الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
171/ 1/ 33 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، حين بعثه إلى اليمن:"إنك ستأتي قوماً أهلَ كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلَّا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم: أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم: أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"(1).
الكلام عليه من ثلاثين وجهاً:
وهو حديث عظيم جامع لمعظم دعائم الإِسلام، وليس فيه ذكر
(1) البخاري أطرافه في الفتح (1395)، ومسلم (19)، وابن ماجه (1783)، والترمذي (625، 2014)، والنسائي (5/ 2)، والكبرى له (2/ 4)، والدارمي (1/ 379، 384)، وشرح السنَّة (1557)، والدارقطني (2/ 136)، والبيهقي (4/ 101)، وابن أبي شيبة (3/ 114)، وأحمد (1/ 233)، وأبو داود (1584) في الزكاة، باب: في زكاة السائمة.
الصوم والحج وهو [تقصير](1) من الراوي، كما قال ابن الصلاح: لأن بعثه عليه الصلاة والسلام معاذاً كان قبل وفاته بقليل، ويبعد حيئنذٍ القول: بأن ذلك كان قبل فرض الحج والصوم؛ لأن الصوم فرض في السنة الثانية من الهجرة، والحج فرض في السنة السادسة على المشهور. وبدأ المصنف بهذا الحديث لأنه دال على فرضية الزكاة، وهو أمر مقطوع به، ومن جحده كفر.
الوجه الأول: في التعريف براويه وقد سلف في باب الاستطابة. ومعاذ رضي الله عنه قد أحلنا على ترجمته في الحديث الخامس من باب جامع (2).
(1) في الأصل (تقتضيه)، والتصحيح من ن ب د.
(2)
قال ابن حجر في الفتح (3/ 360): تكميل: لم يقع في هذا الحديث ذكر الصوم والحج مع أن بعث معاذ كما تقدم كان في آخر الأمر، وأجاب ابن الصلاح: بأن ذلك تقصير من بعض الرواة، وتعقب بأنه يقضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان. وأجاب الكرماني: بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر، ولهذا كُررا في القرآن، فمن ثم لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث مع أنهما من أركان الإِسلام. والسر في ذلك أن الصلاة والزكاة إذا وجبا على المكلف لا يسقطان عنه أصلاً، بخلاف الصوم؛ فإنه قد يسقط عنه بالفدية، والحج فإن الغير قد يقوم مقامه فيه كما في المغضوب، ويحتمل أنه حينئذٍ لم يكن شرع. اهـ. وقال شيخنا شيخ الإِسلام: إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منه بشيء كحديث ابن عمر: "بني الإِسلام على خمس" فإذا كان في الدعاء إلى الإِسلام اكتفى بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة، ولو كان بعد وجود فرض الصوم والحج كقوله =
"واليمن": إقليم معروف.
[الثاني](1): قوله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمعاذ" هذا يقتضي أن يكون الحديث من مسند ابن عباس وكذا رواية مسلم عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام بعث معاذاً. نعم في رواية له عن ابن عباس عن معاذ، وفي أخري: أن معاذ بعثه. ويجمع بينهما بأن يكون سمع ابن عباس الحديث مرة من معاذ فرواه متصلاً وأرسله تارة، ومُرسَلُه حجة على المشهور، كيف وقد عرف من أرسل عنه، ويحتمل أن ابن عباس سمعه من معاذ وحضر القصة فرواه تارة بلا واسطة وتارة بها: إما لنسيانه الحضور، وإما لمعنى آخر.
الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنك ستأتي قوماً
= -تعالى-: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} في موضعين من براءة مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج قطعاً، وحديث ابن عمر أيضاً:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلَّا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" وغير ذلك من الأحاديث، قال: والحكمة في ذلك أن الأركان الخمسة: اعتقادي وهو الشهادة، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة، اقتصر في الدعاء إلى الإِسلام عليها لتفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدني محض والحج بدني مالي، وأيضاً فكلمة الإِسلام هي الأصل، وهي شاقة على الكفار والصلوات شاقة لتكررها والزكاة شاقة كما في جبلة الإِنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها، والله أعلم. اهـ.
