الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استولَى عَلَى أَرْمِيْنِيةَ، وَكَانَ مُحَارِباً لِلسُّلْطَانِ صَلَاح الدِّيْنِ، فَلَمَّا بلغَه مَوْته، أَمر بِضَرْب البشَائِر، وَعَمِلَ تختاً، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَسَمَّى نَفْسه عَبْد العَزِيْزِ، وَتلقّب بِالسُّلْطَان المُعْظَّم صَلَاح الدِّيْنِ، فَمَا أَمهله الله، وَقُتِلَ غيلَة بَعْد شَهْر، فِي أَوَّلِ جُمَادَى الأُوْلَى، سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، خَرَجَ عَلَيْهِ خشدَاشه، وَزوج بِنْته الأَمِيْر هزَار دِيْنَارِي، ثُمَّ تَملّك بَعْدَهُ، وَلقّبَهُ بَدْر الدِّيْنِ (1) ، فَبقِي خَمْس سِنِيْنَ، وَمَاتَ، فَملّكُوا مُحَمَّد بن بُكْتَمُر، ثُمَّ قَبَض عَلَى نَائِبه شُجَاع الدِّيْنِ، ثُمَّ ثَار أُمَرَاء، وَخنقُوا مُحَمَّداً، وَتَملّك بلبَان سَنَة، ثُمَّ تسلّمهَا الأَوْحَدُ ابْن الْملك العَادل.
151 - صَلَاحُ الدِّيْنِ وَبَنُوْهُ *
السُّلْطَانُ الكَبِيْرُ، المَلِكُ النَّاصِرُ، صَلَاحُ الدِّيْنِ، أَبُو المُظَفَّرِ يُوْسُفُ ابْنُ الأَمِيْرِ نَجْمِ الدِّيْنِ أَيُّوْبَ بنِ شَاذِي بنِ مَرْوَانَ بنِ يَعْقُوْبَ الدُّوِيْنِيُّ (2) ، ثُمَّ التِّكرِيتِيُّ (3) المَوْلِد.
(1) يعني الأمير هزار ديناري زوج ابنته.
(*) سيرته مشهورة طبقت الآفاق لما له من الايادي البيض على الإسلام وأهله، ومنها فتح
البيت المقدس وتخليصه من براثن الصليبيين، فرضي الله تعالى عنه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وقلما يخلو كتاب تاريخ من أخباره ممن تناولوا عصره، فانظر التعليق على التكملة للمنذري، الترجمة:189.
(2)
وبعضهم فتح الدال من (دوين) ، منهم ياقوت في (معجم البلدان) ، وقد وجدت الذهبي يفتحها في بعض الأحيان، ويضمها في أكثرها كما هو مثبت بخطة في (تاريخ الإسلام) . وقد وجدناها في أصل النسخة مضمومة فأبقيناها.
(3)
قيدها ياقوت بفتح التاء وذكر أن العامة تكسرها، وقيدها السمعاني بالكسر، ولم يشر إلى فتحها.
فكأن الشائع هو الكسر، وبه أخذ السمعاني، ولا يزال الناس يكسرون التاء حتى يومنا هذا، فهذا هو المرجح، ومما يقويه أن ابن الأثير حينما اختصر (الأنساب) لم يذكر رواية أخرى، وهو العارف بها.
وُلِدَ فِي: سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ إِذْ أَبُوْهُ نَجْم الدِّيْنِ مُتَوَلِّي تِكرِيتَ نِيَابَةً.
وَدُوِيْنُ: بُليدَة بِطرف أَذْرَبِيْجَان مِنْ جِهَةِ أَرَان وَالكَرَجِ، أهلهَا أَكرَادٌ هَذَبَانِيَّة.
سَمِعَ مِنْ: أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ، وَالفَقِيْه عَلِيّ ابْن بِنْت أَبِي سَعْدٍ، وَأَبِي الطَّاهِر بن عَوْف، وَالقُطْب النَّيْسَابُوْرِيّ، وَحَدَّثَ.
وَكَانَ نُوْر الدِّيْنِ (1) قَدْ أَمَّرَه، وَبعثَه فِي عَسْكَره مَعَ عَمّه أَسَد الدِّيْنِ شِيرْكُوْه، فَحكم شِيرْكُوْه عَلَى مِصْرَ، فَمَا لَبِثَ أَنْ تُوُفِّيَ، فَقَامَ بَعْدَهُ صَلَاح الدِّيْنِ، وَدَانت لَهُ العَسَاكِر، وَقهر بنِي عُبَيْد، وَمحَا دَوْلَتهُم، وَاسْتَوْلَى عَلَى قَصْر القَاهِرَة بِمَا حوَى مِنَ الأَمتعَة وَالنّفَائِس، مِنْهَا الْجَبَل اليَاقُوْت الَّذِي وَزنهُ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَماً؛ قَالَ مُؤلِّف (الكَامِل) ابْن الأَثِيْر (2) : أنَا رَأَيْتهُ وَوزنته.
وَخلَا القَصْر مِنْ أَهْلِهِ وَذخَائِره، وَأَقَامَ الدعوَة العَبَّاسِيَّة.
وَكَانَ خليقاً لِلإِمَارَة، مَهِيْباً، شُجَاعاً، حَازِماً، مُجَاهِداً، كَثِيْر الغَزْو، عَالِي الهِمَّة، كَانَتْ دَوْلَته نَيِّفاً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً.
