الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
200/ 4/ 37 - عن محمد بن عباد بن جعفر قال: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم"(1).
زاد مسلم: "ورب الكعبة".
الكلام عليه من وجوه:
الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب الجنابة، والراوي عنه هو: محمد بن عباد تابعي قرشي مخزومي مكي ثقة قليل الحديث.
وقوله: زاد مسلم (2)"ورب الكعبة" الذي في مسلم "ورب هذا البيت" فكأنه نقله بالمعنى.
(1) البخاري في الصوم (1984)، ومسلم (1143)، وابن ماجه (1724)، والدارمي (2/ 19)، والبيهقي (4/ 301)، والحميدي (1226)، وأحمد (3/ 296، 312)، وعبد الرزاق (8708)، وأبو يعلى (2206)، وعنده عن ابن عمر (5709)، وأبي هريرة (6433)، والنسائي في الكبرى (2/ 140) مع الزيادة.
(2)
وأيضاً في النسائي. أما عزوه إلى مسلم "ورب الكعبة"، فوهم منه -رحمنا الله وإياه- بل في النسائي.
الثاني: المراد بالنهي إفراده بالصوم كما سيأتي في الحديث الذي بعده مبيناً، وفي رواية للبخاري "يعني أن ينفرد بصومه" وبه قال من الصحابة أبو هريرة وسلمان، وهو الصحيح من مذهب الشافعي وأصحابه، وروى المزني في جامعه الكبير عنه قولاً أنه لا يكره إلَاّ لمن [(1)] إذا صامه منعه عن الصلاة التي لو كان مفطراً لفعلها.
وقال ابن الصباغ (2): حمل الشافعي أحاديث النهي على من كان الصوم يضعفه ويمنعه من الطاعة.
وقال الماوردي (3): مذهب الشافعي أن معنى نهي الصوم فيه أنه يضعف عن حضور الجمعة والدعاء فيها، فكل من أضعفه الصوم عن حضورها كان مكروهاً، وإلَاّ فلا بأس. وقد داوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على صوم شعبان، ومعلوم أن فيه جمعات كان يصومها، وكذلك رمضان. قال: فعلم أن معنى نهي الصوم فيه ما ذكرناه.
وقال الغزالي في "الأحياء": يستحب الصوم في الأيام الفاضلة الأسبوع ثم ذكر الاثنين والخميس والجمعة. ولعله أراد الجمعة مع الخميس.
(1) في ن ب د زيادة (كان).
(2)
هو أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الواحد، فاضل جليل، قال فيه ابن العربي: ثقة، فقيه، حافظ، ذاكر. توفي في المحرم سنة أربع وتسعين وأربعمائة. المنتظم (9/ 125)، وكشف الظنون (1811)، وطبقات ابن الصلاح (1/ 401).
(3)
الحاوي الكبير (3/ 349).
وقال مالك (1): لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه، ومن يقتدي به ينهي عن صومه، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم [بصومه](2) وأراه كان يتحراه.
وقد قيل: إن الذي [كان](3) يتحرى صومه محمد بن المنكدر، وقيل: صفوان بن سليم، حكاها أبو عمرو (4).
وهذا رأي من مالك خالفه فيه غيره، والسنة قاضية على من خالفها -والنهي ثابت من غير نسخ له، فتعين القول به-.
قال الداودي من أصحابهم: ولم يبلغ مالك هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه. أي فإنه يقول: كلٌّ مأخوذ من قوله ومتروك، إلَاّ صاحب هذا القبر. يشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الفاكهي منهم فقال: في هذا العذر عندي بعد شهرة هذا الحديث وانتشاره.
وقال القاضي عياض: أخذ بظاهر هذا الحديث الشافعي ولعل قول مالك إليه يرجع، لأنه إنما قال: وصومه حسن. ومذهبه معلوم في كراهة تخصيص يوم بالصوم. وهذا محتمل من معنى [ما](5) جاء في الحديث الآخر: لا تخصوه بصيام. عند
(1) الموطأ (1/ 311).
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
في ن ب (لا).
(4)
انظر: الاستذكار (10/ 260، 261).
(5)
في ن ب ساقطة.