(1)
في الأصل ون ب (الثاني، الثالث) وهكذا، أما في ن د (ثانيها، ثالثها)
…
إلخ الأوجه.
أهل كتاب" هو كالتوطئة والتمهيد بالوصية، لاستجماع همته على الدعاء لهم. إلى ما ذكر في الحديث، لأن أهل الكتاب أهل علم، ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة جهال المشركين وعبدة الأوثان في العناية بها.
الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا جئتهم فادعهم" إلى آخره، وقعت البدأة بدعائهم إلى الشهادتين ومطالبتهم بهما، لأنها أصل الدين الذي لا يصح شيء من فروعه إلَّا بهما، فمن كان منهم غير موحد على التحقيق: كالنصارى فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين عيناً. ومن كان موحداً: كاليهود فالمطالبة له بالجمع بين ما أقر به من التوحيد وبين الإِقرار بالرسالة. وإن كان هؤلاء اليهود الذين كانوا في اليمن عندهم ما يقتضي الإِشراك ولو باللزوم تكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم. وقد ذكر الفقهاء: أن من كان كافراً بشيء وهو مؤمن بغيره لم يدخل في الإِسلام إلَّا بالإِيمان بما كفر به. كذا نقله الشيخ تقي الدين عنهم، وليس على إطلاقه.
بل قال أصحابنا العراقيون: لا يدخل في الإِسلام إلَّا بالتلفظ بالشهادتين، وهو الصحيح.
وقال الخراسانيون منهم القاضي حسين: كل من أقر بما هو معروف من دين الإِسلام أنه حق صار به مسلماً، وإن لم يتلفظ بالشهادتين، لأنه لو جحد ذلك كان كافراً، فإذا اعترف به يكون مؤمناً.
الخامس: يؤخذ من هذا الحديث أنه لا يكفي الاقتصار في الإِسلام على شهادة أن لا إله إلَّا الله، وهو مذهب الجمهور، ولقوله عليه الصلاة والسلام:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله وأن محمداً رسولُ الله"(1).
ومن أصحابنا من قال: يصير مسلماً، ويطالب بالشهادة الأخرى. فإن أبى حكم بارتداده. واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام في بعض الروايات:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله" وجاء في رواية لمسلم في حديث ابن عباس [هذا](2): "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلَّا الله، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم".
والجواب: أنه عليه الصلاة والسلام رمز بقوله: "لا إله إلَّا الله" إلى الإِتيان بالشهادتين وغيرهما مما هو من لازمها.
سادسها: يؤخذ أيضاً أنه لا يشترط التبرىء من كل دين يخالف دين الإِسلام، وهو الصحيح عندنا، وهو ظاهر حديث:"أمرت أن أقاتل الناس" أيضاً.
(1) البخاري (1399، 1456، 6924، 7284، 7285)، ومسلم (20)، وأبو داود (1556) في الزكاة، والترمذي (2607) في الإِيمان، باب: ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله، والنسائي (5/ 14)(7/ 77)، وابن حبان (216، 217)، وأحمد (2/ 423، 528) والإِيمان لابن منده (215، 216)، والسنن للبيهقي (4/ 104)، وعبد الرزاق (18718).
(2)
زيادة من ن ب د.
سابعها. قوله: "فإن هم أطاعوا لك بذلك" أي تلفظوا بالشهادتين ولا بد، هذا معنى طاعتهم فلا يكفي غير التلفظ من إشارة أو قرينة ما دالة على الأعيان، بل لا بد من النطق بهما جميعاً كما أسلفنا.
واعلم أن ظاهر الرواية التي أوردناها عن مسلم: "فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم" أن أهل الكتاب ليسوا بعارفين، وهو مذهب حذّاق المتكلمين فيهم، وإن كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته لدلالة السمع عندهم على هذا، وإن كان العقل عندهم لا يمنع أن يعرف الله من كذب رسوله.