وَتَمَلَّكَ بَعْدَ نُوْر الدِّيْنِ، وَاتَسَعت بلَاده.
وَمنذ تسلطَنَ، طَلّق الخَمْر وَاللَّذَات، وَأَنشَأَ سوراً عَلَى القَاهِرَة وَمِصْر (3) ، وَبَعَثَ أَخَاهُ شَمْس الدِّيْنِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّيْنَ، فَافْتَتَحَ برقَة، ثُمَّ
(1) يعني نور الدين محمود بن زنكي.
(2)
(الكامل) : حوادث سنة 567، 11 / 369 (ط. بيروت) وأصل النص:(وزنه سبعة عشر درهما، أو سبعة عشر مثقالا، أنا لا أشك، لأنني رأيته ووزنته) .
(3)
يعني فسطاط مصر، وكانت لفظة (مصر) وحتى اليوم تطلق على الفسطاط.
افْتَتَحَ اليَمَن، وَسَارَ صَلَاح الدِّيْنِ، فَأَخَذَ دِمَشْق مِنِ ابْن نُوْر الدِّيْنِ (1) .
وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ حَاصر عَزَاز (2) ، وَوَثَبَتْ عَلَيْهِ البَاطِنِيَّة، فَجرحوهُ.
وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ كَسرته الفِرنْج عَلَى الرَّمْلَة، وَفَرَّ فِي جَمَاعَةٍ، وَنجَا.
وَفِي سَنَةِ خَمْس التقَاهُم وَكسرهُم (3) .
وَفِي سَنَةِ سِتّ أَمر بِبنَاء قَلْعَة الْجَبَل.
وَفِي سَنَةِ ثَمَان عَدَّى الفُرَات، وَأَخَذَ حرَّان، وَسَرُوْج، وَالرَّقَّة، وَالرُّهَا، وَسِنْجَار، وَالبِيْرَة، وَآمِد، وَنَصِيْبِيْن، وَحَاصَرَ المَوْصِل، ثُمَّ تَملّك حلب، وَعوّض عَنْهَا صَاحِبهَا زَنْكِي بِسِنْجَار، ثُمَّ إِنَّهُ حَاصر المَوْصِل ثَانِياً وَثَالِثّاً، ثُمَّ صَالَحَه صَاحِبُهَا عِزّ الدِّيْنِ مَسْعُوْد، ثُمَّ أَخَذَ شَهْرزور وَالبوازِيج (4) .
وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِيْنَ فَتح طبريَّة، وَنَازل عَسْقَلَان، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَة حِطِّيْن بَيْنَهُ وَبَيْنَ الفِرنْج، وَكَانُوا أَرْبَعِيْنَ أَلفاً، فَحَال بَيْنهُم وَبَيْنَ المَاء عَلَى تلّ، وَسلّمُوا نُفُوْسهُم، وَأُسِرَتْ ملوكهُم، وَبَادر، فَأَخَذَ عكَّا وَبَيْرُوْت وَكَوْكَب، وَسَارَ فَحَاصَر القُدْس، وَجدّ فِي ذَلِكَ فَأَخَذَهَا بِالأَمَان.
(1) هو الملك الصالح إسماعيل.
(2)
بلدة تقع شمالي حلب، وفيها قلعة حصينة، وقد حاصرها السلطان ثمانية وثلاثين يوما. (انظر تفاصيل ذلك في (الكامل) لابن الأثير: 11 / 194 - 195) .
(3)
قد أسر فيها صاحب الرملة وصاحب طبرية، وتعرف هذه الوقعة بمرج العيون.
(4)
راجع (معجم البلدان) لياقوت و (مراصد الاطلاع) عن هذه الامكنة وغيرها مما يرد ذكره، وهي معروفة فيها.
وَسَارَ عَسْكَر لابْنِ أَخِيْهِ تَقِيّ الدِّيْنِ عُمَر فَأَخذُوا أَوَائِل المَغْرِب، وَخطبُوا بِهَا لِبَنِي العَبَّاسِ.
ثُمَّ إِنَّ الفِرنْج قَامت قيَامتهُم عَلَى بَيْتِ المَقْدِس، وَأَقْبَلُوا كَقَطِيع اللَّيْل المُظْلِم برّاً وَبَحْراً وَأَحَاطُوا بعكَّا ليستردّوهَا وَطَال حصَارهُم لَهَا، وَبَنَوا عَلَى نُفُوْسهم خَنْدَقاً، فَأَحَاط بِهِم السُّلْطَان، وَدَام الحصَار لَهُم وَعَلَيْهِم نَيِّفاً وَعِشْرِيْنَ شَهْراً، وَجَرَى فِي غُضُون ذَلِكَ ملَاحم وَحُرُوْب تُشيِّب النَّوَاصي، وَمَا فَكُّوا حَتَّى أَخَذُوهَا، وَجَرَتْ لَهُم وَللسُلْطَان حُرُوْب وَسِير.
وَعِنْدَمَا ضَرِسَ الفرِيقَان، وَكُلّ الحزبَان، تَهَادن الملتَان.
وَكَانَتْ لَهُ همَّة فِي إِقَامَة الجِهَاد، وَإِبَادَة الأَضدَاد مَا سُمِعَ بِمِثْلِهَا لأَحدٍ فِي دَهْر.
قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ فِي حِصَار عزَاز (1) : كَانَتْ لجَاولي خيمَة كَانَ السُّلْطَان يَحضر فِيْهَا، وَيَحضّ الرِّجَال، فَحضر باطنِيَّة فِي زيِّ الأَجْنَاد، فَقفز عَلَيْهِ وَاحِد ضربه بِسكين لَوْلَا المِغْفَرُ الزَّرَدُ (2) الَّذِي تَحْت القلنسوَة، لِقتله، فَأَمسكَ السُّلْطَان يَد البَاطِنِيّ بيدَيْهِ، فَبقِي يَضربُ فِي عُنُق السُّلْطَان ضرباً ضَعِيْفاً، وَالزَّرَدُ تَمنع، وَبَادر الأَمِيْر بَازكوج، فَأَمسك السِّكِّين، فَجرحته، وَمَا سيَّبهَا البَاطِنِيّ حَتَّى بَضَّعُوْهُ، وَوَثَبَ آخر، فَوَثَبَ عَلَيْهِ ابْن منكلَان، فَجرحَه البَاطِنِيُّ فِي جنبه، فَمَاتَ، وَقُتِلَ البَاطِنِيّ، وَقفز ثَالِث، فَأَمسكه الأَمِيْر عَلِيُّ بن أَبِي الفَوَارِسِ، فَضمَّه تَحْتَ إِبطه (3) ، فَطعَنَه صَاحِب حِمْص (4) ، فَقَتَلَهُ،
(1)(مفرج الكروب) : 2 / 44 - 45.
(2)
زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
(3)
في (مفرج الكروب) : من تحت إبطيه.
(4)
يعني ناصر الدين ابن أسد الدين شيركوه.
وَركب السُّلْطَانُ إِلَى مُخيَّمه، وَدَمُه يَسِيْل عَلَى خَدّه، وَاحتجب فِي بَيْت خشب، وَعرض جُنْده، فَمَنْ أَنْكَره، أَبعدَهُ.
قَالَ المُوَفَّق عَبْد اللَّطِيْفِ: أَتيت، وَصَلَاح الدِّيْنِ بِالقُدْس، فَرَأَيْت ملكاً يَملأَ العُيُون روعَة، وَالقُلُوْب مَحَبَّة، قَرِيْباً بعيداً، سهلاً، محبَّباً، وَأَصْحَابه يَتشبَّهون بِهِ، يَتسَابقُوْنَ إِلَى المَعْرُوف، كَمَا قَالَ -تَعَالَى* -:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُوْرِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحِجْرُ: 47] وَأَوّل لَيْلَة حضَرتُهُ وَجَدْت مَجْلِسه حَفْلاً بِأَهْلِ العِلْمِ يَتَذَاكَرُوْنَ، وَهُوَ يُحْسنُ الاستمَاع وَالمشَاركَة، وَيَأْخذ فِي كَيْفِيَة بِنَاء الأَسْوَار، وَحفر الخنَادق، وَيَأْتِي بِكُلِّ مَعْنَىً بَدِيْع، وَكَانَ مهتماً فِي بِنَاء سورِ بَيْتِ المَقْدِسِ وَحفْر خَنْدَقه، وَيَتولَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَيَنْقل الحجَارَة عَلَى عَاتقه، وَيَتَأَسَّى بِهِ الخلقُ حَتَّى القَاضِي الفَاضِل، وَالعِمَاد إِلَى وَقت الظُّهْر، فِيمدُّ السمَاط، وَيسترِيح، وَيَرْكبُ الْعَصْر، ثُمَّ يَرْجِع فِي ضوء المشَاعل، قَالَ لَهُ صَانِع: هَذِهِ الحجَارَة الَّتِي تُقْطَع مِنْ أَسفل الخَنْدَق رخوَة.
قَالَ: كَذَا تَكُوْن الحجَارَة الَّتِي تلِي القرَار وَالنّدَاوَة، فَإِذَا ضربَتْهَا الشَّمْس، صَلُبَت.
وَكَانَ يَحفظ (الحمَاسَة) ، وَيظَنّ أَن كُلّ فَقِيْه يَحفظهَا، فَإِذَا أَنْشَدَ، وَتَوَقَّفَ، اسْتطْعمَ فَلَا يُطعَم، وَجَرَى لَهُ ذَلِكَ مَعَ القَاضِي الفَاضِل، وَلَمْ يَكُنْ يَحفظُهَا، وَخَرَجَ، فَمَا زَالَ حَتَّى حَفِظهَا، وَكَتَبَ لِي صَلَاح الدِّيْنِ بِثَلَاثِيْنَ دِيْنَاراً فِي الشَّهْر، وَأَطلق أَوْلَاده لِي روَاتب، فَأُشْغلت بِجَامِعِ دِمَشْقَ.
وَكَانَ أَبُوْهُ ذَا صلَاحٍ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَاح الدِّيْنِ بِأَكْبَر أَوْلَاده.
وَكَانَ صَلَاح الدِّيْنِ شِحْنَة دِمَشْق، فَكَانَ يَشرَب الخَمْر، ثُمَّ تَابَ، وَكَانَ مُحببّاً إِلَى نُوْر الدِّيْنِ يُلاعبُه بِالكُرَة.
وَكَانَتْ وَقعته بِمِصْرَ مَعَ السُّودَان، وَكَانُوا نَحْو مائَتَيْ أَلف، فَنُصِر عَلَيْهِم، وَقَتَلَ أَكْثَرهُم.
وَفِي هَذِهِ الأَيَّام اسْتولَى ملك الخَزَر عَلَى دُوِيْن، وَقتلَ مِنَ المُسْلِمِيْنَ ثَلَاثِيْنَ أَلْفاً.
