الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
180/ 1/ 35 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له"(1).
الكلام من عشرة أوجه:
الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتموه" هو من الضمير الذي يفسره سياق الكلام، كقوله -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي
(1) البخاري (1900، 1906، 1907)، ومسلم (1080)، وابن ماجه (1654)، والنسائي (4/ 134)، وابن خزيمة (1905)، والبيهقي في السنن (4/ 205) وفي المعرفة له (6/ 8560)، والشافعي في السنن المآثورة (319) كتاب الصوم، باب: ما جاء في تقديم الشهر، وابن حبان (3441)، والطيالسي (1810)، ومالك (1/ 286)، وأبو داود (2320)، والمسند (1/ 272).
وقد ورد من طريق أبي هريرة عند البخاري (1909)، ومسلم (1081)، والنسائي (4/ 133)، وابن ماجه (1655).
وأيضاً من رواية عبد الله بن عباس عند أبي داود (2327)، والترمذي (688)، وأيضاً أبو بكرة وحذيفة، وطلق الحنفي.
لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} (1)، وقوله:{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} (2)، أي إذا رأيتموا الهلال، وقد جاء في بعض روايات مسلم (3):"لا تصوموا حتى تروا الهلال".
قال أهل اللغة (4): يقال: هلال من أول ليلة، إلى الثالثة ثم يقال: قمر بعد ذلك.
الثاني: قوله: "فصوموا" أي انووا الصيام، لأن الليل ليس محلَاّ للصوم كما تقدم.
الثالث: قوله: "فإن غم عليكم" معناه: حال بينكم وبينه غيم يقال: غُمَّ وأُغْمِيَ وغُمِّيَ بتشديد الميم وتخفيفها، والغين مضمومة فيهما ويقال:"غَبِيَ"(5): بفتح الغين وكسر الباء وكلها لغات صحيحة، وقد غامت السماء [وغيمت](6)، وأغامت وتغيمت وغيمت كلها بمعنى.
وقيل: معنى هذه الألفاظ مأخوذة من أغما (7) المريض، يقال:
(1) سورة القدر: آية 1.
(2)
سورة العاديات: آية 4.
(3)
مسلم (1080)، ومالك في الموطأ (1/ 286).
(4)
انظر: مختار الصحاح (290)، والمصباح المنير (639).
(5)
رواية البخاري (1909).
(6)
في مشارق الأنوار (2/ 135)(أغمت بالتخفيف والتثقيل)، وفي حاشية ن ج (أغمت)، انظرها فيه.
(7)
قال القاضي عياض في مشارق الأنوار (2/ 136): من إغماء المرض، يقال: غمي عليه وأغمي والرباعي أفصح. وقال في موضع آخر =
غمى وأغمى عليه، والرباعي أفصح.
قال القاضي عياض (1): وقد يصح أن ترجع إلى إغماء السماء والسحاب، وقد يكون [أيضاً](2) من التغطية، ومنه قولهم: غممت الشيء إذا سترته، والغمى مقصور ما سقفت به البيت من شيء، وروي "عمي" بالعين المهملة والميم المخففة. حكاه القاضي أيضاً ومعناه: خفي يقال: عمي عليّ الخير أي خفي.
وقيل: هو مأخوذ من العماء، وهو السحاب الرقيق.
وقيل: المرتفع أي دخل في العماء أو يكون من العمى المقصود وهو عدم الرؤية.
الرابع: قوله: "فاقدروا له". قال أهل اللغة: [قد](3)(4) قدرت الشيء أقدُرْهُ، وأقِدرْهُ، وقَدّرْتهُ، وأقدَرْتُهُ بمعنى واحد وهو من التقدير، ومنه قوله -تعالى-:{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} (5).
واختلف العلماء في معناه في الحديث:
فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف والخلف:
= (2/ 137): أغمي عليه، أي غشي عليه. قال صاحب الأفعال: يقال: غمي عليه غمي وأغمي عليه، قال غيره: والرباعي أفصح.
(1)
مشارق الأنوار (2/ 88، 135، 136). إكمال إكمال المعلم (3/ 222).
