المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثامن 185/ 8/ 35 - عن أبي هريرة رضي الله - الإعلام بفوائد عمدة الأحكام - جـ ٥

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الزكاة

- ‌33 - باب الزكاة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌34 - باب صدقة الفطر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب الصيام

- ‌35 - باب الصيام

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس والسادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌36 - باب الصوم في السفر [وغيره]

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌37 - باب فضل الصيام وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌38 - باب ليلة القدر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌39 - باب الاعتكاف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

الفصل: ‌ ‌الحديث الثامن 185/ 8/ 35 - عن أبي هريرة رضي الله

‌الحديث الثامن

185/ 8/ 35 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحنُ جُلوسٌ عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فقالَ: يا رسولَ اللهِ، هَلَكْتُ، قالَ:"مالك؟ " قالَ: وَقَعْتُ عَلَى اَمْرأَتِي، وَأَنا صائِمٌ -وفي رواية: أصَبْتُ أهْلِي في رَمَضانَ- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تجِدُ رَقَبةً تُعْتِقُها؟ " قال: لا، قال: فَهَلْ تَسْتَطيع أنْ تَصُومَ شهرَيْنِ مُتَتابِعيْنِ؟ قال: لا، قال:"فَهَلْ تَجِدُ إطْعامَ سِتِّينَ مسْكِيناً؟ " قال: لا، قال: فَمَكَثَ النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحنُ عَلَى ذلِكَ أُتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيه تَمْرٌ، وَالعَرَقُ: المِكْتَلُ- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيْنَ السَّائِلُ؟ " قال: أنا، قال:"خُذْ هذا، فَتَصَدَّقْ بِهِ"، فقال الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِني يا رسول اللهِ؟ فَوَاللهِ ما بَيْنَ لابَتَيْها -يُرِيدُ الحَرَّتين- أهْلَ بَيْتٍ أفْقَرُ مِنْ أهل بيْتِي، فَضَحكَ النبي صلى الله عليه وسلم، حَتّى بَدَتْ أَنْيابهُ، ثمَّ قال:"أطْعِمْهُ أهْلَكَ"(1).

(1) البخاري أطرافه في الفتح (1936)، ومسلم (1111)، وأبو داود (2392) في الصيام، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان، والنسائي في الكبرى (2/ 211)، والدارمي (2/ 11)، والترمذي (724)، والموطأ (1/ 296)، وأحمد (2/ 208)، والبيهقي (4/ 226)، وابن حبان =

ص: 208

قال المصنف: "الحَرَّة" أرْضٌ ترْكَبُها حِجارَةٌ سُودٌ.

الكلام عليه من خمسة وثلاثين وجهاً، وبعضهم أفرده بالتصنيف في مجلد ضخم (1):

الأول: قوله: "بينما" اعلم أن بينما تتلقى تارة "بإذ" وتارة "بإذا" اللتين للمفاجأة (2)، قال الشاعر:

فبينما العسر إذ دارت مياسير

وقوله:

بينما المرء في الأحياء مغتبط

إذا هو الرمس يعلوه الأعاصير

وأما بينا (3): فلا تتلقا بواحدة منهما، بل وجه الكلام أن يقال:

= (3523) بألفاظ مختلفة، وابن خزيمة (1949)، وعبد الرزاق (7457)، وابن الجارود (384)، والبغوي (1752)، والدارقطني (2/ 190).

(1)

هو الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، استخرج منه ألف مسألة ومسألة حكى ذلك عن نفسه.

(2)

قال أحمد شاكر في المسند (11/ 147): قوله: "بينما"، قال الحافظ في الفتح:"أصلها: بين" وقد ترد بغير "ما" فتشبع الفتحة، [يريد أنها تكون: بينا]، ومن خاصة "بينما" أنها تتلقى بإذ، وبإذا، حيث تجيء للمفاجاة، بخلاف "بينا" فلا تتلقى بواحدة منهما" وهذا الذي قاله الحافظ باطل، ترده الشواهد الصحيحة ، واللغة الفصيحة، وقد أطال صاحب اللسان (16/ 212، 213) في إيراد الشواهد على مجيء "إذ" و"إذا" بعد بينا. اهـ.

(3)

انظر التعليق السابق.

ص: 209

"بينا زيد قائم جاء عمرو" ونحو ذلك، لأن المعنى فيه بين أثناء الزمان "جاء عمرو" وقد جاءتا أعني "بينما" و"بينا" في هذا الحديث على هذه القاعدة قال:"فبينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل" فتلقى بينما بإذ، وقال: "فبينا نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: إذ أتي.

الثاني: هذا الرجل هو سلمة.

ويقال: سلمان بن صخر البياضي.

وسلمة: أصح وأشهر (1).

(1) وهكذا قواه ابن حجر في الإِصابة (3/ 117)، ويقال: اسمه سلمان وسلمة أصح. اهـ. وقد اختلفت الروايات في ذكر اسم هذا المبهم على أقوال: وكلها تدور على هذين الاسمين؛ ففي سنن أبي داود (2126) كتاب الظهار وهي رواية صريحة في تسمية المبهم "بسلمة بن صخر البياضي"، وقد ذكره في الإِبهام في كتاب الصيام، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان ح (2285)، أما في الترمذي فرواه مصرحاً باسمه في موضعين:

أحدهما: في باب: ما جاء في كفارة الظهار (1200) وسماه "سلمان بن صخر"، ثم قال: ويقال: "سلمان بن صخر"، ويقال:"سلمة بن صخر".

والثاني: في تفسير سورة المجادلة (3299) وسماه: "سلمة بن صخر"، ثم قال:"ويقال سلمة بن صخر، وسليمان بن صخر". أما في مصنف عبد الرزاق فأبهمه في (4/ 196) وصرح باسمه "سلمان بن صخر" في (6/ 431)، وفي سنن الدارقطني ساقه بالإِبهام (2/ 190)، وفي (3/ 3176) في روايات متعددة سماه "سلمة بن صخر"، وهي أيضاً كذلك في سنن ابن ماجه (2062)، وأيضاً في إِيضاح الإِشكال (104)، =

ص: 210

وقال أبو عمر (1): سلمان وهم وليس في الصحابة سلمان إلَّا سلمان الفارسي، وسلمان بن عامر الضبي، قال: وقيل: إن سلمة بن صخر، يقال له: سلمان.