حُمَّ صَلَاح الدِّيْنِ، فَفَصده مَنْ لَا خَبَرَة لَهُ، فَخَارت القُوَّة، وَمَاتَ، فَوَجَد النَّاسُ عَلَيْهِ شبيهاً بِمَا يَجدُوْنَهُ عَلَى الأَنْبِيَاء، وَمَا رَأَيْتُ ملكاً حَزِنَ النَّاس لِمَوْتِهِ سِوَاهُ، لأَنَّه كَانَ مُحببّاً، يُحِبُّه البِرّ وَالفَاجر، وَالمُسْلِم وَالكَافِر، ثُمَّ تَفرّق أَوْلَاده وَأَصْحَابه أَيَادِي سَبَأ، وَتَمزّقُوا.
وَلَقَدْ صدق العِمَاد فِي مَدحه حَيْثُ يَقُوْلُ:
وَلِلنَّاسِ بِالمَلِكِ النَّاصِرِ الصَّلَا
…
حِ صَلَاحٌ وَنَصْرٌ كَبِيْرُ
هُوَ الشَّمْسُ أَفلَاكُهُ فِي البِلَا
…
دِ وَمَطْلَعُهُ سَرْجُهُ وَالسَّرِيْرُ
إِذَا مَا سَطَا أَوْ حَبَا وَاحْتَبَى
…
فَمَا اللَّيْثُ مِنْ حَاتِمٍ مَا ثَبِيْرُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ (1) : بَلَغَنِي أَنّ صَلَاح الدِّيْنِ قَدِمَ بِهِ أَبُوْهُ وَهُوَ رضيعٌ، فَنَاب أَبُوْه بِبَعْلَبَكَّ إِلَى آخذهَا أَتَابك زَنْكِي (2)، وَقِيْلَ: إِنَّهُم خَرَجُوا مِنْ تَكرِيت فِي لَيْلَةِ مَوْلِد صَلَاح الدِّيْنِ، فَتطيَّرُوا بِهِ، فَقَالَ شِيرْكُوْه أَوْ غَيْره: لَعَلَّ فِيْهِ الخَيْر وَأَنْتُم لَا تَعلمُوْنَ
…
، إِلَى أَنْ قَالَ (3) :
وَكَانَ شِيرْكُوْه أَرْفَع مَنْزِلَةً عِنْد نُوْر الدِّيْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُقدَّمَ جيوشِهِ.
(1)(وفيات) : 7 / 143 - 145.
(2)
أصل الخبر عند ابن خلكان: (فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك، جعل نجم الدين دزدارها) والدزدار كلمة أعجمية بمعنى حافظ القلعة، وهو الوالي، فجعلها الذهبي هنا (نائب) .
(3)
(الوفيات) : 7 / 146 فما بعد، وقد تصرف الذهبي بالنص تصرفا كبيرا، فلخص، وغير وقدم وأخر على عادته، لكنه احتفظ بالمعنى، وهذه طريقته، رحمه الله، وهي طريقة مربكة.
وَوَلِيَ صَلَاح الدِّيْنِ وِزَارَة العَاضد، وَكَانَتْ كَالسلطنَة (1) ، فَولِي بَعْد عَمّه سَنَة 564، ثُمَّ مَاتَ العَاضد سَنَة 67، فَاسْتقلَّ بِالأَمْرِ مَعَ مدَارَاة نُوْر الدِّيْنِ وَمرَاوَغته، فَإِنَّ نُوْر الدِّيْنِ عزم عَلَى قصد مِصْر؛ ليُقيم غَيْر صَلَاح الدِّيْنِ، ثُمَّ فَتَر، وَلَمَّا مَاتَ نُوْر الدِّيْنِ، أَقْبَل صَلَاح الدِّيْنِ ليُقيم نَفْسه أَتَابكاً لولد نُوْر الدِّيْنِ، فَدَخَلَ البَلَد بِلَا كلفَة، وَاسْتَوْلَى عَلَى الأُمُوْر فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِيْنَ، وَنَزَلَ بِدَارِ العَقِيْقِيّ، ثُمَّ تسلّم القَلْعَة، وَشَال الصَّبيّ مِنَ الْوسط ثُمَّ سَارَ، فَأَخَذَ حِمْص، ثُمَّ نَازل حلب، وَهِيَ الوقعَة الأُوْلَى، فَجَهَّزَ السُّلْطَانُ غَازِي مِنَ المَوْصِل أَخَاهُ عِزّ الدِّيْنِ مسعُوْداً فِي جَيْش، فَرحّله، وَقَدِمَ حِمْص، فَأَقْبَل مَسْعُوْد وَمَعَهُ الْحَلَبِيُّونَ، فَالتقوا عَلَى قرُوْن حَمَاة، فَانْهزم مَسْعُوْد، وَأُسِرَ أُمَرَاؤُهُ، وَسَاقَ صَلَاح الدِّيْنِ، فَنَازل حلب ثَانِياً، فَصَالَحُوْهُ بِبذْلِ المَعَرَّة وَكفرطَاب، وَبلغ غَازِي كَسْرَةُ أَهْله وَأَخِيْهِ، فَعبر الفُرَات، وَقَدِمَ حلب، فَتلقَاهُ ابْن عَمِّهِ الْملك الصَّالِح، ثُمَّ التَقَوا هُم وَصَلَاح الدِّيْنِ، فَكَانَتْ وَقْعَة تلّ السُّلْطَان، وَنُصِرَ صَلَاح الدِّيْنِ أَيْضاً، وَرجع صَاحِب المَوْصِل.
