الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
207/ 3/ 38 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً، حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين -وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه (1) - قال: "من اعتكف معي فليعتكف
(1) قال الزركشي في تصحيح العمدة: بعد سياقه الحديث من أوله حتى قوله: "اعتكافه": وهذا اللفظ وهو قوله: "حتى إذا كانت
…
" إلخ لم يخرجه مسلم، وإنما هو في بعض روايات البخاري، بل الذي دل عليه طرف الحديث فيهما أن ليلة إحدى وعشرين ليست هي الليلة التي كان يخرج -من- صبيحتها من اعتكافه، بل الخروج لخطبة كانت من صبيحة إحدى وعشرين، والخروج من الاعتكاف والعودة إلى المسكن -كان- في مساء يوم الموفي عشرين، لا في صبيحة الحادي والعشرين. اهـ.
قال ابن حجر في الفتح (4/ 257، 258)، ومقتضاه أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهو مغاير لقوله في آخر الحديث: "فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين، من حج إحدى وعشرين، فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين، ووقوع المطر كان ليلة إحدى وعشرين، وهو الموافق لبقية الطرق
…
ويؤيده أن في رواية =
العشر الأواخر، فقد رأيت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر". فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين (1).
الكلام عليه من وجوه:
الأول: قوله: "كان يعتكف العشر الأوسط" قال الشيخ تقي الدين: الأقوى فيه أن يقال: "الوُسُط" والوسَط بضم السين أو فتحها، وأما "الأوسط" فكأنه تسمية لمجموع تلك الليالي والأيام، وإنما رجح الأول لأن "العشر" اسم الليالي فيكون وضعها الصحيح جمعاً لائقاً بها.
وقال الفاكهي: يقال: العشر "الأوسط""والوسط" بضم الواو. وكذا رأيته بخط ابن عصفور أعني "الوسط" قال: ووجهه أن "العشر اسم مجموع الليالي العشر، فهو كالآخر في جمع أخرى، ووجه
= الباب الذي يليه: "فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه، وهذا في غاية الإِيضاح
…
اهـ، محل المقصود منه.
(1)
البخاري أطرافه في الفتح (669)، ومسلم (1167)، وأبو داود (1382) في الصلاة، باب: فيمن قال: ليلة إحدى وعشرين، والحميدي (756)، وابن خزيمة (2243)، والبغوي (1825)، والبيهقي (4/ 309)، والموطأ (1/ 319) والنسائي (3/ 79) ، والنسائي في الكبرى (2/ 259، 261، 269).
"الأوسط" إرادة انقسام الشهر إلى ثلاثة أعشار. وقال: الأول كأنه الأصل.
وقال النووي في "شرح مسلم"(1): [كذا هو](2) في جميع النسخ "العشر الأوسط"، والمشهور في الاستعمال تأنيث "العشر"؛ كما قال في أكثر الأحاديث "العشر الأواخر". وتذكيره أيضاً لغة صحيحة باعتبار الأيام أو الوقت والزمان، ويكفي في صحتها ثبوت استعمالها في الأحاديث الصحيحة.
الثاني: قوله "من رمضان" فيه استعمال رمضان من غير ذكر الشهر [وهو الأصح](3) كما سبق في أول الصيام.
الثالث: سميت السنَّة عاماً لأنه مصدر عام، إذا سبح يعوم عوماً وعاماً. فالإِنسان يعوم في دنياه على الأرض طول حياته حتى يأتيه الموت فيغرق فيه. وكأن استعمال العام أولى من السنَّة. فإن السنَّة عندهم قد تكون علماً [على] (4) الجدوبة والقحط يقال: سنت القوم إذا أصابتهم الجدوبة يقلبون الواو ياء.
الرابع: قوله "أريت هذه الليلة" يحتمل أن يكون بمعنى علمتها وبمعنى أبصرت علامتها. قاله الباجي (5).
(1)(7/ 61، 62).
(2)
زيادة من ن ب د.
(3)
زيادة من ن ب د.
(4)
زيادة من ن ب د.
(5)
المنتقى (2/ 87).
وعند البخاري (1) من حديث أبي سعيد: "أن جبريل أخبره بأنها في العشر الأواخر". وقوله "ثم أنسيتها" فيه دلالة على أن الأولى إذا كان ذاكراً للشيء ثم نسيه أن يقول: أُنسيته. ولا يقول: نسيته. وجاء في رواية مسلم (2) وإني "نسيتها" أو "أُنسيتها".
الخامس: قوله: "فمطرت السماء" يقال: "مطرت" و"أمطرت" لغتان صحيحتان كما تقدم بسطه في باب الاستسقاء.
السادس: "العريش" سقف البيت وكذلك عرشه، وكل ما يستظل به. والمراد: كان سقف [المسجد](3)، عريشاً يستظل به، لا يمسك ماء المطر. ويكون تقدير الحديث: وكان سقف [المسجد](4) على عريش. على حذف المضاف.