قلت: وسلمة هذا هو المظاهر من امرأته أنه لا يطأها في رمضان حتى ينسلخ فواطئها فيه، ذكره عبد الغني بن سعيد الحافظ، والظاهر اختلاف الواقعتين إن كانتا لسلمة بن صخر، لأن في حديث الوقاع في الصحيح: إن ذلك كان نهاراً. وفي الظهار كان ليلاً في الترمذي (2) وغيره. وقد يجمع بينهما بأنه وطأ ليلاً إلى أن أصبح، لأنه كان امرأً يصيب من النساء ما لا يصيب غيره. فلما دخل رمضان خاف إن أصاب منها شيئاً يتابع به حتى الصباح، فظاهر منها حتى

= وفي غوامض الأسماء المبهمة سماه سلمة، وسلمان (1/ 211).

قال ابن حجر (4/ 164): لم أقف على تسميته إلَّا أن عبد الغني في المبهمات وتبعه ابن بشكوال جازماً بأنه سلمان أو سلمة بن صخر البياضي واستندا إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره -وقد سقت لك مواضع في كتب الحديث- والظاهر أنهما واقتعان فإن في قصة المجامع في حديث الباب أنه كان صائماً وفي قصة سلمة بن صخر أن ذلك كان ليلاً فافترقا، ولا يلزم من اجتماعهما في كونهما من بني بياضة. وفي صفة الكفارة وكونها مرتبة، وفي كون كل منهما لا يقدر على شيء من خصالها اتحاد القصتين، وسنذكر ما يؤيد المغايرة

إلخ. وقال في موضع آخر (4/ 162): على قوله: "إن رجلاً" قيل هو سلمة بن صخر البياضي ولا يصح في ذلك. اهـ.

(1)

التمهيد (21/ 11)، والاستذكار (10/ 115).

(2)

الترمذي (1200).

ص: 211

ينسلخ رمضان، فبينما هي تخدمه ذات ليلة إذ تكشف له منها شيء، فما لبث أن نزا عليها، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، الحديث بطوله خرجه أبو داود (1) وغيره.

الثالث: معنى: "هلكت" وقعت في الإِثم بفعل ما حرم عليَّ فعله في الصوم، وهو الجماع فيه. وفي رواية لمسلم من حديث عائشة (2) "احترقت" قال:"ولِمَ؟ ". قال: وطأت أهلي في رمضان نهاراً".

وفي رواية مرسلة في الموطأ (3)"جاء أعرابي يضرب فخذه وينتف شعره يقول: هلك الأبعد".

وفي رواية "هلكت وأهلكت"(4).

(1) أبو داود (1126) كتاب الطلاق، باب: في الظهار، والترمذي (1200) كتاب الطلاق، باب: ما جاء في كفارة الظهار، وابن ماجه (2062)، وانظر التعليق (1) ، (210).

(2)

مسلم (1112).

(3)

الموطأ (1/ 297)، والبيهقي (4/ 225). قال: وروي من وجه آخر عن سعيد بن المسيب، واختلف عليه في لفظ الحديث، والاعتماد على الأحاديث الموصولة.

(4)

قال الخطابي في معالم السنن (3/ 271): "هلكت وأهلكت"، هذه اللفظة غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، وإنما ذكروا قوله:"هلكلت" حسب، غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلّى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان، فذكر هذا الحرف فيه، وهو غير محفوظ، والمعلى ليس بذاك في الحفظ والإِتقان. اهـ. =

ص: 212

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقال ابن القيم في تهذيب السنن (3/ 268): "هلكت وأهلكت"، واستبعد المنذري وهم إنما هو الخطابي -رحمنا الله وإياهم- هذه اللفظة، ثم قال البيهقي: قوله: "أهلكت" ليس بمحفوظ. السنن الكبرى (4/ 227) -وضعفها شيخنا أبو عبد الله الحافظ، وحملها على أنها أدخلت على محمد بن المسيب الأرغياني، قال: فإن أبا علي الحافظ رواه عن محمد بن المسيب فلم يذكرها، والعباس بن الوليد رواه من عقبة بن علقمة دونها، ودحيم وغيرهم رووه عن الوليد بن مسلم دونها، وكافة أصحاب الأوزاعي رووه عنه دونها، ولم يذكرها أحد عن أصحاب الزهري عن الزهري، إلَّا ما روى عن أبي ثور، عن معلى بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: وكان أبو عبد الله أيضاً يستدل على كونها، في تلك الرواية خطأ بأنه نظر في كتاب الصوم تصنيف معلى بن منصور بخط مشهور، فوجد فيه هذا الحديث دون هذه اللفظة، وبأن كافة أصحاب سفيان رووه عنه دونها. اهـ.

أما ابن التركماني في كتابه الجوهر النقي (4/ 227) فيرى إثبات هذه اللفظة: مستدلاًّ على أن ابن خزيمة قد رواها بلفظ: "أهلكت"، نقلاً عن البيهقي في الخلافيات. اهـ. وانظر: العلل للدارقطني (10/ 232).

قال ابن حجر في الفتح (4/ 170): واستدل بعضهم بقوله في بعض طرق هذا الحديث: "هلكت وأهلكت"، وهي زيادة فيها مقال.

قال ابن الجوزي -رحمنا الله وإياه- في التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 85): فإن قالوا: قد قال أبو سليمان الخطابي: المعلى بن منصور ليس بذاك، قلنا: ما عرفنا أحداً طعن في المعلى، ثم قد روي لنا من طريق آخر وساقه بإسناده وفيه "فقال: هلكت وأهلكت" فذكر الحديث إلَّا أن سلامة فيه ضعف. اهـ. =

ص: 213

واستدل بها بعضهم: على مشاركة المرأة إياه في [الجناية](1) وهي زيادة قال فيها الدارقطني (2): تفرد بها أبو ثور، عن معلي بن منصور، عن ابن عيينة، وكلهم ثقات.

وأما البيهقي (3) فقال: هذه زيادة لا يرضاها أصحاب الحديث.

وضعفها الحاكم: وحملها على أنها أدخلت على محمد بن المسيب الأرغياني. فقد رواه جماعات بدونها.

الرابع: قوله: "وقعت على أهلي وأنا صائم" أي في رمضان، كما جاء في الرواية الثانية.