(2)
زيادة من ن ب د.
(3)
في ن ب د (يقال).
(4)
في ن ب د (يقال)، وما أثبت من ن هـ.
(5)
سورة المرسلات: آية 23.
معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً، ويؤيده روايات مسلم (1):"فعدوا ثلاثين"، "فاقدروا ثلاثين"، "فصوموا ثلاثين"، "فأكملوا العدد"، ورواية البخاري (2):"فأكملوا عدة شعبان [ثلاثين] (3) ".
وقال أحمد بن حنبل وطائفة: معناه: ضيقوا له (4) -أي قدروه
(1) الرواية الأولى والثالثة والرابعة من حديث أبي هريرة (1081)، والثانية من حديث ابن عمر (1080) في مسلم وقد سبق تخريجها.
(2)
البخاري (1909).
(3)
في ن ب ساقطة.
(4)
قال ابن حجر في الفتح (4/ 121): على قوله: "لا تصوموا حتى تروا الهلال" ظاهرة إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلاً ونهاراً لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء فرق بين ما قبل الزوال أو بعده، وخالف الشيعة الإِجماع فأوجبوه مطلقاً، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى في ذلك لمن تمسك به، ولكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو قوله:"فإن غم عليكم قاقدروا له" فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم، فيكون التعليق على الرؤية متعلقاً بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل أن لا تفرقة، ويكون الثاني مؤكداً للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا: المراد بقوله: "فاقدروا له"، أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجح هذا التأويل الروايات الآخر المصرحة بالمراد، وهي ما تقدم من قوله:"فأكملوا العدة ثلاثين" ونحوها. وأولى ما فسر الحديث بالحديث، وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة في هذه الزيادة أيضاً فرواها البخاري كما ترى بلفظ:"فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، وهذا أصرح ما ورد في =
تحت السحاب- ولهذا أوجب صوم ليلة الغيم عن رمضان، لكن قوله عليه الصلاة والسلام:"فصوموا ثلاثين"، "وأكملوا عدة شعبان ثلاثين" لا يدلان على عدم التقدير لشعبان دون رمضان، ولا عكسه بل لهما، فالتخصيص بأحدهما من غير مخصص خلف.
وقال مطرف بن عبد الله وابن سريج وابن قتيبة وآخرون من
= ذلك. -إلى أن قال- قال ابن الجوزي في التحقيق: لأحمد في هذه المسألة -وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غير أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان- ثلاثة أقوال: أحدها يجب صومه على أنه من رمضان، ثانيها: لا يجوز فرضاً ولا نفلاً مطلقاً، بل قضاء وكفارة ونذراً ونفلاً يوافق عادة، وبه قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز عن فرض رمضان، ويجوز عما سوى ذلك. ثالثها: المرجع إلى الإِمام في الصوم والفطر، واحتج الأول بأنه موافق لرأي الصحابي راوي الحديث، قال أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر فذكر الحديث بلفظ "فاقدروا له"، قال نافع: فكان ابن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطراً، وإن حال أصبح صائماً، وأما ما روى الثوري في جامعه عن عبد العزيز بن حكيم:"سمعت ابن عمر يقول: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه"، فالجمع بينهما أنه في الصورة التي أوجب فيها الصوم لا يسمى يوم الشك، وهذا هو المشهور عن أحمد: أنه خص يوم الشك بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال، أو شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته. فأما إذا حال دون منظره شيء فلا يسمى شكّاً، واختار كثير من المحققين من أصحابه الثاني
…
إلخ. انظر: الاستذكار (10/ 16)، للاطلاع على مذهب الإِمام أحمد، وما فسره راوي الحديث ابن عمر، كما سبق في التعليق.
المالكية وغيرهم: معناه قدروه بحساب المنازل الذي يراه المنجمون، وهو ضعيف جدّاً (1) لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم
(1) قال القاضي عياض في مشارق الأنوار (2/ 173): وذهب ابن سريج من الشافعية: أن هذا خطاب لمن خص بهذا العلم من حساب القمر والنجوم أي يحمل على حسابها وإكمال العدة خطاب لعامة الناس الذين لا يعرفونه ولم يوافقه الناس على هذا. اهـ.
