الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا كان كل هذا داخلاً فكيف بمن يعين دول الكفر على المسلمين ويفتح ديار المسلمين ومطاردتهم لضرب المسلمين. فأعوان الظلمة ظلمة مثلهم وشركاه لهم في العذاب الدنيوي والأخروي، ولذلك لما نزل العذاب بفرعون نزل بأعوانه أيضاً. قال تعالى عن هلاك فرعون وجنوده بالغرق:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((1)) .
" فجعلهم الله جميعاً ظالمين، فرعون لمباشرته الظلم إرادة له وأمراً به، وجنوده لمعاونتهم له بتنفيذ ظلمه وما يأمرهم به من أنواع بغيه وظلمه "((2)) . وهم مشتركون في العذاب الأخروي قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} ((3)) .
ثالثاً. ودلت الآيات كذلك على عدم التعسف في أخذ الحق، ولذلك عد سيدنا موسى (عليه السلام) إفراطه بما لا يقصد في ردع المعتدي من عمل الشيطان {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} .
وقد جاء كذلك في القرآن النهي عن الإسراف في أخذ الحق قال تعالى:
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ
مَنصُوراً} ((4)) .
رابعاً. ودلت الآيات كذلك على أن الغضب من الشيطان، وعلى الإنسان أن يبادر إلى التعوذ بالله من الشيطان الرجيم في حالة امتلكه الغضب.
خامساً. وتدل الآيات كذلك على أن يبادر الإنسان إلى الاستغفار عند حصول الذنب والالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه.
المطلب الثالث: فرعون يريد قتل موسى (عليه السلام) لقتله القبطي
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(2)
المستفاد من قصص القرآن: 1 /367.
(3)
سُوْرَة هُوْد: الآية 98.
(4)
سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 33.
المناسبة
بعد أن بينت الآيات السابقات ما جرى من محاورة بين سيدنا موسى (عليه السلام) والإسرائيلي الذي كشف بحماقته أمر موسى (عليه السلام) ، وسمع الفرعوني كلماته فترك الخصومة وأسرع ليخبر جنود فرعون الموكلين بالبحث عن القاتل ليخبرهم بما سمع، أدرك سيدنا موسى أنه أصبح في خطر، وأن جنود فرعون سيلاحقونه، فأخذ يفكر في وسيلة للنجاة.
" وظاهر النظم أن الرجل جاء على حين محاورة القبطي مع موسى، فلذلك انطوى أمر محاورتها ما هو أهم منه وأجدى في القصة "((2)) . وفي هذه الأثناء تضيق الدنيا أمام عيني سيدنا موسى (عليه السلام) ، إلا من رحمة الله وعونه، فلا ناصر إلا هو، فهنا تسفر يد القدرة في اللحظة المطلوبة لتتم مشيئتها، فانتدبت يد القدرة واحداً من الملأ ليحذر موسى ويخبره بضرورة خروجه من مصر ((3)) .
فنلاحظ من الترابط بين هذا النص والذي قبله أن الآيات بينت الخطر الذي يمرّ به سيدنا موسى (عليه السلام) من خلال كشف الإسرائيلي لأمر موسى، فتأتى الآيات التي بعدها لتبين التدخل الإلهي لإنقاذ نبيه (عليه السلام) من القتل بقوله:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} .
تحليل الألفاظ
1.
{أَقْصَى} :
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 20 –21.
(2)
في ظلال القرآن: 6 /334.
(3)
التحرير والتنوير: 2 0/95.
" قَصَا عنه قَصْوا وقُصُوَّا وقَصَا وقَصاء وقَصِيَ: بَعُدَ. وقَصَا المكانُ يَقْصُو قُصُوًّا: بَعُدَ. والقَصِيُّ والقَاصِي: البعيد والجمع أقْصَاء فيها كشَاهِد وأَشْهَاد ونَصِير وأَنْصَار "((1)) .
2.