ثُمَّ أَخَذَ صَلَاح الدِّيْنِ مَنْبِج وَعزَاز، وَنَازل حلب ثَالِثاً، فَأَخرجُوا إِلَيْهِ بِنْت نُوْر الدِّيْنِ، فَوَهَبهَا عزَاز.
وَرد إِلَى مِصْرَ، وَاسْتنَاب عَلَى دِمَشْقَ أَخَاهُ صَاحِب اليَمَن تُوْرَانْشَاه، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِيْنَ، فَالتَقَى الفِرنْج، فَانْكَسَرَ.
ثُمَّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِيْنَ نَازل حلب، وَأَخَذَهَا، وَعوّض عَنْهَا عِمَاد الدِّيْنِ زَنْكِي بِسِنْجَار وَسَرُوج، وَرتّب بِحَلَبَ وَلده الْملك الظَّاهِر.
ثُمَّ حَاصر الكَرَك، وَجَاءت إِمدَادَات الفِرنْج.
(1) يعني من حيث الصلاحيات والقوة.
وَفِي شَعْبَان سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِيْنَ نَازل صَلَاح الدِّيْنِ المَوْصِل، وَتردّدت الرُّسُل بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبهَا عِزّ الدِّيْنِ، وَتَمرّض، وَتَأَخّر إِلَى حرَّان، وَاشتدَّ مَرضه، وَحلفُوا لأَوْلَاده بِأَمره (1) ، وَأَوْصَى عَلَيْهِم أَخَاهُ العَادل (2) ، ثُمَّ مرّ بِحِمْصَ، وَقَدْ مَاتَ صَاحِبهَا نَاصِر الدِّيْنِ مُحَمَّد (3) ، ابْن عَمِّهِ، فَأَعْطَاهَا لوَلَده المُجَاهِد شِيرْكُوْه وَلَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً.
وَفِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِيْنَ افْتَتَحَ صَلَاح الدِّيْنِ بلَاد الفِرنْج، وَقهرهُم، وَأَبَاد خَضْرَاءهُم، وَأَسَرَ ملوكهُم عَلَى حطّين.
وَكَانَ قَدْ نَذر أَن يَقتُل أَرنَاط (4) صَاحِب الكَرَك، فَأَسره يَوْمَئِذٍ، كَانَ قَدْ مرّ بِهِ قَوْم مِنْ مِصْرَ فِي حَال الهُدنَة، فَغَدَرَ بِهِم، فَنَاشدُوْهُ الصُّلح، فَقَالَ مَا فِيْهِ اسْتخفَافٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَتَلَهُم، فَاسْتحضر صَلَاح الدِّيْنِ المُلُوْك، ثُمَّ نَاول الْملك جفرِي (5) شربَة جلَّاب ثَلج، فَشرب، فَنَاول أَرنَاط، فَشرب، فَقَالَ السُّلْطَان لِلتَرْجمَان: قل لجفرِي: أَنْتَ الَّذِي سقيتَهُ، وَإِلَاّ أَنَا فَمَا سقَيْتُه.
ثُمَّ اسْتحضر البرِنْس أَرنَاط فِي مَجْلِس آخر، وَقَالَ: أَنَا أَنْتصر لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْكَ.
ثُمَّ عرض عَلَيْهِ الإِسْلَام، فَأَبَى، فَحلَّ كتفه بِالنِيمجَاه (6) ، وَافتَتَح عَامَهُ مَا لَمْ يَفتحْهُ ملكٌ، وَطَار صِيْتُهُ فِي الدُّنْيَا، وَهَابته المُلُوْك.
ثُمَّ وَقَعَ النّوح وَالمَأَتم فِي جزَائِر البَحْر وَإِلَى رومِيةَ، وَنُودِيَ بِالنّفِير إِلَى
(1) يعني حلف الناس لاولاد صلاح الدين وذلك بسبب اشتداد المرض عليه.
(2)
يريد: جعله وصيا عليهم.
(3)
قيل: مات من كثرة شرب الخمر، وقيل إن السلطان دس له من سمه، وكلها إشاعات ترد عند المؤرخين.
(4)
هو الأمير رينو دي شاتيلون = Prince Renaud de Chatillon
(5)
وهو: Geoffri de Lusignan
(6)
النيمجاه: خنجر مقوس يشبه السيف القصير، وهو معرب (نيمجه) (راجع تعليق المرحوم الشيال على سيرة صلاح الدين: 79 وراجع مستدرك دوزي) .
نُصْرَة الصّليب، فَأَتَى السُّلْطَانَ مِنْ عَسَاكِر الفِرنْج مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ، وَأَحَاطُوا بعكَّا (1) .
وَقَالَ آخر: أَوّل فُتُوْحَاته الإِسْكَنْدَرِيَّة فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّيْنَ، وَقَاتَلَ مَعَهُ أَهْلُهَا لَمَّا حَاصَرَتْهُم الفِرنْج أَرْبَعَة أَشْهُرٍ، ثُمَّ كشَفَهُم عَنْهُ عَمُّه أَسَد الدِّيْنِ، فَتركهَا، وَقَدِمَا الشَّام.
