الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
210/ 4/ 39 - عن صفية رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد-، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما، إنها صفية بنت حيي"، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله! فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرّاً -أو قال شيئاً-" (1).
وفي رواية: أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة .. ثم ذكره بمعناه.
(1) البخاري أطرافه في الفتح (2035)، ومسلم (2175)، وأبو داود (2470) في الصيام، باب: المعتكف يدخل البيت لحاجته، وفي (4994) في الأدب، باب: في حسن الظن، وابن ماجه (1779)، والدارمي (2/ 27)، وابن خزيمة (2233، 2234)، والبغوي (4208)، والبيهقي (4/ 321، 324)، وأحمد (6/ 337)، وعبد الرزاق (8065).
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: صفية هي أم المؤمنين أم يحيى بنت حيي -بضم الحاء- وحُكِيَ كسرها ابن أخطب بن سعية -بفتح السين وإسكان العين المهملتين ثم مثناة تحت ثم هاء- وصحَّفه الصعبي في رجال هذا الكتاب فقال: سفينة: كذا رأيته بخطه، وتبعه الفاكهي في شرحه، فإنه قرأه على مصنفه، وهي من بني إسرائيل من بنات هارون بن عمران أخي موسي -عليهما الصلاة والسلام-، وهما من سبط لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
وأمها برة بنت سموأل، وهي أخت رفاعة بن سموأل.
سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر في شهر رمضان سنة سبع من الهجرة، ثم أعتقها وتزوجها، ولم تبلغ خمس عشرة، وجعل عتقها صداقها، وذلك من خصائصه.
قال أبو عمر: عند أكثر الفقهاء.
قال أبو عبيدة: وتزوجها في شوال أي بني بها، وكانت قبله عند سلام بتخفيف اللام، كما ضبطه الشيخ تقي الدين -ابن مِشْكم شاعر ففارقها، فتزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق، وهو شاعر فقتل يوم خيبر.
قال الجاحظ: في كتاب "الموالي" ولدَ صفية بنت حيي مائة نبي ومائة ملك، ثم صيرها الله -تعالى- أمة لنبيه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عبد البر: وكانت فاضلة عاقلة حليمة، روت عن
النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أحاديث، اتفقا منها على هذا الحديث، ولم يذكر الحميدي في جمعه لها غيره، روى عنها ابن أخيها وجماعة. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم بوجهها أثر خضرة قريباً من عنقها، فسألها، فقالت: رأيت في المنام قمراً أقبل من يثرب حتى وقع في حجري. فذكرت ذلك لزوجي كنانة. فقال: أتحبين أن تكوني تحت هذا الملك الذي يأتي من المدينة. وضرب وجهي هذه الضربة، وفي رواية قالت صفية لأهلها: رأيت كأني وهذا الذي يزعم أن الله أرسله وملك يسترنا بجناحه. فردوا عليها رؤياها، وقالوا لها في ذلك قولاً شديداً، وقد أوضحت ترجمتها في رجال هذا الكتاب أكثر من هذا، وذكرت فيه خمسة أقوال في وفاتها.
أحدها: سنة خمسين في خلافة معاوية في رمضان.
ثانيها: سنة ست وثلاثين في خلافة علي، وضعفه النووي.
ثالثا: سنة اثنين وخمسين.
رابعها: سنة عشرين.
خامسها: سنة إحدى وعشرين ودفنت بالبقيع رضي الله عنها.
الثاني: الرجلان المبهمان في هذا الحديث لم أر من تعرض لبيانهما إلَاّ ابن العطار في شرحه، فإنه قال: قيل إنهما أسيد بن حضير، وعباد بشر صاحبا المصباحين.
الثالث: قولها: "ليقلبني" هو بفتح أوله أي يصرفني إلى منزلي، يقال: قلبه يقلبه، وانقلب إذا انصرف، قال -تعالى-:
{وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)} (1) وكان أبو هريرة يقول لمعلم الصبيان: اقلبهم أي اصرفهم إلى منازلهم.
الرابع: قوله: "على رسلكما" هو بفتح الراء وكسرها، فقيل هما بمعنى من التؤدة وترك العجلة أي اثبتا ولا تعجلا.
وقيل: بالكسر التؤدة، وبالفتح اللين والرفق والمعنى متقارب، وجزم الفاكهي بالكسر أي على هيئتكما حتى أخبركما ومنه الحديث (2):"إلَاّ من أعطى في نجدتها ورسلها".
قال الجوهري (3): يريد الشدة والرخاء. والرِسّلُ أيضاً: اللبن.
وأما الرَسَل -بفتح الراء والسين- فالقطيع من الإِبل والغنم.
الخامس: [وقولهما](4): "سبحان الله! " هو تنزيه لله ومعناه هنا استعظام الأمر وتهويله.
السادس: قوله عليه الصلاة والسلام: "يجري من ابن آدم مجرى الدم"، فيه قولان:
أحدها: أنه على ظاهره، وأن الله -تعالى- جعل له قوة وقدرة في الجري في باطن الإِنسان مجاري دمه.