وقال المحب الطبري في "أحكامه": لعله يريد أنه كان على مثل العريش.
[قلت](5): وفي رواية لمسلم "فمطرنا حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل" وفي رواية للبخاري: "وكان سقف [المسجد] (6) جريد النخل، ما نرى في السماء شيئاً، فجاءت قزعة فأمطرنا" وفي رواية له "وكان سقف المسجد عريشاً".
(1) البخاري (813).
(2)
مسلم (1167).
(3)
في الأصل (البيت)، والتصحيح من ن ب د.
(4)
زيادة من ن ب د.
(5)
زيادة من ن ب د.
(6)
في الأصل (البيت)، والتصحيح من ن ب د.
[السابع](1): العريش يطلق على أمور:
أحدها: ما يستظل به كما في هذا الحديث.
ثانيها: عريش الكَرْم.
ثالثها: شبه الهودج وليس به يتخذ ذلك للمرأة تقعد فيه على بعيرها.
رابعها: خيمة من خشب وثمام. وقد قدمت أنه كل ما يستظل به. والجمع: عريش مثل قليب.
قال الجوهري (2): ومنه قيل لبيوت مكة العُرُش، لأنها عيدان تنصب ويظلل عليها، وفي الحديث (3)"تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفلان كافر بالعرش".
ومن قال: عُرُوشٌ. فواحدها: عَرْشٌ. مثل فَلْسٍ وفُلُوسٍ، ومنه الحديث كان (4) ابن عمر "يقطع التلبية إذا نظر عروش مكة".
وأما عرش: -بضم العين- فهو أحد عروشي العنق، وهما لحمتان مستطيلتان من ناحيتي العنق.
الثامن: قوله: "فوكف المسجد" أي قطر ماء المطر من سقفه يقال: وَكَف البيت، يَكِفُ، وَكْفاً، ووكوفاً، إذا قطر. ووكَفَ الدمع وكيفا ووَكَفانا بمعنى قطر.
(1) في ن ب د (فائدة).
(2)
مختار الصحاح (181).
(3)
مسلم (1225)، والنهاية (3/ 207)، وانظر: لسان العرب (9/ 153).
(4)
النهاية (3/ 208).
[الثامن](1): في الحديث دلالة على استحباب الاعتكاف في رمضان، وأن العشر الأوسط منه للاعتكاف فيه أفضل من الأول وفي الآخر أفضل من الأوسط.
التاسع: فيه دلالة أيضاً لمن رجح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر. ومن ذهب إلى انتقالها فله أن يقول: كانت في تلك السنة هذه الليلة. ولا يلزم من ذلك أن تترجح هذه الليلة مطلقاً. وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أن اعتكافه عليه الصلاة والسلام في العشر الأوسط كان لطلب ليلة القدر قبل أن يعلم أنها في العشر الأواخر.
العاشر: فيه دلالة أيضاً على أن الليلة أُخلقت. قد يراد بها الماضية التي اليوم بعدها. وقد يراد بها الآتية. فإذا أريد أحدهما قيد كما فعل الراوي في قوله: "وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه" لكن المشهور في استعمال الشرع واللغة إنما تستعمل عند الإِطلاق من الماضية. واستعملها بعض الظاهرية في الآتية [وإن ليلة اليوم متأخرة عنه لا سابقة عليه][واختاره ابن دحية وأطنب فيه](2) وقد حكى الخلاف في المسألة من الشافعية المحب الطبري في "شرحه للتنبيه" من أوائل الحيض منه.
فائدة: يقال: فعلنا الليلة كذا، من طلوع الفجر ما لم تزل الشمس. فإذا زالت قيل: فعلنا البارحة.
(1) زيادة، لأن بدل السابع في بعض النسخ فائدة.
(2)
ما بين القوسين فيه تقديم وتأخير بين النسخ.
الحادي عشر: فيه دلالة أيضاً على أن السنَّة للمصلي أن لا يمسح جبهته في الصلاة، وهو محل اتفاق.
الثاني عشر: قد يستدل به بعض الحنفية على أن مباشرة الجبهة بالمصلى في السجود غير واجب، حتى لو سجد على كور العمامة كالطاقة والطاقتين صح، وهو مذهب مالك، وإن كان مكروهاً عندهم.
ووجه الاستدلال: أنه إذا سجد في الماء والطين ففي السجود الأول تعلق الطين بالجبهة، فإذا سجد السجود الثاني كان الطين الذي تعلق بالجبهة من السجود الأول حائلاً في السجود الثاني عن مباشرة الجبهة بالأرض. وجواب هذا من وجهين:
أحدهما: أنه يحتمل أن يكون مسح ما تعلق بالجبهة أولاً قبل السجود الثاني لو كان. كيف ولفظ الحديث: "فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين" وأثر الشيء غيره ، وهذا احتمال ليس ببعيد، وإن استبعده الفاكهي لأجل مذهبه السالف.