قال القاضي عياض ما عرف الله -تعالى- من شبهه وجسمه من اليهود، وأجاز عليه اليد (1) أو أضاف إليه الولد (2) منهم أو أضاف
(1) أقول: إثباتاً يليق بجلاله من غير تحريف ولا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه كما وصف الله نفسه ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم.
(2)
قال الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- في تعليقه على الفتح (3/ 359): لا شك أن من شبه الله بخلقه أو أضاف إليه الولد جاهل به -سبحانه- ولم يقدره حق قدره، لأنه -سبحانه- لا شبيه له ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأما إضافة اليد له -سبحانه- فمحل تفصيل -قلت: اليد من صفات الله الذاتية، ولعل إضافتهم لها على سبيل التنقص كقولهم:"يد الله مغلولة"- فمن أضافها إليه -سبحانه- على أنها من جنس أيدي المخلوقين فهو مشبه ضال، وأما من أضافها إليه على الوجه الذي يليق بجلاله من غير أن يشابه خلقه في ذلك فهذا حق، وإثباتها لله على هذا الوجه واجب، كما نطق به القرآن، وصحت به السنَّة، وهو مذهب أهل السنَّة، فتنبه، والله الموفق.
إليه الصاحبة والولد وأجاز [الحلول](1) عليه والانتقال والامتزاج من النصارى أو وصفه بما لا يليق به أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس والثنوية، فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به، إذ ليس موصوفاً بصفات الإِله الواجبة، فإذاً. ما عرفوا الله -سبحانه- فتحقق هذه النكتة واعتمد عليها. قال: وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا وبها قطع الكلام أبو عمران [الفاسي](2) بين عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة (3).
(1) في ن ب (الحول).
(2)
زيادة من ن ب د هـ. وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 545).
(3)
قال القاضي عياض -رحمنا الله تعالى وإياه- في ترتيب المدارك (4/ 705). قال: حدث في القيروان مسالة في الكفار، هل يعرفون الله تعالى أم لا؟ فوقع فيها اختلاف العلماء، ووقعت في السنة العامة، وكثر المراءُ، واقتتلوا في الأسواق إلى أن ذهبوا إلى أبي عمران الفاسي، فقال: إن أنصتم، علمتكم. قالوا: نعم. قال: لا يكلمني إلَّا رجل، ويسمع الباقون. فنصبوا واحداً، فقال له: أرأيت لو لقيت رجلاً، فقلت له: أتعرف أبا عمران الفاسي؟ قال: نعم. فقلت له: صفه لي. قال: هو يقال في سوق كذا، ويسكن سبته، أكان يعرفني؟ فقال: لا. فقال: لو لقيت آخر فسألته كما سألت الأول، فقال: أعرفه، يدرس العلم، ويفتي، ويسكن بغرب الشماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: فكذلك الكافر، قال: لربه صاحبة وولد، وأنه جسم، فلم يعرف الله ولا وصفه بصفته بخلاف المؤمن، فقالوا: شفيتنا. ودعوا له، ولم يخوضوا أبعد في المسألة. اهـ. نقلها الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/ 546) وعلق عليها تعليق نفيس فراجعه.
ثامنها: قد يتعلق بالحديث من يقول: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، حيث دعوا أولاً إلى الإِيمان فقط، ودعوا إلى الفروع بعد إجابتهم إلى الإِيمان.
وضُعف هذا: بأن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه [ولا بُدءَ](1) الترتيب في الوجوب، بدليل أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قُدمت في الذكر، وأخرت الزكاة مع تساويهما في خطاب الوجوب في الدنيا، ولا تتعلق المطالبة به في الدنيا إلَّا بعد الإِسلام، وليس المراد أن لا يزاد عذابهم بسببهما في الآخرة، كيف وهو صلى الله عليه وسلم رتب ذلك في الدعاء إلى الإِسلام، وبدأ بالأهم فالأهم.