وقوله: "ما لك" جاء في الصحيح "ما أهلكك"، وفي رواية "ويحك"، وفي أخرى "ويلك"(4).

الخامس والسادس: فيه وجوب السؤال عن علم ما يفعله

= أقول: وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد: بحثت هذه اللفظة في سنن الدراقطني فلم أجده، وكتاب العلل له فوجدته بإسناده (10/ 237) ولكن بدون زيادة "وأهلكت" وذكرت هذين الكتابين لأنه ساقه من رواية الدارقطني.

(1)

ما أثبت من ن د (الجناية)، والمعالم للخطابي (3/ 371)، أما في الأصل ون ب والفتح الرباني (10/ 97)(الجنابة).

(2)

انظر: العلل (10/ 232).

(3)

السنن الكبرى (4/ 227).

(4)

قال البخاري في صحيحه (10/ 552) باب: ما جاء في قول الرجل: ويلك.

ص: 214

الإنسان مخالفاً للشريعة، والخوف من سوء عاقبته.

السابع: فيه جواز إظهار المعصية لمن يرجو منه تخليصه من إثمها وعاقبتها.

الثامن: فيه عدم تعزيره عليه مع وجوب الكفارة عليها إذا فعلها جاهلاً، وكانت لا حد فيها خصوصاً إذا جاء مستفتياً، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية، لكنه باعترافه بها يقتضي أن يكون فعله إياها كان وهو عالم بأنها معصية، لا جاهل. فإن مجيئه مستفتياً معترفاً بالهلاك يقتضي العلم: والندم، والتوبة، والتعزير استصلاح، ولا استصلاح مع الصلاح. فإنا لو عزرنا كل من جاء يستفتي عن مخالفة أدى ذلك إلى ترك الاستفتاء من الناس عند وقوعهم في المخالفات والخروج منها. وذلك مفسدة عظيمة، يجب دفعها، كيف والمفتي في زمننا لم يكن إليه إقامة التعزيرات، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان هو الحاكم والإِمام والمفتي والمشرع، ولم يقم عليه التعزير بقول ولا فعل (1).

لكن نقل البغوي في "شرح السنة"(2): في باب: كفارة الجماع في نهار رمضان: إجماع الأمة على أن من جامع متعمداً في نهار رمضان يفسد صومه وعليه القضاء، ويعزر على سوء صنيعه، قال: والحديث يدل على أن من ارتكب ما يوجب تعزيراً يجوز تركه للإِمام، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بتعزير الأعرابي.

(1) ساقه من إحكام الأحكام بتصرف (3/ 345).

(2)

شرح السنَّة (6/ 284).

ص: 215

وجزم ابن يونس (1) في "شرح التعجيز": بأنه يعزر أيضاً.

ونقل ابن العطار (2) في "شرحه": عن بعض أصحابنا أن من جامع امرأته حائضاً وقلنا يُكفر عُزّر بلا خلاف.

قال: وذكر بعض أصحابنا فيما يجب التعزير فيه مع وجوب الكفارة في المجامع في رمضان وفي الظهار والقتل وجهان:

أحدهما: لا يجب لما ذكرنا.

وأرجحهما: عندهم الوجوب.

قالوا: لأن الكفارة إنما وجبت لانتهاك حرمة الوقت ولقول الزور، وفوات الروح، والتعزير يجب لحق الله -تعالى- في الزجر والمخالفة.

وأجرى اللخمي من المالكية: الخلاف في إيجاب العقوبة

(1) هو أحمد بن موسي بن يونس، الإِمام شرف الدين أبو الفضل ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وتوفي في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وستمائة، البداية والنهاية (13/ 111)، وطبقات ابن قاضي شهبة (2/ 72)، والأعلام (1/ 246)، وقد طبع جزء من الكتاب "كتاب الطهارة".

(2)

هو علي بن إبراهيم بن داود بن سلمان أبو الحسن بن العطار ولد يوم عيد الفطر سنة أربع وخمسين وستمائة، وتوفي بدمشق في ذي الحجة، سنة أربع وعشرين وسبعمائة. انظر: الدرر الكامنة (3/ 5)، والنجوم الزاهرة (9/ 261)، وهدية العارفين (1/ 717)، ومعجم المؤلفين (7/ 5)، وطبقات الشافعية للسبكي (6/ 143).

ص: 216

على المجامع على الخلاف في شاهد الزور يجيء ثانياً، وفي عقوبته قولان، وقد يفرق بينهما بأن شاهد الزور أعظم جناية لتعلق حق الغير بها، بخلاف جناية المجامع، فإنه قد لا يتعلق، كما إذا كان الغير مفطراً أو معذوراً.

التاسع: فيه استعمال الكنايات فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه: كالمواقعة والإِصابة ونحوهما عن النكاح ونحوه.

العاشر (1): فيه وجوب الكفارة بإفطار المجامع عامداً، وهو مذهب جميع العلماء، سوى من شذ منهم، وقال: لا تجب وهو محكي عن الشعبي وآخرين، وقاسوه على الصلاة؛ فإنه لا كفارة بإفسادها. وهذا قياس مع وجود النص، والفرق لائح، فإنه لا مدخل للمال في جبرانها، بخلاف الصوم بدليل الشيخ الهِمُّ وغيره.

واحتج له أيضاً: بأنها لو وجبت لما سقطت بالإِعسار، وهو عجيب، فإن السقوط بالإِعسار، يقتضي تقدم وجوب، حتى يقتضي السقوط، وإلَاّ لما صح السقوط الذي هو بمعنى الخروج، كيف والأصل والقياس الوجوب، والمسبب لا يبطل السبب. فإن الإِعسار مسبب، والوطء في رمضان سبب، والوجوب إنما يسقط للاستحالة أو للمثسقة، ولا استحالة ولا مشقة، فإن المطالبة بالكفارة إنما تكون عند القدرة، ومع الإِعسار لا قدرة فحينئذ لا يرفع الإِعسار الوجوب من غير معارض سائغ.

(1) هذه المسألة ساقها من إحكام الأحكام (3/ 345، 348) بتصرف.

ص: 217

فإن قيل: يرفع بمقارنة الإِعسار لأنها [لو](1) لم [ترد](2). ولا أعلم الشارع ببقائها في الذمة، فإنها لو بقيت لأُعلم به، كيف والبيان واجب عليه.