الثاني: أنه محمول لو سلم أنه طين على شيء يسير، لا يمنع مباشرة الجبهة الأرض. والرواية الثابتة في صحيح مسلم "وجبينه ممتلئاً طيناً" ربما لا يخالف ما تأولناه فإن الجبين غير الجبهة فالجبينان يكتفان الجبهة. ولا يلزم من امتلأ الجبين امتلأ الجبهة، كذا أجاب به النووي في "شرح مسلم"(1).
يقال بالالتزام: فإنها أمَسَّ للأرض منهما.
(1) شرح مسلم (8/ 60).
ومذهب الشافعي وموافقيه: منع السجود على حائل متصل بالجبهة من غير عذر.
الثالث عشر: قال الباجي من المالكية: في أن الصلاة في الطين جائزة. وقد اختلف قول مالك في ذلك، فقال مرة: لا يجزيه حتى ينزل بالأرض ويسجد عليها. وقال مرة: بحرية الإِيماء. ولعل اختلاف قوله لأجل اختلاف الأحوال وكثرة الطين وقلته، هذا كلامه ومحل الخلاف الذي حكاه عن مالك في الطين الجصاص الذي يضر بالمصلي ويفسد ثيابه، فأما مسجده -عليه أفضل الصلاة والسلام- فمحصب فيحصل منه أثار الطين، فلا يختلف في هذا.
الرابع عشر: فيه دلالة أيضاً على أن العالم الذي له أتباع إذا اطلع على علم وعمل به وأراد موافقة أتباعه له أن يرشدهم إليه بصيغة عموم، وأمر عام لا خاص، وخصوصه لمعين، لقوله عليه الصلاة والسلام:"من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر".
الخامس عشر: فيه دلالة أيضاً على أن العالم إذا كان عنده علم من شيء ثم نسيه أن يعرف أصحابه بنسيانه ويقر به.
السادس عشر: معنى "أنسيتها" أنسيت تعيينها في تلك السنة. ومثل هذا النسيان جائز عليه صلى الله عليه وسلم إذ ليس بتبليغ حكم يجب العمل به. ولعل عدم تعيينها أبلغ في الحكمة، وأكمل من تحصيل المصلحة كما جاء في رواية للبخاري (1):"وعسى أن يكون خيراً لكم" ووجه
(1) البخاري وأطرافه في الفتح (49)، وأحمد (313، 319، 324)، والطيالسي (576)، وابن خزيمة (2198)، ومالك (1/ 320)، والبغوي (1821).
ذلك أنها إذا لم تعين حرص الناس على طلبها، كما أسلفناه في الحديث الأول.
واختلفت الأحاديث في سبب النسيان ففي صحيح مسلم (1) من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "أيقظني بعض أهلي فنسيتها" وفيه أيضاً (2)"فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها" معنى "يحتقان" يدعي كل واحد منهما حقّاً، وتؤيده الرواية الأخرى:"يختصمان" ووقع عند بعضهم "يحنقان" بكسر النون، ولا وجه له صفاً وفي صحيح البخاري من حديث عبادة "فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" فيحتمل أن يكون هذا في أوقات، والله أعلم.
وأفاد ابن دحية في كتابه "العلم المشهور": تسمية هذين الرجلين. وقال: هما -كعب بن مالك- وعبد الله بن أبي حدرد.
السابع عشر: جاء من رواية في الصحيحين في هذا الحديث: "حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهته وأرنبته، تصديق رؤياه" هذا لفظ البخاري، ولمسلم نحوه، ترجم عليها البخاري (3) من كتاب الصلاة باب السجود على الأنف في الطين.
فائدة: قال ابن منده في مستخرجه: روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) مسلم (1166).
(2)
مسلم (1167).
(3)
البخاري في الفتح (2/ 298) ح 813.
في ليلة القدر عبادة بن الصامت ومعاذ بن جبل وأنس وعمر بن الخطاب وابنه والفلتان بن عاصم وعبد الله بن عباس وجابر وأُبي بن وهب. وحبيش والد زر بن حبيش وبلال. وجابر بن سمرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو هريرة وعبد الله بن أنيس وعبد الله بن عمرو، وعائشة وأبو سعيد الخدري. وقد ذكر المصنف حديث هؤلاء الثلاثة، [والله أعلم](1).
…
(1) زيادة من ن ب د، وقوله رحمه الله: وقد أخرج المصنف حديث هؤلاء الثلاثة ومعهم عبد الله بن عمرو فلم يخرج له المصنف في باب ليلة القدر شيئاً وإنما ذكر حديث ابن عمر.