والثاني: [أنه على الاستعارة لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإِنسان كما لا يفارقه دمه.
(1) سورة العنكبوت: آية 21.
(2)
سنن النسائي (5/ 12)، وانظر: لسان العرب (5/ 212)، مادة: رسل.
(3)
مختار الصحاح (107).
(4)
في الأصل (قوله صلى الله عليه وسلم)، والتصحيح من ن ب د.
السابع] (1): أم سلمة رضي الله عنها: تقدم الكلام على ترجمتها في باب الجنابة مستوفى فراجعه منه. وأسامة بن زيد يأتي التعريف به في باب دخول مكة.
الثامن: في الحديث دلالة على أحكام يحضرنا منها اثني عشر حكماً.
أحدها: جواز خروج المرأة ليلاً.
ثانيها: جواز زيارتها المعتكف.
ثالثها: جواز التحدث معه.
رابعها: جواز اشتغال المعتكف بالأمر يعرض له، سواء كان مندوباً أو مباحاً، وعند المالكية حكاية قولين فيما إذا قل الاشتغال بالعبادة وصلاة الجنازة وأداء الشهادة والحكم، فإن كثر فلا يفعله بالاتفاق، كما نقله الباجي منهم.
خامسها: تأنيس الزائر بالمشي معه، ويتأكد ذلك في المضيف عند خروجه لا سيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك كالليل.
سادسها: جواز خروج المعتكف من المسجد فيما لا [غاية به](2)، كذا استدل به بعضهم، وهو عجيب. فالرواية الثانية تثبت
(1) في ن ب ساقطة.
(2)
في المخطوط الكلمة (عتابه). قال ابن حجر في الفتح (4/ 280): واستدل به، لأبي يوسف ومحمد في جواز تمادي المعتكف إذا خرج من مكان اعتكافه لحاجته وأقام زمناً يسيراً زائداً عن الحاجة ما لم يستغرق أكثر اليوم. ودلالة فيه، لأنه لم يثبت أن منزل صفية كان بينه وبين =
الغاية في مشيه معها إلى باب المسجد فقط، وإن كان الخروج من المسجد للمعتكف للحاجة الشرعية جائز قطعاً.
قال الفاكهي: فعلى هذا يكون مرور الرجلين في المسجد دون الطريق.
قلت: لا يلزم ذلك. وقد ترجم البخاري على هذا الحديث بما قلناه فقال: "باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد"(1) ثم ذكره.
سابعها: التحرز مما يقع في الوهم من نسبة الإِنسان إليه مما لا ينبغي، وأن لا يؤئم الناس بسببه فإنه عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله، ومع هذا خشي على الرجلين وسوسة الشيطان، يقذف شيئاً في قلوبهما، فيكون مؤدياً إلى الكفر أو هو كفر.
وقد نقل الشيخ تقي الدين (2): عن بعض العلماء أن لو وقع ببالهما شيء لكفرا، ولكن أراد تعليم أمته، وهو كما قال إذا اعتقداه أو ظناه. قال -تعالى-:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} وإلَاّ لمجرد خطوره بالبال من غير استقرار، ففيه وقفة، لأنه أمر غير مقدور على دفعه، اللهم إلَاّ أن يخص ذلك بهذا الجناب الشريف.
= المسجد فاصل زائد، وقد حد بعضهم اليسير بنصف يوم وليس في الخبر ما يدل عليه. اهـ.
(1)
البخاري في الفتح (4/ 278).
(2)
إحكام الأحكام (3/ 452) بزيادة.
وما نقله الشيخ تقي الدين عن بعض العلماء أراد به الشافعي رضي الله عنه فإن سفيان بن عيينة. قال للشافعي: ما فقه هذا الحديث؟ فقال: إن كان القوم اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بتهمتهم إياه كفاراً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أدب من بعده من أمته فقال: إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا لئلا يظن بكم ظن السوء. فقال سفيان بن عيينة: جزاك الله خيراً ما يجيئنا منك إلَاّ ما نحب. هذا كلامه (1).
قال الشيخ تقي الدين: وهذ متأكد في حق العلماء. ومن يُقْتَدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب ظن السوء بهم، وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم، وقد قال العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم للمحكوم عليه إذا خفي، وذلك من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم.
قلت: أو من باب وجوب البيان وإزالة اللبس.
ثامنها: فيه أيضاً دلالة على هجوم خواطر الشيطان على النفس، وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه، لا يؤاخذ به لقوله -تعالى-:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2)، وقوله عليه الصلاة والسلام في الوسوسة التي يتعاظم الإِنسان أن يتكلم بها:
(1) انظر: مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 309، 310)، وأدب الشافعي لابن أبي حاتم (68، 70)، وحلية الأولياء (9/ 92)، وتوالي التأسيس لابن حجر (75).
(2)
سورة البقرة: آية 286.
"ذلك محض الإِيمان"(1)، وقد فسروه بأن التعاظم لذلك محض الإِيمان لا نفس الوسوسة.