{يَسْعَى} :
قال ابن منظور: " السَّعْيُ: عَدْوٌ دُوْنَ الشَّدِّ سَعَى يَسْعَى سَعْيًا "((2)) وجاء السعي في القران الكريم على ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: المشي كقوله تعالى في {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} ((3)) .
الوجه الثاني: السعي يعني العمل كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} ((4)) .
الوجه الثالث: السعي يعني أسرع كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ((5)) .
3.
{الْمَلأَ} :
قال ابن منظور: " المَلأَ الرؤساء سموا بذلك، لأنهم مِلاء بما يحتاج إليه. والمَلأ مهموز مقصور الجماعة.
وقيل: أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم " ((6)) .
4.
{يَأْتَمِرُونَ} :
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (قصي) 15/ 183.
(2)
لِسَان العَرَب: مَادة (سعي) 14 /385.
(3)
سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 260.
(4)
سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 19.
(5)
سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(6)
لِسَان العَرَب: مَادة (ملأ) 1 /195. وينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 492.
قال ابن منظور: تأمَّروا على الأمْرِ. وائْتَمَرُوا: تَمَارَوْا وأَجْمَعُوا آرَاءَهم. وفي التنزيل: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} . قال أبو عبده أي: يتشاورون عليك ليقتلوك. وقال القتيبي: إن معناها إن الملأ يأتمرون بك، أي: يهمون بك، ولو كان كما قال أبو عبيدة لقال: يَتَأَمَّرُون بك. وقال الزجاج: معناها يأمُرُ بعضهم بعضاً بقتلك ((1)) .
وقال ابن عاشور: " أصل الائتمار قبول أمر الأمر فهو مطاوع أمره، ثم شاع إطلاق الائتمار على التشاور لأن المتشاورين يأخذ أمر بعض فيأتمر به الجميع
((2)) .
القراءات القرآنية
1.
{أَقْصَى الْمَدِينَةِ} :
قرئت بالإمالة وقفاً عند كل من حمزة، والكسائي، وورش، وخلف.
2.
{يَسْعَى} :
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وورش بالإمالة.
{عَسَى} :
قرأ حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة أيضاً ((3)) .
4.
{رَبِّ} :
قرئت بالفتح (رَبَّىَ) عند كل من نافع، وابن كثير، وأبي عمر، وأبي جعفر ((4)) .
المعنى العام
1.
{وَجَاءَ رَجُلٌ} :
قيل: إن اسم الرجل سمعون. وقيل: سمعان. وقيل: حزقيل بن صبورا مؤمن من آل فرعون، وكان ابن عم فرعون ذكر ذلك الثعلبي. وقيل: طالوت ذكره السهيلي. وقيل: شمعان ((5)) .
2.
(1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (أمر) 4 / 29.
(2)
التحرير والتنوير: 20 / 96.
(3)
إتحاف فضلاء البشر: ص 341. غيث النفع في القراءات السبع. عَلِيّ النوري الصفاقسي. مطبوع بذيل كتاب سراج القاري المبتدي وتذكار المقرئ المنتهي. ط1. المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1352هـ – 1934 م.: ص 316.
(4)
النشر في القراءات العشر: 2 /342. الكشف عن وجوه القراءات: 2 /176.
(5)
ينظر جامع البيان: 10 /5. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4982.
قال البقاعي: " أبعدها مكاناً "((1)) .
وقال ابن عاشور: " والظاهر أن (أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هو ناحية قصور فرعون وقومه، فإن عادة الملوك السكنى في أطراف المدن توقياً من الثورات والغارات لتكون مساكنهم بخروجهم عند الخوف "((2)) .
3.
{يَسْعَى} :
قال قتادة: " يعجل "((3)) . وقال البقاعي: " إنه بين بقوله: {يَسْعَى} كان ماشياً، ولكنه اختصر طريقاً وأسرع في مشيه، بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي، وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه "((4)) .
4.
{قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} :
قيل في معنى {يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ثلاثة أقوال:
الأول: يتشاورون فيك ليقتلوك، قاله أبو عبيدة.
الثاني: يهمّون بك، قاله ابن قتيبة.
الثالث: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك، قاله الزجاج ((5)) .
والذي أراه راجحاً هو الرأي الأول.
5.
{فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} :
قال البقاعي: " ثم علل ذلك على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرقه من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك {إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ) ، أي: العريقين في نصحك "((6)) .
وقد جاء ذكر الرجل المؤمن في القرآن الكريم في عدة مواضع من الَقُرْآن الكَرِيم:
استذكر على فرعون وملئه حينما قرروا قتل موسى (عليه السلام) قال تعالى عن لسان فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} ((7)) فقال لهم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} ((8)) .
(1) نظم الدرر: 5 /474.
(2)
التحرير والتنوير: 20 /95.
(3)
جامع البيان: 10 /50.
(4)
نظم الدرر: 5 /474.
(5)
زَاد المَسِيْر: 6 /210 –211.
(6)
نظم الدرر: 5 /475.
(7)
سُوْرَة غَافِرِ: الآية 26.
(8)
سُوْرَة غَافِرِ: الآية 28.
لما قال فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ((1)) . {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} ((2)) .
وبعد أن أمر فرعون هامان بناء الصرح استهزاءً بوعود موسى (عليه السلام) :
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} ((3)) . فقال الرجل المؤمن: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ((4)) ، ثم أراد تخويفهم وتهديدهم فقال لهم:
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} ((5)) . قال مقاتل: قال هذه الكلمات فقصدوا قتله، فهرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه، وقيل: نجا مع موسى في البحر وفر معه قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} ((6)) .
6.
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : فخرج من المدينة خائفاً يترقب لحوق الظالمين. {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : خلصني منهم واحفظني من لحوقهم ((7)) .
ما يستفاد من النصّ
نستطيع أن نستنبط من الآيات السابقة المعاني الآتية:
(1) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 29.
(2)
سُوْرَة غَافِرِ: الآية 30.
(3)
سُوْرَة غَافِرِ: الآيتان 36 –37.
(4)
سُوْرَة غَافِرِ: الآية 38.
(5)
سُوْرَة غَافِرِ: الآية 44.
(6)
سُوْرَة غَافِرِ: الآية 45.
(7)
إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /8.
أولا. إنه يجوز عند الضرورة خروج الداعي من بلده فراراً من عدوه، ولهذا قبل موسى (عليه السلام) نصيحة مؤمن آل فرعون بالخروج من مصر، لأن الملأ من قوم فرعون يتشاورون في قتله، ولا يعدّ هذا الفرار جبناً من الداعية، لأن الداعي في كرّ وفرّ مع أعداء الله. والداعية إذ يفعل ذلك، فلأن حياته ليست ملكاً له، بل هي ملك الله، ومن الأولى الإبقاء عليها خدمة لدعوته، ولا يجوز له أن يعرضها للهلاك بالبقاء في مواجهة العدو مع عدم التكافئ في القوة بينه وبين عدوه.
ثانياً. يلمح المتابع أن هناك تشابهاً كبيراً بين خروج سيدنا موسى (عليه السلام) ، وهجرة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وما رافقها من ظروف صعبة شبيهة بالتي مرت على موسى (عليه السلام) . فلما خشيت قريش من تفاقم أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) واتساعه، اجتمعوا في دار الندوة للتشاور فيما يجب أن يفعلوه برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق. وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعض آخر: أخرجوه من مكة، فقال لهم أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من بطون قريش غلاماً وتعطوه سيفاً فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم. قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ((1)) . وهنا تتدخل القدرة الإلهية لحمايته (صلى الله عليه وسلم) ، فيرسل الله جل وعلا سيدنا جبريل (عليه السلام) ليخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بما عزم عليه المشركون، وأخبره بأن الله أذن له بالهجرة إلى المدينة.
(1) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 30.