قال ابن عبد البر -رحمنا الله وإياه- في الاستذكار (10/ 18): وقد حكى ابن سريج، عن الشافعي، أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغَمَّ عليه، جاز له أن يعتقد الصوم ويبيته ويجزئه قال أبو عمر: الذي عندنا في كتبه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلَّا برؤية فاشية، أو شهادة عادلة، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً، لقوله صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". اهـ. وانظر نقله عن مطرف وابن قتيبة. ونقل هذا القول عن ابن سريج البغوي في السنَّة (6/ 230)، وابن رشد في بداية المجتهد (1/ 207)، وقد ناقش ابن العربي ابن سريج في هذه المسألة في القبس (2/ 483)، والعارضة (3/ 208)، وقال فيها: فكأن وجوب رمضان جعله مختلف الحال يجب على قوم لحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب الجمل، إن هذا لبعيد عن النبلاء فكيف بالعلماء. اهـ. وقال ابن حجر في الفتح (4/ 122): على قوله: "فاقدروا له" تقدم أن للعلماء فيه تأويلين، -انظر التعليق- وذهب آخرون إلى تأويل ثالث، قالوا: معناه فاقدروه بحساب المنازل، قاله أبو العباس بن سريج من الشافعية ومطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين، قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا، قال: ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: "فاقدروا له" خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله: =
فإن ذلك لا يعرفه إلَّا أفراد، والشرع إنما تعرف إليهم بما يعرفه جماهيرهم، وأيضاً فإن الأقاليم على رأيهم مختلفة، يصح أن يرى في إقليم دون إقليم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الصوم عند أهلها، مع كون الصائمين منهم لا يعولون غالباً على طريق مقطوع [به](1)، ولا يلزم قوماً ما يثبت عند قوم. وأيضاً لو كان معتبراً لبينه الشارع للناس كما بيَّن أوقات الصلاة وغيرها، وأما قوله -تعالى-:{وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} (2)، فالمراد: الاهتداء في طريق البر والبحر.
= "فأكملوا العدة" خطاب للعامة، وقد سبقت الإِشارة إليه، وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، إلى أن قال: ونقل ابن المنذر الإِجماع على أن صوم يوم الثلاثين من شعبان إذ لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإِجماع الأمة، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته، هكذا أطلق ولم يفصل بين حاجب وآخر، فمن فرق بينهم كان محجوجاً بالإِجماع قبله. اهـ.
وقال أيضاً (4/ 127): قال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف، ولا شك أن مراعات ما غمض حتى لا يدرك إلَّا بالضنون غاية التكلف. اهـ.
وقال ابن القيم في تهذيب السنن (3/ 213): على حديث: "فطركم يوم تفطرون"، وقيل: فيه الرد على من يقول: إن من عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل جاز له أن يصوم ويفطر، دون من لم يعلم. اهـ. وانظر: مجموع الفتاوى (25/ 181).
(1)
زيادة من ن ب د.
(2)
قال البخاري -رحمنا الله وإياه- في صحيحه تعليقاً: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى =
قال الشيخ تقي الدين: والحساب لا يجوز أن يعتمد عليه في الصوم، لمفارقة القمر للشمس، على ما يراه المنجمون من [تقدم](1) الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية يوم أو يومين، فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله -تعالى-، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى، لولا وجود المانع -كالغيم مثلاً- فهذا يقتضي الوجوب، لوجود السبب الشرعي. وليس حقيقة الرؤية بشرط في اللزوم، فإن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم أن اليوم من رمضان، بطريقة يجب (2) عليه
= بها؛ فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. "والمقصود به الاهتداء للتسيير لا للتأثير": انظر: حاشية التوحيد لابن قاسم (223).
(1)
في ن ب (تقديم)، وفي د (تقدير)، وما أثبت يوافق إحكام الأحكام.
