهم الحسنة المرضية في الدنيا، وتشمل انتصارهم على أعدائهم وإزالة الظلم عنهم، واسترداد حقوقهم، وعزتهم وكرامتهم، وعلو مكانتهم. وهذه العاقبة الحسنة هي للمتقين من عباده، وهم القائمون بكل مقتضيات ولوازم العبودية لله، والتي هي عبادة الله وحده لا شريك له، وتنفيذ ما أمر الله به، والابتعاد عمّا نهى عنه، وتحكيم شرع الله، وإقامة المجتمع الصالح القائم على الأخلاق الفاضلة التي ربى عليها الإسلام الجيل الأول ((2)) .
ودلت كذلك على الاستعانة بالله في جميع الأحوال وجمع الكلمة، ولا ينبغي للمسلم أن ييأس أبداً.
(1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 128.
(2)
ينظر المستفاد من قصص القران: 1/ 375.
ثانياً ـ نلاحظ التشابه الواضح في رد فعل قوم فرعون من دعوة سيدنا موسى (عليه السلام) واتهامهم له بالسحر في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَا سِحْرٌ مُفْتَرًى} ، ورد فعل كفار قريش من دعوة المصطفى
(صلى الله عليه وسلم) وعجزهم عن معارضته لما رأوا فصاحة القران وبلاغته، نسبوه إلى السحر قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} ((1)) ، فعلى الدعاة أن لا يضجروا من عدم استجابة من يدعونهم إلى الله، فالناس بطبيعتهم يختلفون في مدى استعدادهم للاستجابة لصوت الحق وفي سرعة هذه الاستجابة، فمن الناس من يقبل الحق بدون تردد، ومن الناس من لا يقبل الدعوة إلى الله ويظل يقاومها ثُمَّ يقبلها بعد ذلك، فعلى الداعي أن يفقه ذلك، ولا يتعجب ولا ييأس من الاستجابة له حتَّى من أعتى الناس وأشدهم مقاومة للدين ((2)) .
وكذلك ما ورد أيضا من تشابه بين ما جاء في خطاب سيدنا موسى
(عليه السلام) لقومه: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} .
وما ورد من خطاب الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) للمشركين بقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} ((3)) .
وهو يرجح ما ذهبت إليه.
(1) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 30.
(2)
ينظر المستفاد من قصص القران: 1/ 376.
(3)
سُوْرَة سَبَأ: الآيات 24-26.