وقد اختلف العلماء في أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة:
المأمور بها والمنهي عنها على ثلاثة أقوال:
أصحها: نعم. فيهما.
وثانيها: لا. فيهما.
وثالثها: أنهم مخاطبون بالمنهي دون المأمور (2).
تاسعها: قوله عليه الصلاة والسلام: "فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" قد قدمنا أن طاعتهم بالإِيمان بالنطق بالشهادتين، وأما طاعتهم في الصلاة فتحتمل أمرين.
(1) هذه الكلمة ساقطة من إحكام الأحكام (3/ 373) مع اختلاف يسير بنقل المؤلف عنه.
(2)
انظر: حاشية الصنعاني (3/ 273) في كلامه على هذه المسألة.
أحدهما: إقرارهم بوجوبها واعتقاد فرضيتها والتزامهم بها.
والثاني: طاعتهم بالفعل وأدائها، ويحتمل أن المراد مجموع ذلك وهو الظاهر، لكن رجح الأول بأمر معاذ بإخبارهم بالفرضية، فتعود الإِشارة إليها.
ورجح الثاني بأنهم لو بادروا إلى الامتثال بالفعل كفى، ولم يشترط تلفظهم بالإِقرار بالوجوب. وكذلك في الزكاة: لو بادروا بأدائها من غير تلفظ بالإِقرار كفى. فالشرط عدم الإِنكار للوجوب، لا التلفظ بالإِقرار (1). وإنما كان ذلك لأن المبادرة إلى الفعل تتضمن الامتثال فهو أبلغ في ذلك جميعه، لا أنه المطلوب فقط ظاهراً بل مطلوب الشرع وجود الامتثال للأمر بسوابقه ولواحقه، لكن هل يستفاد ذلك من صيغة الأمر بالمطلوب أم من كلام خارج فيه كلام أصولي.
عاشرها: فيه دلالة على أن الوتر ليس بواجب، وكذا ركعتا الفجر، فإنَّ بعث معاذ إلى اليمن قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل بعد الأمر بالوتر وركعتي الفجر.
وقد قال بوجوب الوتر أبو حنيفة: دون صاحبيه.
وبوجوب ركعتي الفجر [الحسن البصري](2) كما سلف ذلك في باب صلاة الجماعة، وباب الوتر.
(1) ساقه بمعناه في إحكام الأحكام (3/ 275).
(2)
في ن ب ساقطة.
الحادي عشر: قوله عليه الصلاة والسلام: "فإنّ هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" الضمير في "فقرائهم" و"أغنيائهم" يعود إلى المسلمين أم إلى كل ناحية منهم. فإن نظرنا إلى عموم الحكم جعلنا الضمير عائداً إلى جميع المسلمين، وإن نظرنا إلى خصوصية المبعوث إليهم أهل اليمن رددناه إلى الناحية، فيختص الحكم بهم، لكن أعيان الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر. [ولولا](1) المناسبة الموجودة في باب الزكاة لقطعنا بعدم اعتبار خصوصية الناحية، كما هي غير معتبرة في الصلاة قطعاً في الحكم.
وتظهر فائدة هذا الكلام وهو عود الضمير إلى ما زاد في جواز نقل الزكاة وعدمه عن بلد المال [(2)] وفيه خلاف:
فعند أبي حنيفة: يجوز.
وقد استدل به الخطابي (3) وغيره من الشافعية: على المنع وهو الأصح عند جمهورهم وهو مذهب مالك وأحمد.
قال الشيخ تقي الدين (4): وفيه عندي ضعف، لأن الأقرب أن المراد: وتؤخذ من أغنيائهم من حيث إنهم مسلمون، لا من حيث إنهم من أهل اليمن، وكذلك الرد على فقرائهم، وإن لم يكن هذا هو الأظهر فهو محتمل قويّاً.
(1) زيادة من ن ب د هـ.
(2)
في الأصل كلمة غير واضحة، وهي غير موجودة في النسخ الأخرى.