(2)
في إحكام الأحكام مع الحاشية (3/ 328). قال الصنعاني في الحاشية: على قوله: "بمشترطه في اللزوم لأن الاتفاق
…
إلخ"، أقول: إن النص اشترط في لزوم الصوم أحد أمرين: إما الرؤية أو إكمال العدة ثلاثين، ودل الدليل على أن رؤية البعض كافية فإثبات اللزوم بمجرد الحساب ينافي النص، وقياسه على من حبس في المطمورة قياس مع الفارق، إذ من المطمورة قد تعذر عليه معرفة المدرك المنصوص عليه حتى لو رآه الناس لما رآه، فرجوعه إلى الحساب والقرائن بالضرورة، لأنه ليس في حقه شيء يعرف به الصوم إلَّا ذلك، وكيف يرجع إلى قول الحاسب والشارع يقول: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"، ولو كان كلام الحاسب مدركاً شرعياً للصوم والإِفطار لما أهمله الشارع، بل أشار إلى خلافه بقوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" ثم قال: "الشهر =
الصوم، وإن لم ير الهلال، ولا أخبره من رآه.
الخامس: قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتموه" علق الحكم بالرؤية ولا يراد بها رؤية كل فرد من الأفراد بل مطلق الرؤية ويكفي فيها رؤية عدل لجميع الناس على أظهر القولين عند الشافعي، ونص عليه في القديم ومعظم الجديد، وبه قال أحمد: على أصح الروايتين عنه، ونقله البغوي (1) في "شرح السنَّة"[عن](2) الأكثرين، وفي قول في البويطي: عدلان.
وقال البغوي في "شرح السنَّة"(3): أنه أظهر قولي الشافعي قاله بعد أن حكى الأول قولاً عنه، ورأيت في "الأم" (4). ما يقتضيه: فإنه لما قال أولاً، فإن لم تر العامة هلال رمضان ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط (5).
= هكذا
…
" الحديث، فأشار بيديه إلى الثلاثين والتسع والعشرين، قال القاضي عياض: وصفه صلى الله عليه وسلم لهم بالأمية، وأنهم لا يحسبون ولا يكتبون إذا كانوا لا يجهلون الثلاثين، ولا التسع والعشرين، ولم ينف عنهم معرفة مثل هذا الحساب، وإنما وصفهم بذلك طرحاً للاعتداد بالمنازل وطرق الحساب الذي تعول عليه الأعاجم في صومها وفطرها وفصلها. اهـ.
بالضم -أي فصول السنة الأربعة.
(1)
انظر: شرح السنة (6/ 244).
(2)
في ن ب (لكن).
(3)
انظر: شرح السنة (6/ 244).
(4)
الأم (2/ 94).
(5)
الشافعي في الأم (2/ 94) أول كتاب الصيام الصغير، وفي المعرفة (6/ 243).
قال الشافعي: بعد لا يجوز على حلول رمضان إلا شاهدان (1).
قال: وقد قال بعض أصحابنا: لا أقبل عليه إلَّا شاهدين، في هذا القياس على كل مغيب استدل عليه (2)، هذا لفظه ومن الأم نقلته فاستفده، فإنه من المهمات الجليلة التي لم يقع للرافعي، ولا لمن بعده، بل لم أرها في شيء من كتب أصحابنا، واقتصر جامع مسند الشافعي على القول الثاني، ولم يحك الأول وأساء.
ومذهب مالك (3): أنه لا بد من عدلين أيضًا إن كان ثم معنيون بالشريعة، وإلا كفى الخبر.
وانفرد أبو حنيفة (4) فقال: إن كانت السماء مغيمة ثبت بعدل ولو عبدًا أو امرأة.
وإن كانت مصحية فلا يثبت بواحد ولا باثنين بل بعدد الاستفاضة.
وفي "بحر" الروياني عنه: أنه لا يقبل إلَّا قول خمسين كعدد القسامة.
وأما في الفطر: فلا بد من رؤية عدلين عند جميع العلماء خلافًا لأبي ثور فإنه جوزه برؤية عدل.