بعضهم [وإنما](1) حكى مالك عن من حكى صومه، وظن أنه كان يتحراه، ولم يقل مالك: إني أرى هذا، ولا أحبه، أعني تحريه. فيحمل أنه مذهبه. وهذا تأويل بعيد. وقد انصف الفاكهي منهم فقال: إنه قريب من التعسف. وظاهر قول مالك أو نصه وقوة سياقه يقتضي عدم كراهة صومه منفرداً بلا إشكال. و [قد](2) أشار الباجي منهم إلى أن مذهب مالك يحتمل قولة أخرى له في صيام يوم الجمعة. فوافق الحديث. وهذا ليس ببعيد، كما قال الفاكهي.
وقال الداودي في كتاب "النصيحة" ما معناه: إن النهي إنما هو عن تحريه واختصاصه دون غيره.
وأنه متى صام معه يوماً آخر [وقد](3) خرج عن النهي. وقد يرجح ما قاله قوله في الحديث السالف: "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي"(4).
وقد اختلف العلماء في علة النهي على أقوال:
أحدها: [أنه يوم عيد](5) فلا ينبغي صيامه. وروى الحاكم في
(1) في ن ب (وإني).
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
في ن ب (فقد).
(4)
مسلم (1144)، والبيهقي (4/ 302)، وابن خزيمة (1176)، والحاكم (1/ 311)، والنسائي في الكبرى (2/ 141)، من رواية أبي هريرة، ورُري عن أبي الدرداء عند أحمد (6/ 444)، والنسائي في الكبرى (2/ 142).
(5)
في الأصل بياض.
مستدركه من حديث أبي هريرة مرفوعاً "يوم الجمعة عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلَاّ أن تصوموا قبله أو بعده"(1) ثم قال: هذا حديث صحيح الإِسناد إلَاّ أن أبا بشر الذي في إسناده لم أقف على اسمه.
ثانيها: [أنه](2) يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها لقوله -تعالى-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (3) وغير ذلك من العبادات في
(1) الحاكم (1/ 437)، وأحمد (2/ 303)، وابن خزيمة (2161)، وورد بصيام يوم قبله أو بعده عند أحمد (2/ 365، 422، 458، 526)، وابن الجعد (533)، وعبد الرزاق (7806)، وابن أبي شيبة (3/ 45)، والنسائي في الكبرى (2/ 142).
(2)
في ن ب د (لأنه).
(3)
سورة الأحزاب: آية 41. قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 296): حديث عبد الله بن بشر -هذا- رواه جماعة عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء. ورواه النسائي عن عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أيضاً عن الصماء، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه ثلاثة أوجه:
وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديماً وحديثاً. فقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفرد به؟ فقال: أما صيام يوم السبت يفرد به: فقد جاء فيه ذلك الحديث: حديث الصماء، يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تصوموا يوم السبت إلَاّ فيما افترض عليكم" قال أبو عبد الله: يحيى بن سعيد ينفيه، أبى أن يحدثني به، وقد كان =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= سمعه من ثور، قال: فسمعته من أبي عاصم. قال الأثرم: حجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت: أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها: حديث أم سلمة، حين سئلت:"أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً لها؟ فقالت: السبت والأحد، ومنها حديث جويرية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومي غداً؟ " فالغد: هو يوم السبت. وحديث أبي هريرة: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة، إلَاّ مقروناً بيوم قبله، أو يوم بعده"، فاليوم الذي بعده: هو يوم السبت، وقال: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال" وقد يكون فيها السبت، وأمر بصيام الأيام البيض، وقد يكون فيها السبت، ومثل هذا كثير. فقد فهم الأثرم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة. وذكر أن الإِمام علل حديث يحيى بن سعيد، وكان ينفيه، وأبى أن يحدث به، فهذا تضعيف للحديث.
واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، يعني أن يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النهي على صومه وحده. وعلى هذا تتفق النصوص.
وهذه طريقة جيدة، لولا أن قوله في الحديث:"لا تصوموا يوم السبت إلَاّ فيما افترض عليكم" دليل على المنع من صومه في غير الفرض مفرداً أو مضافاً، لأن الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه، إلَاّ صورة الفرض. ولو كان إنما يتناول صورة الإِفراد، لقال: لا تصوموا يوم السبت إلَاّ أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، كما قال في الجمعة. فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قبلها. وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الأحاديث وغيرها. كقوله في يوم الجمعة: "إلَاّ أن تصوموا يوماً قبله، أو يوماً بعده" فدل على أن الحديث غير محفوظ، وأنه شاذ. وقد قال أبو داود: قال مالك: هذا كذب. وذكر بإسناده عن الزهري: أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت، يقول: هذا حديث حمصي. وعن الأوزاعي قال: ما زلت كاتماً له حتى رأيته انتشر، يعني حديث ابن بسر هذا.