(3)
انظر: معالم السنن (2/ 199).
(4)
انظر: إحكام الأحكام (3/ 276).
قلت: ولا دلالة فيه أيضاً على منع النقل، لأن من منع النقل استثنى منه الإِمام والساعي كما هو ظاهر الأحاديث. وقد نقلها معاذ إلى عمر كما سيأتي. قال النووي في "شرح المهذب" (1): وهو الراجح ويستثنى مسألة ثالثة ذكرتها في "شرح المنهاج" فليراجع منه.
فرع: لو خالف ونقل فالأصح عندنا أنه لا يجزيه.
والأصح عند المالكية: الإِجزاء خلافاً لسحنون، وعندهم لو بلغ الإِمام أن ببعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة بغيره إليه. وهل العبرة مكان المال وقت تمام الحول، فيفرق الصدقة عنده إذ هو سبب [الوجود] (2) أو مكان المالك إذ هو المخاطب بذلك؛ فيخرجها في ذلك لأصحابهم قولان:
الأول: هو مذهب الشافعي.
وأما صدقة الفطر: فإنما ينظر فيها إلى موضع المالك فقط على المذهبين.
فرع: يجوز عندنا نقل الكفارة والنذر والوصية على المذهب، لأن الأطماع لا تمتد إليها امتدادها إلى الزكاة والأوقاف الجارية على الفقراء المساكين أو من يعرض لحكمها في ذلك، وهي رتبة بين رتبتين لأن الأطماع تمتد إليها كالزكاة، ولكنها غير متعلقة بمال كالوصية ونحوها، ولا يبعد تصحيح جواز النقل إلَّا أن يكون الواقف قد نص على بلد فلا يُتجاوز.
(1) انظر: المجموع (5/ 332).
(2)
في ن ب د (الوجوب).
فائدة: كان معاذ على اليمن من حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى زمان عمر، فبعث إليه بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد [(1)][آخذاً](2) فلما كان العام القابل بعث إليه [بالنصف](3) فتراجعاً بمثل ذلك، فلما كان [(4)] الثالث بعث إليه [بكلها](5)، وقال ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً.
الثاني عشر: في الحديث دلالة على تحريم دفع الزكاة إلى كافر.
الثالث عشر: فيه أيضاً أنها لا تدفع إلى غني من نصيب الفقراء.
ومقتضى مذهب الشافعي: أن الغني والفقير من ذلك معتبر برتبة الشخص.
وقد اختلف العلماء في الغني الذي يحرم عليه أخذ الزكاة.
(1) في كتاب الأموال (أحداً).
(2)
في كتاب الأموال (يأخذه مني).
(3)
في كتاب الأموال (بشطر الصدقة).
(4)
في كتاب الأموال (العام).
(5)
في كتاب الأموال (بها كلها)، فراجعه عمر بمثل ما رجعه قبل ذلك، فقال. لمراجعة ضبط النص والاطلاع عليه. انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد (1912).
فقيل: هو من ملك نصاباً، وهو مذهب أبي حنيفة (1) وبعض أصحاب مالك، من حيث إنه عليه الصلاة والسلام جعله في الحديث غنيًّا وقابله بالفقير، ومن ملك نصاباً فالزكاة مأخوذة منه فهو غني بهذا الاعتبار. والغني لا يعطى من الزكاة إلَّا في المواضع الخمسة المستثناة، وليس بالشديد القوة (2)، كما قاله الشيخ تقي الدين (3).
وعند أحمد (4): إذا ملك خمسين درهماً لم يعط شيئاً من الزكاة، لحديث ابن مسعود مرفوعاً:"من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة، خدوشاً، أو كدوجاً، في وجهه" قالوا: يا رسول الله! وما غناه؟ قال: "خمسون درهماً، أو حسابها من الذهب" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه (5) ولكن ضعفه ابن الجوزي في تحقيقه
(1) انظر: معالم السنن (2/ 227).