فالجواب: أن الحديث دل على استقرار الكفارة بدليل إخبار السائل بالعجز عن العتق والصيام والإِطعام. ومجيء العرق وإعطاؤه إياه، ليخرجه كفارة، فلو لم تجب لما أمره بإِخراجها، ولو سقطت بالعجز لم يكن عليه شيء، فدل على ثبوتها في ذمته، وإذنه له بإطعام عياله للاضطرار، وإزالته يجب على الفور. والكفارة لا تجب على الفور، بل على التراخي، كما جزم به النووي في شرح مسلم (3)، خصوصاً في هذا الحال، وهي صدقة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"(4) فلم يكن له أن يتصدق على غيره (5)، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين.

واعلم: أنه وقع في "شرح هذا الكتاب لابن العطار" لما

(1) زيادة من ن ب د.

(2)

في ن ب د (يود).

(3)

شرح مسلم (7/ 225).

(4)

البخاري (5355، 1426، 5356)، والنسائي (5/ 69)، وأحمد (2/ 476، 524)، وابن حبان (3363)، والبيهقي (4/ 180، 470)(7/ 466، 470)، والدارقطني (3/ 297)، وابن أبي شيبة (3/ 212).

(5)

أي لحاجته حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ولم يكن محتاجاً إليها.

ص: 218

حكى القول الشاذ: أنه لا كفارة. قال: إنه قول ضعيف للشافعي وهو غريب لا نعرفه للشافعي إلَّا في حالة العجز عن جميع الخصال.

الحادي عشر (1): لو جامع ناسياً هل يفطر وتجب عليه الكفارة أم لا يجبان أو يجب القضاء دونها؟ فيه ثلاثة مذاهب، أسلفناها في الحديث قبله.

والصحيح عندنا (2): أنهما لا تجبان كما سلف، ومشهور مذهب مالك (3): أنه لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه.

وذهب أحمد وبعض الظاهرية والمالكية (4): على إيجابها عليه.

وروي ذلك (5) عن عطاء ومالك.

واحتج من قال بالوجوب: بأنه حكم ورد على جواب سؤال من غير استفصال عن عمد أو نسيان، فنُزّل منزلة العموم، لأن الحكم من الشارع إذا ورد عقب ذكر واقعة محتملة لأحوال مختلفة الحكم، كان حمله على العموم أولى حملاً على الفوائد المتكثرة.

(1) انظر: إحكام الأحكام (3/ 348) فإنه ساقها بمعناه بتصرف.

(2)

انظر: الأم (2/ 99)، والاستذكار (10/ 111).

(3)

الاستذكار (10/ 111).

(4)

وحجتهم إن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق بين الناسي والعامد. وقال أحمد: وظاهر قول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: "وقعت على امرأتي" النسيان والجهالة، فلم يسأله أنسيت أم تعمدت، وأفتاه على ظاهر الفعل. اهـ، من الاستذكار (10/ 111).

(5)

انظر: المرجع السابق.

ص: 219

والجواب: عن ذلك بأن حالة النسيان في حق هذا السائل بعيدة جدّاً بالنسبة إلى الجماع، ومحاولة مقدماته، وطول زمانه، وعدم اعتياده في كل وقت، فلم يحتج إلى الاستفصال بناء على الظاهر، كيف وقد قال:"هلكت" فإنه يشعر بتعمده ظاهراً ومعرفته بالتحريم.

الثاني عشر: فيه جريان وجوب العتق ثم الصوم ثم الإِطعام مرتباً لا مخيراً. وهو قول جميع العلماء، خلافاً لما في المدونة؛ فإن فيها [لا يعرف مالك](1) غير الطعام، لا يأخذ مالك بالعتق ولا بالصيام.

قال الشيخ تقي الدين: وعدم جريان العتق والصوم في ذلك -معضلة ربَّاء ذاتُ وَبَر. لا يُهتدي إلى توجيهها، مع مصادمتها الحديث، [غير](2) أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ، وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال. وذكروا وجوهاً في ترجيح الطعام على غيره.

منها: أن الله -تعالى- ذكره في القرآن رخصة للقادر، يعني في قوله -تعالى-:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ونسخُ هذا الحكم لا يلزم منه نسخ الفضيلة بالذكر والتعيين للإِطعام، لاختيار الله -تعالى- له في حق المفطر للعذر، كالكبر والحمل والإِرضاع.

(1) زيادة من ن ب د وإحكام الأحكام (3/ 349).

(2)

زيادة من ن ب د وإحكام الأحكام (3/ 349).

ص: 220

ومنها: جريان حكمه في حق من [أخره](1) قضاء رمضان، حتى دخل رمضان ثان (2).

ومنها: مناسبة إيجاب الإِطعام لجبر فوات الصوم، الذي هو إمساك عن الطعام والشراب.

ومنها: شمول نفعه في المساكين.

وهذه الوجوه لا تقاوم ما دل عليه الحديث من البدأة بالعتق، ثم بالصوم، ثم بالإِطعام، فإن هذه البدأة إن لم تقتضِ وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه، وقد وافق بعض أصحاب مالك على استحباب الترتيب على ما جاء في الحديث، وبعضهم قال: إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات ففي وقت الشدائد يكون بالإِطعام [وبعضهم فرق بين الإِفطار بالجماع، والإِفطار بغيره فجعل الإِفطار](3) بغيره يكفر بالإِطعام لا غير، وهذا أقرب في مخالفة

(1) زيادة من ن ب د.

(2)

قال الصنعاني في الحاشية (3/ 350): قوله: "حتى دخل رمضان ثان"، أقول: وذلك لما أخرجه الدارقطني من طريق عمران بن موسي بن وجيه -وهو ضعيف جدّاً- عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ: "من لم يقض رمضان حتى دخل رمضان آخر صام الذي أدركه، ثم يقضي ما عليه، ثم يطعم عن كل يوم مسكيناً" وفيه راو آخر ضعيف، إلَّا أنه راوه من طريق أخرى موقوفاً وصححه. انظر: سنن الدارقطني (2/ 197).

وصح عن ابن عباس وابن عمر من قولهما في الجمع بن الفدية والقضاء خلاف، فابن عمر يقول: إنه لا يقضي، بناء على أن الكفارة بدل عن القضاء، وقيل: إنه يقضي ويكفر للتراخي. اهـ.