ثُمَّ تَملّك وِزَارَة العَاضد، وَاستتبَّ لَهُ الأَمْرُ، وَأَبَاد آل عُبَيْدٍ وَعَبِيْدَهُم، وَتَملّك دِمَشْق ثُمَّ حِمْص، وَحَمَاة، وَحلب، وَآمِد، وَمَيَّافَارِقِيْن، وَعِدَّة بلَاد بِالجَزِيْرَةِ، وَدِيَار بَكْرٍ.
وَبَعَثَ أَخَاهُ، فَافْتَتَحَ لَهُ اليَمَن، وَسَارَ بَعْض عَسْكَره، فَافْتَتَح لَهُ بَعْض المَغْرِب، وَلَمْ يَزَلْ سُلْطَانه فِي ارتقَاء إِلَى أَنْ كَسَرَ الفِرنْج نَوْبَة حطّين.
ثُمَّ افْتَتَحَ عكَّا، وَبَيْرُوْت، وَصيدَا، وَنَابُلُس، وَقيسَارِيَّة، وَصَفُّورِيَّة، وَالشَّقِيْف، وَالطُّور، وَحَيْفَا، وَطَبَرِيَّة، وَتبنِيْنَ، وَجُبَيْل، وَعَسْقَلَان، وَغزَّة، وَالقُدْس، وَحَاصَرَ صُوْر مُدَّة، وَافتَتَح أَنطَرْطُوسَ، وَهُوْنِيْنَ، وَكَوْكَب، وَجَبَلَة، وَاللَاّذِقِيَّة، وَصِهْيَوْن، وَبلَاطُنُس، وَالشُّغْرَ، وَبَكَاس، وَسُرمَانِية، وَبُرزَية (2) ، وَدربسانَ (3) ، وَبَغْرَاس، ثُمَّ هَادن بُرْنُس أَنطَاكيَة، ثُمَّ افْتَتَح الكَرَك بِالأَمَانِ، وَالشَّوْبَك، وَصَفَدَ، وَشَقِيْف أَرنوْنَ، وَحضَرَ عِدَّة وَقعَات.
وَخَلَّفَ مِنَ الأَوْلَادِ: صَاحِبَ مِصْر الْملك العَزِيْز عُثْمَان، وَصَاحِب حلب الظَّاهِر غَازِياً، وَصَاحِب دِمَشْق الأَفْضَل عَلِيّاً، وَالملك المعزَّ فَتح الدِّيْنِ إِسْحَاق، وَالملك المُؤَيَّد مسعُوْداً، وَالملك الأَعزّ يَعْقُوْب، وَالملك المُظَفَّر
(1) إلى هنا انتهى أخذ المؤلف عن ابن خلكان.
(2)
هكذا هي مقيدة بالاصل، وفي (معجم البلدان) لياقوت: برزوية - بالفتح وضم الزاي، وسكون الواو وفتح الياء، والعامة يقولون: برزية.
(3)
هكذا في الأصل، وفي (سيرة ابن شداد) (ص: 93، 248) :(دربساك) وفي (الكامل) لابن الأثير: درب ساك.
خَضِراً، وَالملك الزَّاهر مُجِيْر الدِّيْنِ دَاوُد، وَالملك المُفَضَّل قُطْب الدِّيْنِ مُوْسَى، وَالملك الأَشرف عزِيز الدِّيْنِ مُحَمَّداً، وَالملك المُحْسِن جمَال المُحَدِّثِيْنَ ظَهِيْر الدِّيْنِ أَحْمَدَ، وَالمُعَظَّم فَخْر الدِّيْنِ تُوْرَانْشَاه، وَالملك الجَوَاد رُكْن الدِّيْنِ أَيُّوْب، وَالملك الغَالِب نصِيْر الدِّيْنِ مَلِكْشَاه، وَعِمَاد الدِّيْنِ شَاذِي، وَنصرَة الدِّيْنِ مَرْوَان، وَالملك المُظَفَّر أَبَا بَكْرٍ، وَالسَّيِّدَة مُؤنسَة زَوْجَة الْملك الكَامِل.
وَحَدَّثَ عَنْهُ: يُوْنُس الفَارِقِيُّ، وَالقَاضِي العِمَاد الكَاتِب.
مرِضَ بِحُمَّى صفرَاوية، وَاحتدّ الْمَرَض، وَحَدَثَ بِهِ فِي التَّاسع رعشَةٌ وَغِيبَة، ثُمَّ حُقِنَ مرَّتين، فَاسْترَاح، وَسرب، ثُمَّ عرق حَتَّى نفذَ مِنَ الفِرَاش، وَقضَى فِي الثَّاني عشر.
تُوُفِّيَ: بِقَلْعَة دِمَشْق، بَعْد الصُّبْح، مَنْ يَوْم الأَرْبعَاء، السَّابِع وَالعِشْرِيْنَ مِنْ صفر، سَنَة تِسْعٍ وَثَمَانِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
مَحَاسِنُ صَلَاح الدِّيْنِ جَمَّة، لَا سِيَّمَا الجِهَاد، فَلَهُ فِيْهِ اليَد البيضَاء بِبذل الأَمْوَال وَالخيل المُثَمَّنَة لِجندِه.
وَلَهُ عقلٌ جَيِّد، وَفهمٌ، وَحزمٌ، وَعَزَمٌ.