(2)
عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغني، إلَّا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني". أخرجه مالك في الموطأ (1/ 268)، وأبو داود (1635).
(3)
انظر: إحكام الأحكام (3/ 278).
(4)
معالم السنن (2/ 226).
(5)
أبو داود (1626) في الزكاة، باب: من يعطى الصدقة وحد الغنى، والنسائي (5/ 97)، وابن ماجه (1840)، والترمذي (650، 651)، والبغوي (1600)، وأحمد (1/ 388)، والحاكم (1/ 407)، وسكت عليه الذهبي، والطحاوي (2/ 20)، وأبو يعلى (5217)، والطيالسي (1/ 177)، والدارمي (1/ 386)، والحديث ضعيف لضعف حكيم بن =
بحكيم بن جبير وغيره.
ولا اعتبار عند الشافعية: بالنصاب، لأنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تحل المسألة إلَّا لثلاثة فذكر رجلاً أصابته جائحة [اجتاحت] (1) ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش"(2) رواه مسلم في صحيحه، مطولاً ومن لم يجد ما يكفيه وهو المعتبر عندهم لم يجد قواماً أو سداداً من عيش.
الرابع عشر: [ظاهره](3) قد يستدل به من يرى إخراج الزكاة لصنف واحد إذ لم يذكر في الحديث إلَّا الفقراء، وهو مذهب مالك
= جبير غير أنه لم ينفرد به، بل تابعه زبيد بن الحارث، كما نقله الترمذي وغيره عن سفيان، المستدرك (1/ 407). وله شاهد من حديث سهل بن الحَنْظَلِيَّة عند أبي داود في الزكاة (1629)، باب: من يعطى الصدقة وحد الغنى، وأحمد (4/ 180، 181)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 20).
"الخدوش": يقال: خمشت المرأة وجهها، إذا خدشته بظفر أو حديدة أو نحوها. و"الكدوح": الآثار من الخَدْش والعض ونحوه، وإنما قيل للحمار مُكَدَّح، لما به من آثار العضاض.
(1)
في ن ب (أجاحت).
(2)
مسلم (1044)، وأبو داود (1640) في الزكاة، باب: ما تجوز فيه المسألة، والنسائي (5/ 88، 89)، وابن خزيمة (2361)، والطيالسي (1327)، وابن حبان (3395، 3396)، والدارمي (1/ 396)، وابن الجارود (367)، وأحمد (3/ 377، 5/ 60)، والحميدي (819)، والبغوي (1626).
(3)
في ن ب د ساقطة.
ومن وافقه (1)، قال الشيخ تقي الدين (2): وفيه بحث.
الخامس عشر: فيه اهتمام الإِمام بأمر الفقراء في الزكاة.
السادس عشر: فيه [أيضاً](3) أن الإِمام أو نائبه هو الذي يتولى قبض الزكاة لوصفه إياها بكونها مأخوذة من الأغنياء، وكل ما اقتضى خلاف هذه الصفة فالحديث ينفيه [والأظهر](4) عند الشافعية أن الأفضل الصرف إليه إلَّا أن يكون جائزاً.
السابع عشر: فيه أيضاً أن صاحب المال إذا امتنع من دفعها أخذت منه بغير اختياره، حيث قال:"تؤخذ من أموالهم" وهذا الحكم لا خلاف فيه، لكن هل تبرأ ذمته ويجزيه في الباطن، فيه خلاف وتفصيل لأصحابنا، ذكرته في "شرح المنهاج".
الثامن عشر: قوله -عليه أفضل الصلاة والسلام-: " فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم" إياك: منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره، والتقدير: باعد واتق وكرائم أموالهم. وهو من باب إياك والأسد وأهلك والليل وإشباه ذلك.
(1) وهو مذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة). انظر: كشاف القناع (2/ 335)، والمغني (2/ 668)، واللباب (1/ 156)، وفتح القدير (2/ 14)، والفوانين الفقهية (110)، وبداية المجتهد (1/ 267).