قال الشيخ تقي الدين: وكيف ما كان ففيه دلالة على أن تلك الوسوسة لا يؤاخذ بها، نعم. في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها، وبين ما يقع شكّاً إشكال (2) انتهى.
(1) إشارة إلى ما أخرجه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة: "إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإِيمان". وفي رواية: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". ومثله من رواية ابن مسعود عند مسلم، وفيه:"ذلك محض الإِيمان".
(2)
قال الصنعاني -رحمنا الله وإياه- في حاشية إحكام الأحكام (3/ 454) قوله: "نعم في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها وبين ما يقع شكّاً: إشكال". لعله يقال الوسوسة مبادىء الشك، فإن دفعها العبد بما أرشده إليه صلى الله عليه وسلم في دفعها اندفعت وعذر عنها، فأخرج أبو داود وابن السني وابن المنذر عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يوشك الناس أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم: هذا الخلق خلق الله، فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك، فقولوا: "الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد"، ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم"، وأخرج أبو بكر ابن أبي داود في كتابه ذم الوسوسة عن معاوية بن أبي طلحة قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغمر قلبي من وساوس ذكرك، واطرد عني وساوس الشيطان" وإن ترك الاستعاذة وما ذكر من التلاوة، صار ذلك شكّاً وعوقب عليه، وبالجملة الوساوس تطرق القلب، فإن استرسل العبد معها قادته إلى الشك، وإن قطعها بالذكر والاستعاذة ذهبت عنه. اهـ.
وقد أخطأ من جعل الوسوسة نفسها دليلاً على خير الإِنسان والعناية به، وإنما الخير والعناية يقع بدفعها.
تاسعها: فيه أيضاً كمال شفقته بأمته عليه الصلاة والسلام من حيث إنه لما خشي عليهما شر الشيطان بادر إلى دفعه عنهما باليقين وقد وصفه الله -تعالى- في كتابه بكونه رحيما فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} (1)، وقال:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} .
عاشرها. فيه جواز التعجب: بسبحان الله! والتعجب بها [يقع](2) على أوجه:
أحدها: لتعظيم الأمر وتهويله كما سلف.
ثانيها: للحياء من ذكره.
ثالثها: كون المحل ليس قابلاً للأمر، ومن تتبع الأحاديث النبوية وجد ذلك.
الحادي عشر: فيه أيضاً الأمر بالتؤدة وترك العجلة في الأمور إذا لم تدع إليه الضرورة.
الثاني عشر: فيه أيضاً جواز خطاب الرجال الأجانب إذا كان مع المخاطب زوجة أو أحدٌ من محارمه خصوصاً إذا دعت إلى المخاطب حاجة شرعية من بيان حكم أو دفع شر ونحوهما. وإن كان ذلك لا يكون نقصاً للمروءة، ومن أحكامه أيضاً: الاستعداد للتحفظ من الشيطان ومكائده، فإنه يتمكن منه كما وصفه الشارع،
(1) سورة الأحزاب: آية 43.
(2)
زيادة من ن ب.
ومن كانت هذه حاله، فليس له خلاص منه إلَاّ بالالتجاء إلى المعبود حمانا الله منه بمنه وكرمه (1).
…
(1) في ن ب وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبا الله ونعم الوكيل في اليوم المبارك يوم الخميس الثالث عشر شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة وألف العبد الفقير إلى الله -تعالى-. ولمن رأى عيباً فسده وجميع المسلمين.
وفي ن ب آخره: نجز الجزء الثاني من شرح العمدة لشيخنا الإِمام العالم العلامة سراج الدين عمر بن الشيخ الإِمام العالم العلامة أبي الحسن علي الأنصاري الشافعي متعنا الله ببقائه على يد كاتبه ومالكه إبراهيم بن محمد بن علي الشهير بإمام الكاملية غفر الله له ولوالديه ولمن قرأ فيه ودعا له بالمغفرة وجميع المسلمين آمين آمين آمين، ونقلتها من أصل المصنف الذي بخطه ختم الله له بالصالحات وجميع المسلمين يتلوه بالثالث كتاب الحج إن شاء الله أعاننا الله على إكماله بمحمد (*) وآله وصحبه وسلم وذلك بتاريخ مساء يوم الأحد سادس شعبان المكرم سنة تسعين وسبعمائة للهجرة النبوية، لعبد الله أفندي حجازي زاده.
قالوا التحى قلت ذا منكم معارضه
…
بظاهر اللفظ والمعنى يناقضه
بل إنما الشهد لما حل في فم
…
دبت له النمل فاسودت عوارضه
وقد تم بحمد الله قراءة هذا الجزء والتعليق عليه عند أذان مغرب يوم الخميس 12/ 10/ 1414هـ، غفر الله لي ولوالدي ولمؤلفه وناسخه ولمن اطلع عليه ودعا بالمغفرة لنا وله ولجميع المسلمين.
....................................
(*) هذا توسل بدعي عفى الله عنا وعنهم فلينبه له.
انتهى الجزء الخامس ويليه الجزء السادس وأوله كتاب الحج ويتبعه بقية الأجزاء