(3)

في ن ب د ساقطة.

ص: 221

النص من الأول.

قلت: والحديث رواه مالك في "موطئه"(1) من طريقين:

الأول: من حديث أبي هريرة أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً. فقال: لا أجد. ثم ذكر باقي الحديث، فهذه حجة عليه، حيث لا يعرف غير الإِطعام. قال ابن حبان (2) في صحيحه بعد

(1) الموطأ (1/ 296)، ورواه عنه أحمد (2/ 273)، ومسلم (1111)، والطحاوي (2/ 60). والسبب أن مالكاً يختار الإِطعام، لأنه يشبه البدل من الصيام، ألا ترى أن الحامل والمرضع والشيخ الكبير والمفرط في رمضان حتى يدخل عليه رمضان آخر لا يؤمر واحد منهم بعتق ولا صيام مع القضاء، وإنما يؤمر بالإِطعام، فالإِطعام له مدخل من الصيام ونظائر من الأصول.

قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 95): لم يختلف رواة "الموطأ" عن مالك في حديث ابن شهاب في هذا الباب أنه رواه بلفظ التخيير في العتق، والصوم، والإِطعام ولم يذكر الفطر بأي شيء كان، بجماع أو بأكل. وقال أيضاً (10/ 96): وذهب مالك في الموطأ، إلى أن المفطر في رمضان بأكل أو شرب، أو جماع أن عليه الكفارة المذكورة في هذا الحديث على ظاهره، لأنه ليس في روايته فطر مخصوص بشيء دون شيء، فكل ما وقع عليه اسم فطرٍ متعمداً فالكفارة لازمة لفاعله على ظاهر الحديث. وقال: والصحيح عن مالك ما في الموطأ أي عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً.

(2)

ابن حبان (8/ 292). قال المحقق: وكذلك رواه بلفظ التخيير فليح بن سلمان، وعمرو بن عثمان المخزومي، ورواه جماعة من أصحاب الزهري =

ص: 222

أن أخرج الحديث من هذا الوجه: لم يقل أحد في هذا الخبر عن الزهري "أو صوم شهرين أو إطعام ستين مسكيناً" إلَّا مالك وابن جريح.

الطريق الثاني (1): من حديث عطاء بن عبد الله الخراساني عن

= على ترتيب كفارة الظهار: "هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ " قال: لا، قال:"هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا، قال:"فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ " قال: لا. الحديث، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد في طائفة، فقالوا: لا ينتقل عن العتق إلَّا عند العجز عنه، ولا عن الصوم كذلك، وقال مالك وجماعة: هي على التخيير فظاهر حديث الباب، وقد رجح الجمهور رواية الترتيب لأنه رواها عن الزهري تمام ثلاثين نفساً أو أزيد، كما قال الحافظ، ولأن راويها حكى لفظ القصة على وجهها، فمعه زيادة علم في صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث، فدل على أنه من تصرف بعض الرواة إما لقصد الاختصار، أو لغير ذلك.

وذكر الإِمام الطحاوي أن سبب إتيان بعض الرواة بالتخيير أن الزهري راوي الحديث قال في آخر حديثه: فصارت الكفارة إلى عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو الإِطعام، قال: فرواه بعضهم مختصراً، مقصراً على ما ذكر الزهري أنه آل إليه الأمر، قال: وقد قص عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري القصة على وجهها، ثم ساقه من طريقه إلى قول "أطعمه أهلك" قال: فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، قال الحافظ في الفتح (4/ 168)، وكذلك رواه الدارقطني في العلل. اهـ، من العلل (10/ 223)، وانظر: الاستذكار (10/ 95، 100).

(1)

الموطأ (1/ 297)، ومسند أحمد (11/ 146). قال أحمد شاكر: هو =

ص: 223

سعيد بن المسيب مرسلاً، وفيه ذكر العتق "ثم أهد بدنة". وسيأتي الكلام على هذه الرواية" نعم .........................

= بإسنادين: أحدهما مرسل ضعيف، والآخر متصل صحيح. قال ابن حجر في الفتح (4/ 167): وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة عند تعذر الرقبة، وربما أيده بعضهم بإلحاق إفساد الصيام بإفساد الحج، وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك "في الموطأ" عن عطاء الخرساني عنه، وهو مع إرساله قد رده سعيد بن المسيب وكذب من نقله عنه، كما روى سعيد بن منصور عن ابن علية عن خالد الحذاء عن القاسم بن عاصم "قلت لسعيد بن المسيب: ما حديث حدثناه عطاء الخرساني عنك في الذي وقع على امرأته في رمضان أنه يعتق رقبة أو يهدي بدنة؟ فقال: كذب" فذكر الحديث، وهكذا رواه الليث عن عمرو بن الحارث عن أيوب، عن القاسم بن عاصم، وتابعه همام، عن قتادة، عن سعيد، وذكر ابن عبد البر: أن عطاء لم ينفرد بذلك فقد ورد من طريق مجاهد عن أبي هريرة موصولاً ثم ساقه بإسناده لكنه من رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وليث ضعيف وقد اضطرب في روايته سنداً ومتناً فلا حجة فيه. اهـ.

وقال أيضاً: الموطأ (1/ 297): هكذا هذا الحديث عند جماعة رواة الموطأ مرسلاً، وهو متصل بمعناه من وجوه صحاح إلَّا قوله "أن تهدي بدنه" تفسير محفوظ.

أقول وبالله التوفيق: قد تابع عطاء داود عن سعيد بن المسيب كما في العلل للدارقطني (10/ 245) وساقه أيضاً مسنداً من حديث أبي هريرة (10/ 247).

أما رواية عمر بن شعيب عن أبيه عن جده فقد سألت عنها الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: شاذة.

ص: 224

[قد](1) يستدل له برواية الصحيحين من حديث عائشة (2): أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "تصدق" فتصدق ولم يذكر فيه غير ذلك، ويجاب بأنها رواية مختصرة.

أما ترتيب هذه الخصال والتخيير فيها فقد اختلف فيه مالك والشافعي.

فقال مالك في المشهور من (3) مذهبه: هي على التخيير.