(2)
انظر: إحكام الأحكام (3/ 278). للاطلاع على المسألة مفصلة عندهم. انظر: مغني المحتاج (3/ 106، 112)، والمهذب (1/ 170، 173)، وحاشية الباجوري (1/ 291، 294).
(3)
زيادة من ن ب د.
(4)
في الأصل (الأفضل)، والتصحيح من ن ب د.
قال ابن قتيبة: "ولا يجوز: إياك كرائم" بحذف الواو.
والكرائم جمع كريمة وهي جامعة الكمال [(1)] الممكن في حقها من غزارة لبن وكمال صورة أو كثرة لحم أو صوف وهي النفائس، التي تتعلق بها نفس مالكها، أو يختصها لنفسه، ويؤثرها كالأكوله.
والرُّبا: هي التي تربي ولدها أو الحديثة العهد بالنتاج.
والماخض: هي الحامل. وفحل الغنم.
وحزرات المال: -بتقديم الزاي- وقيل: بتأخيرها (2) وهي التي تحرز بالعين، وترمق لشرفها عند أهلها.
التاسع عشر: الحكمة في منع الساعي ذلك أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء في مال الأغنياء فلا يناسب ذلك الإِجحاف بأرباب الأموال فسامحهم الشرع بما يظنون به، ونهى الساعي عن أخذه فيحرم عليه أخذها، بل يأخذ الوسط، ويحرم على رب المال إخراج شر المال، نعم لو رضي المالك بإخراج الكريمة قبلت منه.
(1) في الأصل زيادة (واو)، والتصحيح من ن ب د.
(2)
في الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ (1/ 267): "لا تأخذ من حزرات الناس شيئاً"، وأورده ابن الجوزي في غريب الحديث فى موضعين: في باب الحاء مع الراء (1/ 203)، وفي الحاء مع الزاي (1/ 209)، وأيضاً في النهاية كذلك (1/ 367) (1/ 377). قال أبو عببدة الحزرة: خيار المال، وحكى الأزهري: أن حزرات الأموال هي التي يودها أربابها، وليس كل المال الحزرة
…
إلخ.
وعندنا وجه: أن الرُّبا (1) لا تؤخذ لأنها لقرب عهدها بالولادة مهزولة، والهزال عيب.
ووجه آخر: أنه لا تقبل الكريمة إذا تبرع المالك بها للنهي المذكور، وهما فاسدان، كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج مع فروع متعلقة بذلك فراجعها منه.
العشرون: قوله عليه الصلاة والسلام: "واتق دعوة المظلوم! فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" هذا تنبيه على الامتناع من جميع أنواع الظلم، وذكر ذلك عقب أخذ الكرائم، حيث إن أخذها ظلم، وعلل إنفاذ دعوة المظلوم [بعدم الحجاب بينها وبين الله -تعالى- تأكيداً لتحريم الظلم وتنبيهاً على سرعة عقوبة فاعله، ودعوة المظلوم](2) مسموعة لا ترد، وهو معنى عدم الحجاب بينها وبين الله -تعالى-.
الحادي والعشرون: الحجاب يقتضي الاستقرار في المكان (3) والباري -تعالى- منزه عن ذلك، إلَّا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاطب العرب بما تفهم.
والمراد: أنها مقبولة على كل حال لا أن للباري -جل وتعالى- حجاباً بحجبه عن الناس. ويحتمل كما قال الفاكهي: أن
(1) أي التي تربي ولدها.
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
يقال: إن الله مستوٍ على عرشه، ولا يحيط به شيء من خلقه، وما فوقه هواء.
يراد بالحجاب هنا المعنوي دون الحسي (1).
والمعنى: أن المظلوم دعوته مقبولة وإن كان عاصياً مخلطاً، ولا يكون عصيانه وتخليطه حاجباً لدعائه. ومما يؤيد هذا الاحتمال ما جاء في الصحيح (2):"أنى يستجاب له ومطعمه حرام ومشربه حرام"، الحديث، فعلم أن المطعم الحرام والمشرب الحرام ونحو ذلك مما يمنع الإِجابة، فأراد صلى الله عليه وسلم أن دعوة المظلوم لا يمنعها شيء كما منع المطعم والمشرب الحرام من استجابة الدعاء في حق غير المظلوم.