وقالت طائفة، منهم أبو داود: هذا حديث منسوخ.
وقالت طائفة، وهم أكثر أصحاب أحمد: محكم، وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم، وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه.
قالوا: وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل، فإنه سئل في رواية الأثرم عنه؟ فأجاب بالحديث. وقاعدة مذهبه: أنه سأل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به، لأنه ذكره في معرض الجواب، فهو متضمن للجواب والاستدلال معاً.
قالوا: وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد: فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث.
قالوا: وإسناده صحيح. ورواته غير مجروحين ولا متهمين، وذلك يوجب العمل به، وسائر الأحاديث ليس فيها ما يعارضه، لأنها تدل على صومه مضافاً، فيحمل النهي على صومه مفرداً، كما ثبت في يوم الجمعة.
ونظير هذا الحكم أيضاً: كراهية إفراد رجب بالصوم، وعدم كراهيته موصولاً بما قبله أو بعده.
ونظيره أيضاً: ما حمل الإِمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان: أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه. وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول، فلا يكره. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قالوا: وقد جاء هذا مصرحاً به في صوم يوم السبت. ففي مسند الإِمام أحمد من حديث ابن لهيعة: حدثنا موسي بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي، يعني الصماء:"أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت، وهو يتغدى. فقال: تعالي تغدي. فقالت: إني صائمة. فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: كلي، فإن صيام يوم السبت لا لك، ولا عليك" وهذا -وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا انفرد- لكن يدل عليه ما تقدم من الأحاديث. وعلى هذا: فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا يوم السبت" أي لا تقصدوا صومه بعينه إلَاّ في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلَاّ صوم يوم السبت، كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلَاّ يوم السبت، فإنه يصومه وحده.
وأيضاً فقصده بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل، فإنه يكره. ولا تزول الكراهة إلَاّ بضم غيره إليه، أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضاً، لا المقارنة بينه وبين غيره. وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه، أو موافقته عادة، ونحو ذلك.
قالوا: وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول -إلى آخره- فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي. فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم، فكلا الصورتين مخرج، أما للفرض: فبالمخرج المتصل. وأما صومه مضافاً: فبالمخرج المنفصل، فبقيت صورة الإِفراد، واللفظ متناول لها، ولا مخرج لها من عمومه، فيتعين حمله عليها.
ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة، فعللها ابن عقيل: بأنه يوم يمسك فيه اليهود، ويخصونه بالإِمساك، وهو ترك العمل فيه، والصائم في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبهاً بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولا يقال: فهذه العلة موجودة إذا صامه مع غيره، ومع هذا فإنه لا يكره، لأنه إذا صامه مع غيره لم يكن قاصداً تخصيصه المقتضى للتشبه، وشاهده: استحباب صوم يوم قبل عاشوراء وبعده إليه، لتنتفي صورة الموافقة.
وعلله طائفة أخرى: بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه، فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيماً له، فكره ذلك، كما كره إفراد يوم عاشوراء بالتعظيم، لما عظمه أهل الكتاب، وإفراد رجب أيضاً لما عظمه المشركون. وهذا التعليل قد تعارض بيوم الأحد، فإنه يوم عيد للنصارى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اليوم لنا، وغداً ليهود، وبعد غد للنصارى" ومع ذلك فلا يكره صومه.
وأيضاً فإذا كان يوم عيد، فقد يقال: مخالفتهم فيه يكون بالصوم لا بالفطر، فالصوم فيه تحقيق للمخالفة، ويدل على ذلك: ما رواه الإِمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كريب مولى ابن عباس قال: "أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياماً، فقلت: كان يصوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم"، وصححه بعض الحفاظ. فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم، فكيف نعلل كراهة صومه بكونه عيداً لهم؟ وفي جامع الترمذي عن عائشة قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت، والأحد، والاثنين. ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء، والخميس"، قال الترمذي: حديث حسن، وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان، ولم يرفعه.
وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم.
وعلله طائفة: بأنهم يتركون العمل فيه، والصوم مظنة ذلك، فإنه إذا ضم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إليه الأحد زال الإِفراد المكروه، وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم، وزال عنها صورة التعظيم المكروه بعدم التخصيص المؤذن بالتعظيم، فاتفقت بحمد الله الأحاديث، وزال عنها الاضطراب والاختلاف، وتبين تصديق بعضها بعضاً.
فإن قيل: فما تقولون في صوم يوم النيروز والمهرجان، ونحوهما من أعياد المشركين؟ قيل: قد كرهه كثير من العلماء، وأكثر أصحاب أحمد على الكراهة. قال أحمد، في رواية ابنه عبد الله: حدثنا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس والحسن: أنهما كرها صوم يوم النيروز والمهرجان، قال عبد الله: قال أبي: الرجل: أبان بن أبي عياش.
فلما أجاب أحمد بهذا الجواب لمن سأله عن صيام هذين اليومين، دل ذلك على أنه اختاره. وهذه إحدى الطريقتين لأصحابه في مثل ذلك.
وقيل: لا يكون هذا اختياراً له، ولا ينسب إليه القول الذي حكاه، وأكثر الأصحاب على الكراهة، وعللوا ذلك بأنهما يومان يعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما، فكره كيوم السبت. قال صاحب المغني: وعلى قياس هذا: كل عيد للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم.
قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية -قدس الله روحه-: وقد يقال: يكره صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام التي لا تعرف بحساب العرب، بخلاف ما جاء في الحديث من يوم السبت والأحد، لأنه إذا قصد صوم مثل هذه الأيام العجمية أو الجاهلية، كان ذريعة إلى إقامة شعار هذه الأيام وإحياء أمرها، وإظهار حالها، بخلاف السبت والأحد، فإنهما من حساب المسلمين، فليس في صومهما مفسدة. فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإِسلامي، مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي. توفيقاً بين الآثار، والله أعلم.
يومها، فاستحب الفطر فيه ليكون أعون له على هذه الوظائف، وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة. وهو نظير صوم [يوم](1) عرفة للحاج. فإن السنة فيه الفطر، لهذه الحكمة، وإن كانت دعوة الصائم لا ترد. فاعتنى في هذا اليوم بالصلاة دون الصوم، كما جاء في ذكر الساعة التي هي فيه: أنه لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلَاّ أعطاه إياه.
فإن قلت: لو كان الأمر على ما ذكرتم من العلة والحكمة [لم](2) يزل النهي والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى.
فالجواب: ما ذكره النووي في "شرح مسلم"(3): أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه. قال: وهذا هو المعتمد في النهي عن إفراده.
وقال الفاكهي: هذا تعليل يتبادر إلى الذهن جودته. وإذا تُؤمل ضعف لزوال الكراهة بصوم [يوم](4) قبله أو بعده.
قال: والجواب المذكور ضعيف أيضاً لأن الجابر كذلك أعم من كونه ذكراً أو صوماً أو صدقة أو غير ذلك. فلم حصرته في الصيام دون غيره؟ قال: ثم نقول لهذا القائل: ما تقول لو أعتق
(1) زيادة من ن ب د.
(2)
زيادة من ن ب د.
(3)
(8/ 19).
(4)
زيادة من ن ب د.
المكلف رقبة أو تصدق بمال كثير ونحو ذلك، ثم أفرد يوم الجمعة بصيام هل تبقى الكراهة والحالة هذه، ويكون ذلك جابراً كما قلت.
فإن قال بزوالها فقد خرق الإِجماع فيما علمت، وإن قال: لا أنتقض التعليل.
قلت: وإذا عللنا بأنه يجبر ما يحصل من الفترة فقط، فهو ظاهر فيما إذا قدم عليه يوماً دون ما إذا أخر.
ثالثها: إن سبب النهي خوف المبالغة في تعظيمه بحيث يفتتن به كما افتتن بيوم السبت. وهذا منتقض بصلاة الجمعة وغيرها مما هو مشهور، من وظائفها وتعظيمه.