قَالَ العِمَاد: أَطلق فِي مُدَّة حِصَار عكَّا اثْنَيْ عَشَرَ أَلف فَرَس، قَالَ: وَمَا حضَر اللِّقَاء إِلَاّ اسْتَعَار فَرساً، وَلَا يَلبس إِلَاّ مَا يَحلّ لُبْسُهُ كَالكتان وَالقطن، نَزَّه المَجَالِس مِنَ الْهزْل، وَمحَافلُهُ آهلَةٌ بِالفُضَلَاء، وَيُؤثِرُ سَمَاع الحَدِيْث بِالأَسَانِيْد، حليماً، مُقيلاً لِلْعثرَة، تَقيّاً نَقيّاً، وَفِيّاً صفِيّاً، يُغضِي وَلَا يغضبُ، مَا ردَّ سَائِلاً، وَلَا خجَّلَ قَائِلاً، كَثِيْرُ البِرِّ وَالصَدَقَات، أَنْكَر عليَّ تحليَةَ دوَاتِي بفِضَّة، فَقُلْتُ: فِي جَوَازه وَجهٌ ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيّ، وَمَا رَأَيْتهُ صَلَّى إِلَاّ فِي جَمَاعَةٍ.
قُلْتُ: وَحضر وَفَاته القَاضِي الفَاضِل.
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ القُرْطُبِيّ إِمَام الكلاّسَة (1) : إِنَّنِي انتهيتُ فِي القِرَاءةِ إِلَى قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحَشْرُ: 22] فَسَمِعْتُ صَلَاح الدِّيْنِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: صَحِيْح.
وَكَانَ ذِهْنه قَبْل ذَلِكَ غَائِباً (2) ، ثُمَّ مَاتَ، وَغسَّلَه الخَطِيْب الدَّوْلَعِيّ، وَأُخْرِج فِي تَابوت، فَصَلَّى عَلَيْهِ القَاضِي مُحْيِي الدِّيْنِ ابْن الزَّكِيّ، وَأُعيد إِلَى الدَّارِ الَّتِي فِي البُسْتَان الَّتِي كَانَ مُتَمرِّضاً فِيْهَا، وَدُفِنَ فِي الصُّفَّة، وَارتفعت الأَصوَات بِالبُكَاء، وَعظُم الضّجيج، حَتَّى إِنَّ العَاقل ليُخيَّل لَهُ أَنَّ الدُّنْيَا كُلّهَا تَصيح صَوْتاً وَاحِداً، وَغَشِي النَّاس مَا شغلهُم عَنِ الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَتَأَسَّف النَّاس عَلَيْهِ حَتَّى الفِرنْج لِما كَانَ مِنْ صدق وَفَائِهِ.
ثُمَّ بَنَى وَلده الأَفْضَل قُبَّةً شمَالِي الجَامِع، وَنقلَهُ إِلَيْهَا بَعْد ثَلَاث سِنِيْنَ، فَجَلَسَ هُنَاكَ لِلْعزَاء ثَلَاثاً.
وَكَانَ شَدِيد القوَى، عَاقِلاً، وَقُوْراً، مَهِيْباً، كَرِيْماً، شُجَاعاً.
وَفِي (الرَّوْضَتين) لأَبِي شَامَة (3) : أَنَّ السُّلْطَان لَمْ يُخلِّف فِي خزَانته مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّة إِلَاّ سَبْعَة وَأَرْبَعِيْنَ دِرْهَماً، وَدِيْنَاراً صُوْرِيّاً، وَلَمْ يُخَلِّف مِلْكاً وَلَا عقَاراً رحمه الله وَلَمْ يَخْتلف عَلَيْهِ فِي أَيَّامِهِ أَحَد مَنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَأْمنُوْنَ ظلمَه، وَيَرجُوْنَ رِفْدَه، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَصِلُ عطَاؤُه إِلَى الشّجعَانِ، وَإِلَى العُلَمَاءِ، وَأَربَابِ البيوتَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ لمبطلٍ وَلَا لمَزَّاحٍ عِنْدَهُ نصِيْب.
(1) كان الشيخ أبو جعفر قد استدعي ليبيت عنده يقرأ القرآن، ويلقنه الشهادة عند حضور الوفاة، وتوفي أبو جعفر هذا سنة 596، وستأتي ترجمته (رقم: 156) .
(2)
وتمام الخبر أن القاضي الفاضل جاءه عند أذان الصبح، وكان في آخر رمق، فلما قرأ القارئ (لا إله إلا هو عليه توكلت) ، تبسم، وتهلل وجهه، وأسلم روحه إلى ربه سبحانه.
(3)
(الروضتين) .
قَالَ المُوَفَّق: وُجِدَ فِي خزَانته بَعْد مَوْته دِيْنَارٌ وَثَلَاثُوْنَ دِرْهَماً، وَكَانَ إِذَا نَازل بَلَداً، وَأَشرف عَلَى أَخذهِ، ثُمَّ طلبُوا مِنْهُ الأَمَان، آمنهُم، فِيتَأَلَّم لِذَلِكَ جَيْشه، لفوَات حظِّهم.
قَالَ القَاضِي بَهَاء الدِّيْنِ ابْن شَدَّاد (1) : قَالَ لِي السُّلْطَان فِي بَعْضِ محَاورَاته فِي عقد الصُّلح: أَخَاف أَنْ أصَالِحَ، وَمَا أَدْرِي أَيش يَكُوْن مِنِّي، فِيقوَى هَذَا العَدُوّ، وَقَدْ بقيَتْ لَهُم بلَادٌ، فِيخرجُوْنَ لاستعَادَة مَا فِي أَيدِي المُسْلِمِيْنَ، وَترَى كُلّ وَاحِد مِنْ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَخَاهُ وَأَولادَهم- قَدْ قَعَدَ فِي رَأْس تَلِّهِ -يَعْنِي قَلعته- وَيَقُوْلُ: لَا أَنْزِلُ، وَيهلك المُسْلِمُوْنَ.