وقال الشافعي (4)، هي على الترتيب، وبه قال أصحاب مالك: واستدل على الترتيب في الوجوب بالترتيب في السؤال، وقوله أولاً:"هل تجد رقبة تعتقها؟ " ثم رتب الصوم بعد العتق ثم الإِطعام بعده

(1) زيادة من ن ب د.

(2)

مسلم (1112)، والبخاري (1935)(6822) تعليقاً، وأبو داود (2394) في الصوم، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان، والنسائي في الكبرى (2/ 210)، والبخاري في التاريح الصغير (1/ 289)، وابن خزيمة (1946)، وأحمد (6/ 276)، وابن حبان (3528)، والبيهقي (4/ 223، 224)، والدارمي (2/ 11)، والطحاوي (2/ 59، 60). انظر: فتح الباري (4/ 162).

قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (6/ 267): وقد روت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة ذكرت في حديثها أن فطره كان بوطئه امرأته في رمضان نهاراً، ثم إن بعض الرواة حفظ فيها التصدق فقط، وبعضهم حفظ العتق، ثم إطعام ستين مسكيناً، ولم يحفظ الصيام، وقد حفظ في حديث أبي هريرة فهو أولى. اهـ.

(3)

انظر: الاستذكار (10/ 95).

(4)

انظر: الاستذكار (10/ 98)، ومعرفة السنن (6/ 266).

ص: 225

[وعطف الجمل بالفاء المرتبة المعقبة](1).

ونازع القاضي عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال على ذلك، وقال: مثل هذا قد يستعمل في التخيير (2) أي كما في حديث كعب بن عجرة. وقوله عليه الصلاة والسلام له: "أتجد شاة؟ قال: لا. قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين"(3)، ولا ترتيب بين الشاة والصوم والإِطعام، والتخيير في الفدية ثابت بنص القرآن قال: فيدل في الأولوية مع التخيير وهو غير مسلم. فإن ذكر هذه الأشياء الثلاث مرتبة في معرض البيان والسؤال بمنزلة الشرط للحكم، ومقتضى ذلك الترتيب لا التخيير. ورواية مسلم (4):"أنه عليه الصلاة والسلام أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً""فأو" هنا [للتقسيم](5) لا للتخيير، تقديره يعتق أو يصوم إن عجز عن العتق أو يطعم إن عجز عنهما، ويبينه باقي الروايات ودعوى القرطبي

(1) زيادة من ن ب د.

(2)

انظر: فتح الباري (4/ 167)، وتقريره على هذه المسألة.

(3)

البخاري أطرافه (1814)، ومسلم (1201)، وابن ماجه (3089)، والطيالسي (1062)، والبيهقي (5/ 55)، والترمذي (2973)، وابن حبان (3985)، والطبري في التفسير (3338) وما بعده، وأحمد (4/ 242، 243).

(4)

مسلم (1112)(84). انظر كلام ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 272).

(5)

في ن ب د (للتفسير).

ص: 226

أن هذه قضية أخرى بعيدة ثم [حمله](1)"أو" على التخيير: ليس يجيد لما قدمناه.

الثالث عشر: قوله: "هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا" في أبي داود (2) في قصة سلمة البياضي أنه قال: "والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها. وضرب صفحة عنقه" يستدل به على جواز إعتاق الرقبة الكافرة، في الكفارة، وهو قول أبي حنيفة وغيره.

وقال الشافعي: لا يجوز إلَّا رقبة مؤمنة، حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل. وأبو حنيفة: يحمل المقيد على المطلق، وهذا مبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم، هل يقيد المطلق أم لا؟ وإذا قيد، فهل هو بالقياس أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه.

قال الشيخ تقي الدين: والأقرب أنه إن قيد فبالقياس (3).

قلت: ويقوي مذهب الشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث السوداء: "أعتقها فإنها مؤمنة"(4).

(1) في ن ب د ساقطة.

(2)

أبو داود (2126) في الطلاق، باب: في الظهار.

(3)

حاشية الصنعاني (3/ 353)، وفتح الباري (4/ 165). وقوله:"فبالقياس"، أي على اشتراط الإِيمان كما في كفارة القتل.

(4)

من حديث الشريد بن سويد، أحمد (4/ 222، 388)، والنسائي (6/ 252)، والبيهقي (7/ 388، 389)، والطبراني (7257)، وإسناده حسن وهو غير حديث معاوية بن الحكم، فإنه أخرجه مسلم (537) وغيره.

ص: 227

فائدة: شرط الرقبة [أيضاً](1) أن تكون سليمة من العيوب، خلافاً لداود، وضابط العيب في الكفارة ما أضر بالعمل إضراراً بيناً وبيان ذلك محله كتب الفروع.

الرابع عشر: فيه أيضاً دلالة على أنه لا يجب في الجماع على الرجل والمرأة إلَّا كفارة واحدة، إذ لم يذكر له ما على المرأة وهو الأصح عند الشافعي (2) ومذهب داود وأهل الظاهر.

وذهب مالك (3) وأبو ثور وأصحاب الرأي (4) وأحمد في أصح الروايتين والشافعي في أحد قوليه: إلى وجوبها على المرأة إن طاوعته.

(1) زيادة من ن ب.

(2)

قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 109): قال الشافعي: الصيام والعتق والإِطعام سواء، ليس عليهما إلَاّ كفارة واحدة، وسواء طاوعته أو أكرهها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يسأله طاوعته امرأته أو أكرهها، ولو كان الحكم مختلفاً لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تبيين ذلك. وهو قول داود وأهل الظاهر. اهـ.

(3)

انظر: الاستذكار (10/ 108)، وقال: إذا طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة. إذا أكرهها فعليه كفارتان عنه وعنها، وكذلك إذا وطىء أمته كفر كفارتين. اهـ.

(4)

قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 110): قال أبو حنيفة وأصحابه: إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة ولا شيء عليها ومن حجة من رأى الكفارة لازمة عليها إن طاوعته القياس على قضاه ذلك اليوم، فوجب عليها قضاء ذلك اليوم وجبت عليها الكفارة. اهـ.

ص: 228

ويتأولون هذا الحديث: على أن المرأة لعلها كانت مكرهة أو ناسية لصومها أو ممن يباح لها الفطر ذلك اليوم لعذر السفر أو المرض أو الطهر عن الحيض.