رابعها: إن سبب النهي خوف اعتقاد وجوبه، وهو منقوض أيضاً بصوم الأيام التي حض الشرع على صيامها، فإنها مشروعة للصيام والمواظبة عليها من غير كراهة ولم تترك لخوف اعتقاد وجوبها، كي ولم يبين عليه الصلاة والسلام هذا المعنى هنا كما بينه في قيام رمضان.
خامسها: خشية أن تعظم بالصوم كما عظمت اليهود والنصارى السبت والأحد من ترك العمل، وهو باطل. فإن تعظيم يوم الجمعة ثابت مبين في الكتاب والسنة بأمور كثيرة، ولا يلزم من تعظيمه بالصوم لو كان مشروعاً التشبه بالسبتية والأحدية. فإنهم لا يعظمونه بذلك، ولو عظموه بذلك [بل](1) لم يكن نهيه عن صومه ملزوماً للتشبه بهم ولا لازماً. بل لأمر اطلع عليه الشارع كيف وهم يعظمون
(1) في ن ب د (لم).
سبتهم وأحدهم بالأكل والشرب. وقد روى النسائي وابن حبان والحاكم في صحيحهما (1) من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، وكان يقول: أنهما يوما عيد للمشركين فأحببت أن أخالفهم" ومعلوم أن يوم العيد يوم أكل وشرب، ويترك العمل والسعي في مصالحهم. وقد كانوا أمروا بيوم الجمعة كما أمرنا به فخالفوا وبدلوا، فجُعل عليهم غضباً وتغليظاً، وتعظيم يوم الجمعة معروف عندهم، لكنهم غيروا وبدلوا، والذي يقع [التشبه] بهم [فيه](2) ترك العمل (3).
(1) النسائي في الكبرى (2/ 146)، وابن حبان (3616، 3646)، وصححه الحاكم (1/ 436)، ووافقه الذهبي وابن خزيمة (2167)، وأحمد (6/ 323)، والطبراني في الكبير (23/ 616، 964)، والبيهقي (4/ 303)، وابن خزيمة (2167)، وحسنه الألباني فيه. انظر: إرواء الغليل (4/ 118، 125)، وانظر التعليق (5) حيث نقل ابن القيم تصحيح بعض الحفاظ له.
(2)
في ن ب (في).
(3)
قال السيوطي-رحمنا الله وإياه- في كتابه "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع"(144): أو قصد الاغتسال في يوم السبت، الذي يسمونه "سبت النور" أو الانغماس في ماء، فإن أصل ذلك ماء المعمودية. ومن ذلك: ترك الوظائف الراتبة: من الصنائع والتجارات، وغلق الحوانيت واتخاذه يوم راحة وفرح ولعب، واللعب فيه على الخيل أو غيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام، كل ذلك منكر وبدعة، وهو شعار النصارى فيه، فالواجب على المؤمن بالله ورسوله أن لا يُحدث في هذا اليوم شيئاً أصلاً، بل يجعله يوماً كسائر الأيام. اهـ. =
سادسها: أنه يوم يجب صومه على النصارى ففي صومه تشبه بهم. نقله القاضي نجم الدين القمولي عن بعض فضلاء العصر.
تتمتان:
الأولى: لو أراد اعتكاف يوم الجمعة فهل يستحب له صومه ليصح اعتكافه بالإجماع أو يكره لكونه أفرده بالصوم. فيه نظر.
واحتمال الثانية لا يكره إفراد يوم الجمعة فيما إذا وافق عادة له، بأن نذر [صوم](1) يوم شفاء مريضه أو قدوم زيد أبدًا، فوافق الجمعة، صرح به النووي في "شرح المهذب".
الوجه الثالث: قوله: "ورب الكعبة" فيه الحلف من غير استحلاف لتحقيق الأمر.
الرابع: فيه إضافة الربوبية إلى المخلوقات المعظمة تشريفًا لها وتفخيمًا.
الخامس: فيه السؤال عن العلم للعلماء.
السادس: فيه جواب المفتي بنعم.
…
= قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمنا الله وإياه- في الفتاوى (3/ 37): جاء ترك التحلق يوم الجمعة للعلم وغيره، لأجل أنه يعوقه عن الصلاة، أما أن يترك العمل كل يوم جمعة فهذا من مشابهة أهل الكتاب. اهـ.
(1)
زيادة من ن ب د.