(1) الشافعي في الأم (2/ 94) في أول كتاب الصيام، وفي المعرفة (6/ 244).
(2)
المراجع السابقة، المعرفة (6/ 246).
(3)
انظر: الاستذكار (10/ 26).
(4)
الاستذكار (10/ 26).
السادس: في الحديث دلالة على وجوب الصوم والفطر على منفرد رأى الهلال في رمضان أو شوال، وهو مذهب الجمهور (1).
وذهب عطاء وإسحاق إلى أنه لا يلزمه حكم شيء من ذلك إذا انفرد بالرؤية، حكاه القرطبي عنهما. وهذا الحديث يرد عليهما، لكن قال العلماء: يفطر في الثاني سرًّا لئلا يساء الظن به (2).
ويجب عليه عند المالكية: رفع شهادته إلى الحاكم إن كان ممن تقبل شهادته رجاء أن ينضاف إليه غيره فيثبت الحكم.
وقيل: يرفع وإن كان لا يرجى قبول شهادته لجواز حصول الاستفاضة.
السابع: فيه أيضًا أن حكم الرؤية ببلد لا يتعدى إلى بلد آخر لأنه إذا فرض أنه رؤي الهلال ببلد في ليلة ولم ير في تلك الليلة بآخر
(1) انظر: الاستذكار (10/ 24).
(2)
انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم (3/ 363، 364).
قال في الاستذكار (10/ 25): اختلفوا في هلال شوال يراه الرجل وحده، فقال مالك وأبو حنيفة: لا يفطر. وهو قول أحمد بن حنبل وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كره لمن رأى هلال شوال وحده أن يفطر وقال الشافعي: يفطر الذي رأى هلال شوال وحده إذا لم يشك فيه، فإن شك أو خاف أن يتهم لم يأكل وهذا رأي أبو ثور قال: ولا يسعه أن يصوم، فإن خاف التهمة اعتقد الفطر، وأمسك عن الأكل والشرب.
وقال مالك: من رأى هلال رمضان وحده فافطر عامدًا كان عليه القضاء والكفارة. وقال أبو حنيفة: عليه القضاء ولا كفارة عليه للشبهة. وهذا قول أكثر الفقهاء. اهـ.
فيكمل ثلاثين يوماً بالرؤية الأولى، ولم ير بالآخر فهل يفطرون أم لا؟ فمن قال: يتعدى الحكم على أحد الوجهين في المسألة وهو مذهب مالك، ولم يجز لهم الإِفطار، وقد وقعت المسألة في زمن ابن عباس، وقال: لا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو يراه، وقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، ويمكن أنه أراد بذلك هذا الحديث العام وهو قوله:"أفطروا لرؤيته"(2)، لا حديثاً خاصّاً بهذه المسألة أو لأنه شهادة واحد.
وعند المالكية رواية: أنه إن ثبت بأمر شائع تعدى الحكم أو بالشهادة عند الحاكم لم يلزم من خرج عن ولايته، إلَّا أن يكون أمير المؤمنين، فيلزم أيضاً جماعتهم.
قال المازري (3): والفرق بين الخليفة وغيره أن سائر البلدان لما كانت بحكمه فهي كبلد واحد.
الثامن: فيه أيضاً أنه لا يجوز صوم الشك ولا صوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم وقد روى أبو داود بإسناد على شرط الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم
(1) انظر: لفظه كاملاً في مسلم (1087)، وأبو داود (2332) في الصيام، باب: إذا رؤي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة، والترمذي، (693)، والنسائي (4/ 131) انظر: الاستذكار (10/ 28، 29).
(2)
انظر: تخريج حديث الباب.
(3)
المعلم بفوائد مسلم (2/ 45).
يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام"، وقال الدارقطني: إسناده صحيح (1).
وحكى القاضي عياض: صومه عن عائشة (2) وأسماء (3) وابن عمر (4) وطاوس.
وقال الأوزاعي والكوفيون (5): إن صامه وتبين أنه من رمضان أجزأه. وجمهورهم أنه لا يصومه ولا يجزئه إن صامه.