الثاني والعشرون: يؤخذ من الحديث أن السنَّة أن الكفار يدعون إلى التوحيد قبل القتال.
الثالث والعشرون: يؤخذ منه أيضاً وجوب الزكاة كما سلف.
الرابع والعشرون: يؤخذ منه أيضاً أن الإِمام يبعث سعاة عدولاً أُمناء ثقات علماء يأخذون الزكاة نيابة عن الفقراء.
الخامس والعشرون: يؤخذ منه أيضاً بوصية الإِمام نوابه بما يحتاجون إليه من علمهم من العمل بالأحكام أمرها ونهيها خصوصاً بما يأمر الرعية.
السادس والعشرون: يؤخذ منه أيضاً وجوب بيان تحريم الظلم على الإِمام وغيره من العلماء والأمر باجتنابه وبتقوى الله -تعالى- والمبالغة في ذلك وتعريف قبح عاقبته.
(1) يقال: ليس بينها وبين الله مانع، ولا يقال: معنوي ولا حسي.
(2)
مسلم (1015)، والترمذي (2989).
السابع والعشرون: يؤخذ منه أيضاً تحريم جميع أنواع الظلم كما أسلفناه.
الثامن والعشرون: فيه أيضاً استجابة دعاء المظلوم.
التاسع والعشرون: يؤخذ منه أيضاً جواز الدعاء على الظالم بما يسوغ شرعاً.
الثلاثون: يؤخذ منه أيضاً قبول خبر الواحد ووجوب العمل به.
قال القاضي عياض (1): وفيه دليل على إيجاب الزكاة على الصبي والمجنون لعموم قوله: "من أغنيائهم وضُعَّفَ بأنهما ليسا أهلاً للطاعة. فالحديت حجة للمخالف (2).
واتفقوا: على وجوب العشر فيما أخرجته أرضه (3). ووجوب صدقة الفطر عليه.
قال البغوي: وفيه دلالة أيضاً على أن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة، لأنه أضاف الصدقة إلى الأموال،
(1) الصحيح أن الزكاة تجب في أموال اليتامى لحديث: "من ولي يتيماً فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة". وفي رواية: "ابتغوا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة".
(2)
أخرجه الترمذي والبيهقي. انظر: نصب الراية (2/ 331)، وكانت عائشة رضي الله عنها تخرج الزكاة من أموال اليتامى، وقال عمر رضي الله عنه:"اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة".
(3)
أي أرض اليتيم. انظر: الاستذكار (9/ 83)، ومعالم السنن (2/ 200).
وفيه نظر: لأنها لم تقيد بالوجود (1).
…
(1) البغوي (5/ 473)، وقال ابن القاسم في حاشية الروض (3/ 183): أي فلا تسقط زكاة النصاب الذي تلف بيده، لأنه عين تلزمه مؤونة تسليمه إلى مستحقه، فيضمنه بتلفه في يده، كعارية ونحوها، سواء فرط أو لم يفرط وما لم يكن تحت يده تسقط زكاته، وعنه: تسقط إذا لم يفرط، فيعتبر التمكن من الأداء مطلقاً، واختار الشيخ وجمع: تسقط بتلفه إذا لم يفرط على كلا الروايتين أما لو أمكنه الأداء فلم يزك لم تسقط، كزكاة الفطر وكالحج، وقال الموفق: والصحيح تسقط بتلف المال إذا لم يفرط، لأنها تجب على المواساة فلا تجب مع عدم المال، وفقر من تجب عليه
…
إلخ كلامه. وأيضاً نقل الحافظ كلام البغوي في الفتح (3/ 285)، وقال: وفيه نظر، ولم يبينه.