وسوّى الأوزاعي (1): بين المكرهة والطائعة على مذهبه.

وقال مالك في مشهور مذهبه في المكرهة: إنّ مكرهها يكفَّر عنها بغير الصوم، لأنه هتك صومين بالنسبة إليها وإليه [فكأنه](2) هتك يومين.

وقال سحنون: لا شيء عليه لها ولا عليها. وبهذا قال أبو ثور، وابن المنذر.

وقال الفاكهي: ولم يختلف مذهب مالك في قضاء المكرهة والنائمة، إلَّا ما ذكر ابن القصار عن القاضي إسماعيل عن مالك أنه لا غسل على الموطوءة نائمة، ولا مكرهة، ولا شيء عليها [إلَّا](3) إن تلتذ.

قال ابن القصار: فتبين من هذا أنها غير مفطرة، فظاهره أنه لا قضاء على المكرهة إلَاّ أن تلتذ، ولا على النائمة لأنها كالمحتلمة، وهو قول أبي ثور في النائمة والمكرهة.

(1) قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 109): وقال الأوزاعي: سواء طاوعته امرأته أو أكرهها فليس عليه إلَّا كفارة واحدة إن كفَّر بالعتق أو الإِطعام، فإن كفَّر بالصيام فعلى كل واحد منهما صيام شهرين متتابعين. اهـ.

(2)

زيادة من ن ب د.

(3)

زيادة من د ب.

ص: 229

واختلف في وجوب الكفارة على [المكرهة](1) على الوطءِ لغيره على هذا.

وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم المكرَه كفارة عن نفسِهِ ولا من أكره.

الخامس عشر: قوله عليه الصلاة والسلام: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين" معنى: تستطيع تقدر وتطيق وتقوى. يقال: استطاع يستطيع، واستتاع يستتيع، واسطاع [يسطيع](2). وقد ضمنوا حروف المضارعة من هذا الأخير، وإن كان زائداً على أربعة أحرف، ومثله: إهراق يهريق.

واعتذر عنهما سيبويه: بأن السين في استطاع والهاء في إهراق زائدتان للعوض.

واعترض عنهما: بأنه لم يحذف منهما شيء فيحتاجا إلى عوض.

وأجاب السيرافي: عن ذلك بأن قال: العوض إنما هو من نقل الحركة، إذ الأصل في اسطاع أطوع، وفي إهراق أروق. فلما نقلت فتحة الواو إلى ما قبلها في الموضعين قلبت ألفاً لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن فكانت الزيادة عوضاً من ذلك (3).

(1) في ن د (المكره).

(2)

في ن ب د (يستطيع).

(3)

انظر: التفصيل في هذه المسألة مبسوطاً في فتح الباري (4/ 169، 170)، والفتح الرباني (10/ 96)، وحاشية الصنعاني (3/ 361).

ص: 230

السادس عشر: التتابع التوالي وهو حجة للجمهور على ابن أبي ليلى إذ لم يشترطه (1).

السابع عشر: فيه الانتقال من الصوم إلى الإِطعام عند عدم استطاعته وفي بعض الروايات في قصة سلمة في الظهار "وهل أصبت الذي أصبت إلَّا من الصيام" ومقتضاها عدم استطاعته لشدة الشبق، وعدم الصبر في الصوم عن الوقاع، فنشأ لأصحابنا رحمهم الله في أن هذا هل يكون عذراً مرخصاً في الانتقال إلى الإِطعام في حق من هو كذلك -أعني شديد الشبق- فقال به بعضهم (2): كذا قال الشيخ تقي الدين؟

قلت: بل هو الأصح عندهم.

(1) قال في الفتح الرباني (10/ 98): وفي أحاديث الباب دلالة على اشتراط التتابع في صيام كفارة رمضان، وإليه ذهب كافة العلماء إلَّا ابن أبي ليلى فقد ذهب إلى جواز تفريقه مستدلاًّ بحديث أبي هريرة الثاني من أحاديث الباب لأنه لم يذكر فيه تتابعاً، وحجة الجمهور حديث أبي هريرة الأول من أحاديث الباب، وهو مقيد بالتتابع فيحمل المطلق عليه، واشترط الجمهور أن لا يكون في الشهرين شهر رمضان، وأن لا يكون فيهما أيام منهي عن صومهما كيومي الفطر والأضحى وأيام التشريق.

(2)

قال الصنعاني في الحاشية مع إحكام الأحكام (3/ 354): على قوله: "وقال بذلك بعضهم"، قال النووي في المنهاج: والأصح أن العدول عن الصوم إلى الإِطعام لشدة العلة وهي الحاجة إلى النكاح، لأن حرارة الصوم، مع شدة العلة قد تقضيان به إلى الوقاع ولو في واحدة من الشهرين وذلك حرج، والقول الثاني لا، لأنه قادر فلم يجز له العدول عنه كصيام رمضان. اهـ. وانظر: فتح الباري (4/ 166).

ص: 231

الثامن عشر: قوله عليه الصلاة والسلام: "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً" هو صريح في الدلالة على استيعاب هذا العدد، وبه قال عامة الفقهاء (1)، خلافاً لما روي عن الحسن: أنه يطعم أربعين مسكيناً عشرين صاعاً. وصريح أيضاً في الرد على من قال: يطعم عشرين مسكيناً ثلاثة أيام. وصريح أيضاً في الرد على أبي حنيفة حيث جوز إطعام ذلك لمسكين واحد، كما نقله القرطبي عنه حجة الجمهور من وجهين.

أحدهما: أنه أضاف "الإِطعام" الذي هو مصدر "أطعم" إلى ستين، ولا يكون ذلك موجوداً في حق من أطعم عشرين مسكيناً ثلاثة أيام.

الثاني: أن القول بإجزاء ذلك عمل بعلة مستنبطة تعود على ظاهر النص بالبطلان. وقد علم ما في ذلك في الأصول (2).

التاسع عشر: جمهور المشترطين ستين. قالوا: لكل مسكين مد، وهو ربع صاع. وقال أبو حنيفة (3) والثوري: لكل مسكين نصف صاع.

العشرون: قوله: "فمكث" هو بفتح الكاف وضمها، كما تقدم واضحاً في الحديث الثامن من باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال للأعرابي:"اجلس" وسببه انتظار الوحي فيه، أو ليجتهد في خلاصه مما وقع فيه.