(1) أبو داود (2325) في الصيام، باب: إذا أغمي الشهر، والدارقطني (2/ 156، 157)، وصححه الحاكم (1/ 423)، ووافقه الذهبي، وابن حبان (3444)، وابن الجارود (377)، وأحمد (6/ 149)، والبيهقي (4/ 206)، وصححه ابن خزيمة (3/ 203) وأشار إليه في فتح الباري (4/ 121).
(2)
أخرجه سعيد بن منصور. قال الألباني في الإِرواء (4/ 11): في سنده رجل لم يسم فلا يصح سنده، لكن قد جاء مسمى "لعبد الله بن أبي موسى" في مسند أحمد (6/ 125، 126)، وسنده صحيح؛ فمن قال: العبرة برأي الراوي لا بروايته لزم الأخذ به كالحنفية. اهـ. انظر: البيهقي في السنن (4/ 211)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 148)، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. انظر: الفتح الرباني (9/ 256).
(3)
البيهقي (4/ 211). انظر: المجموع (6/ 410)، وزاد المعاد (2/ 45).
(4)
أحمد (2/ 5)، وانظر: تخريجه لأحمد شاكر في المسند (6/ 226)، وعبد الرزاق (7323)، وأبو داود (222) في الصيام، باب: الشهر يكون تسعاً وعشرين، والدارقطني (2/ 161)، والبيهقي (4/ 204)، وصححه الألباني في الإِرواء (4/ 10).
(5)
انظر: الاستذكار (10/ 35).
وكان بعض الصحابة (1) يأمر بالفصل ما بين رمضان وشعبان بفطر يوم أو يومين.
وكره محمد بن مسلمة تحري ذلك آخر يوم، كما يكره تحري صومه.
وصح عن جماعة النهي عن صيام يوم الشك (2). وفي الترمذي (3) عن عمار: من صامه فقد عصى أبا القاسم.
التاسع: استدل به أيضاً لمن قال بالعمل بالحساب في الصوم بقوله: "فاقدروا له" من حيث إنه أمر بمقتضى التقدير، وتأوله الجمهور على إرادة إكمال العدد كما قدمناه.
(1) أي ابن عباس وكان ينكر أن يصام يوم الشك، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تروا الهلال فأكملوا ثلاثين يوماً"، وعن عطاء قال: كنت عند ابن عباس قبل رمضان بيوم أو بيومين فقرب غداؤه فقال: "أفطروا أيها الصيّام، لا تواصلوا رمضان شيئاً، وافصلوا". انظر: مصنف عبد الرزاق (4/ 158)، والحديث الأول سبق تخريجه.
(2)
منهم عمر بن الخطاب في مصنف ابن أبي شيبة (3/ 73)، والاستذكار (10/ 233) .. وعلي بن أبي طالب عند ابن أبي شيبة (3/ 73)، والاستذكار (10/ 233)، والمجموع (6/ 426)، والمحلى (7/ 23) .. وحذيفة، وابن مسعود، وابن عباس وقد سبق تخريجه، وأبو هريرة وسبق أيضاً تخريجه، وأنس بن مالك وغيرهم.
(3)
الترمذي (686)، والنسائي (4/ 153)، والدارقطني (2/ 157)، وصححه ابن خزيمة (1914)، وأبو داود في الصيام (2234)، باب كراهية صوم يوم الشك، وابن ماجه (1645)، وابن حبان (3585)، وصححه الحاكم (1/ 423) ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة (3/ 72)، والدارمي (2/ 12).
العاشر: قوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته" ظاهره وجوب الصوم متى رأى قبل الزوال أو بعده، وهو المشهور من مذهب مالك.
وقيل: إنه قبله للماضية ويفطرون ساعة رؤيته إن كان هلال شوال.
وقال بعض أهل الظاهر: أما في الصوم فتجعل للماضية، وأما في الفطر: فيجعل لمستقبله وهو أخذ بالاحتياط منهم، ولكن الحديث حجة عليهم (1).
…
(1) انظر: الاستذكار (10/ 19).