قَالَ ابْنُ شَدَّادٍ: فَكَانَ -وَاللهِ- كَمَا قَالَ، اخْتلفُوا، وَاشْتَغَل كُلُّ وَاحِدٍ بِنَاحِيَتِه، وَبَعُدَ، فَكَانَ الصُّلحُ مصلحَةً.
قُلْتُ: مِنْ لُطفِ الله لمَا تَنَازع بَنُوْ أَيُّوْب، وَاخْتَلَفُوا يَسَّر الله بِنقصِ همَّة الأَعْدَاء، وَزَالت تِلْكَ الشَّهَامَة مِنْهُم.
وَكَتَبَ القَاضِي الفَاضِل تَعزِيَةً إِلَى صَاحِب حلب (2) : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأَحزَاب: 21]، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيْمٌ} [الحَجّ: 1] كَتَبتُ إِلَى مَوْلَانَا الْملك (3) الظَّاهِر أَحْسَنَ الله عزَاءهُ، وَجَبَر مُصَابَهُ، وَجَعَلَ فِيْهِ الخلفَ مِنَ السَّلَف فِي السَّاعَة المَذْكُوْرَة (4) ، وَقَدْ زُلْزِلَ المُسْلِمُوْنَ زلزَالاً شدِيداً، وَقَدْ حضَرَتِ الدُّمُوعُ المَحَاجر، وَبَلَغتِ
(1)(السيرة) : 235 (ط.
الدكتور الشيال القاهرة 1964) .
(2)
هو ولده الملك الظاهر، وقد أوردها ابن خلكان وغيره.
(3)
ابن خلكان: (مولانا السلطان الملك) .
(4)
ابن خلكان: (وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة) فهو يحذف: (من السلف) .
القُلُوْبُ الحنَاجر، وَقَدْ وَدَّعتُ أَبَاك وَمخدومِي وَدَاعاً لَا تلَاقِي بَعْدَهُ (1) ، وَقبَّلتُ وَجهَهُ عَنِّي وَعنكَ، وَأَسلَمْتُهُ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ (2) مغلوبَ الحيلَةِ، ضَعِيْفَ القُوَّةِ، رَاضياً عَنِ اللهِ، وَلَا حُوْل وَلَا قوّة إِلَاّ بِاللهِ.
وَبِالبَاب مِنَ الجُنُوْد المجنّدَة، وَالأَسلحَة المعمدَة (3) مَا لَمْ يَدْفَعِ البَلَاء، وَلَا مَا (4) يَردُّ القَضَاء، تَدْمَع (5) العينُ، وَيَخشعُ القَلْبُ، وَلَا نَقُوْل إِلَاّ مَا يَرضِي الرّبَّ، وَإِنَّا بِك يَا يُوْسُف لمحزونُوْنَ (6) .
وَأَمَّا الوصَايَا، فَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَالآرَاءُ، فَقَدْ شَغَلنِي المصَابُ عَنْهَا، وَأَمَّا لَائِح الأَمْر، فَإِنَّهُ إِن وَقَعَ اتِّفَاقٌ، فَمَا عدِمْتُم إِلَاّ شَخْصَهُ الكَرِيْم، وَإِنْ كَانَ غَيْر ذَلِكَ، فَالمصَائِبُ المستقبلةُ أَهونُهَا مَوْته (7) .
وَلِلْعَلَم الشَّاتَانِيِّ (8) فِيْهِ قصيدَة، مطلعهَا:
أَرَى النَّصْرَ مَقْرُوْناً بِرَايَتِكَ الصَّفْرَا
…
فَسِرْ وَاملِكِ الدُّنْيَا فَأَنْت بِهَا أَحْرَى
(1) ابن خلكان: وقد.
(2)
ابن خلكان: إلى الله تعالى.
(3)
ابن خلكان: المعدة.
(4)
ابن خلكان: ملك.
(5)
ابن خلكان: وتدمع.
(6)
ابن خلكان: وإنا عليك محزونون يا يوسف.
(7)
يضيف ابن خلكان: وهو الهول العظيم، والسلام.
(8)
هو علم الدين أبو علي الحسن بن سعيد بن عبد الله الشاتاني الأديب، ينسب إلى قلعة شاتان بلدة بنواحي ديار بكر.
ولد سنة 510، وقدم بغداد، وتفقه بالمدرسة النظامية، وسمع الشيوخ، وسافر إلى دمشق غير مرة، واستوطن الموصل، وتوفي سنة 579 كما في (تاريخ الإسلام) للذهبي، الورقة: 78 (أحمد الثالث 2917 / 14) و (طبقات) السبكي: 7 / 61.
وترجم له العماد في القسم الشامي من الخريدة: 2 / 361، وأبو شامة في الروضتين: 1 / 271، وياقوت في (شاتان) من معجم البلدان: 3 / 226 وابن الفوطي في تلخيصه: 4 / الترجمة: 837 وتصحف فيه وفاته إلى سنة 599، وغيرهم.
وقد وقعت نسبته في أصل مخطوطتنا: الساتاني - بالسين المهملة - وهو تصحيف.