(1) انظر: الاستذكار (10/ 105).

(2)

انظر: الحاشية (3/ 355)، والفتح (4/ 166).

(3)

انظر: الاستذكار (10/ 105).

ص: 232

الحادي والعشرون: "العَرَق" بفتح العين والراء على المشهور في الرواية واللغة، وحكاه القاضي عياض (1) عن الجمهور.

وروي بإسكان الراء والصواب: الأول.

فإن العَرْق (2): بإسكان الراء العظم الذي [فيه](3) اللحم والفَرَق: -بتحريك الفاء وتحريك الراء وإسكانها- ستة عشر رطلاً.

وقد فسر العرق: بالمكتل بكسر الميم وفتح المثناة فوق وهو من الخوص، وفُسَّر مرة أخرى: بأنه المكتل الضخم.

ويقال: للعرق: أيضاً الزبيل بفتح الزاي من غير نون كالرغيف والزنبيل بكسر الزاي وزيادة نون كالقنديل، كذا في "شرح مسلم"(4) للنووي.

وقال القرطبي: هو الزنبيل بكسر الزاي على رواية الطبري وبفتح الزاي لغيره، وهما صحيحان، وسمي بذلك لأنه تحمل فيه الزبل، ذكره ابن دريد (5).

وسمي عرقاً: لأنه جمع عَرَقَةَ وهي الضفيرة من الخوص ومن سماه عرق فلأنه منها.

(1) انظر: مشارق الأنوار (2/ 76).

(2)

انظر: مشارق الأنوار (2/ 76).

(3)

في ن ب د (عليه).

(4)

انظر: شرح مسلم (7/ 225).

(5)

انظر: شرح مسلم (7/ 225).

ص: 233

ويجمع أيضاً: على عرقات.

ومن أسمائه أيضاً: القفة، -والسفيفه- بفتح السين المهملة وبالفائين. والعَرَق: عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعاً، وذلك ستون مدًّا لكل مسكين مد، لأن الصاع أربعة أمداد، وإذا ضربناها في خمسة عشر [كانت ستين وجاء في رواية لأبي داود "فأُتي بعرق فيه عشرون] (1) صاعاً" قال البيهقي وروايته الأخرى:"أنه أُتي بعرق فيه تمر قدر خمسة [عشر] (2) صاعاً" أصح وفي رواية لمسلم "فجاء، عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق به"، ويجاب عنها بأن العرق قد يُصغر وقد يكبّر، وبذلك يجمع بين الروايات (3).

(1) في ن ب ساقطة.

(2)

زيادة من ن ب د.

(3)

قال الحافظ في الفتح (4/ 169): لم يعين في هذه الرواية مقدار المكتل من التمر بل ولا في شيء من طريق الصحيحين في حديث أبي هريرة -ثم ساق الروايات- ثم قال: ويجمع بين الروايات، فمن قال إنه كان عشرين أراد أجل ما كان فيه، ومن قال خمسة عشراً أراد قدر ما تقع به الكفارة، ويبين ذلك حديث علي عند الدارقطني:"تطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مد" وفيه: "فأتي بخمسة عشر صاعاً فقال: أطعمه ستين مسكيناً" -وقال قبله بأسطر- ووقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم: "فجاءه عرقان فيهما طعام". اهـ. والمشهور في غيرها عرق ورجحه البيهقي، وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة، وهو جمع لا نرضاه لاتحاد مخرج الحديث والأصل عدم التعدد، والذي يظهر أن التمر كان قدر عرق، لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل =

ص: 234

الثاني والعشرون: "اللابتان" الحرتان. والمدينة بين [الحرتين](1): شرقية وغربية.

قال ابن حبيب: ولها حرتان آخرتان: حرة بالقبلة وحرة بالجرف ويرجع كلتاهما إلى الشرقية والغربية لاتصالهما بهما.

والحرة: أرض تركبها حجارة سود، كما سبق من كلام المصنف.

وعبارة الشيخ تقي الدين (2): الحرة: حجارة سود.

وعبارة النووي (3): الحرة: الأرض الملبسة حجارة سود -زاد غيره: إذا كانت بين جبلين-.

ويقال: لابه ولوبة ونوبة بالنون، حكاهن أبو عبيد والجوهري (4) وخلائق.

ومنه قيل: للأسود لوبى ونوبى باللام والنون وقالوا: وجمع اللابة لوب ولاب [ولابات وهي غير مهموزة](5).

= في الحمل، فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال: عرقان أراد ابتداء الحال، ومن قال: عرق أراد ما آل إليه الأمر. اهـ.

(1)

في ن ب د (حرتين).

(2)

انظر: إحكام الأحكام (3/ 357).

(3)

انظر: شرح مسلم (7/ 226).

(4)

مختار الصحاح (254).

(5)

في ن ب ساقطة، وموجودة في شرح مسلم.

ص: 235

الثالث والعشرون: قوله: "على أفقر مني" أي ومن يتصدق عليه أفقر مني هكذا وقع في نسخ هذا الكتاب وهو رواية البخاري وفي إحدى روايتي مسلم "على أفقر منا" كما ذكره القرطبي قال: وهو محذوف همزة الاستفهام تقديره: أعلى أفقر منا. والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: أنتصدق به على أحد أفقر منا. والرواية الأخرى: "أفقر منا" بحذف "على" والرواية فيه حينئذٍ بالنصب على إضمار الفعل تقديره: "أتجد أففر منا" وقد يجوز رفعه على خبر المبتدأ أي "أحداً أفقر منا" ورواية مالك: "ما أجد أحداً [أفقر] (1) مني".

الرابع والعشرون: قوله: "أهل بيت أفقر من أهل بيتي" مرفوع لأهل بيت.

الخامس والعشرون: قوله: "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه" سبب ضحكه عليه الصلاة والسلام يحتمل التعجب من حال السائل وتباينه حيث كان أولاً محترقاً هالكاً متلهفاً حاكماً على نفسه بذلك، ثم انتقل إلى طلب الطعام لنفسه وعياله.

ويحتمل أنه من رحمته عليه الصلاة والسلام به وشفقته عليه وإطعامه هذا الطعام بعد أن أمره بإخراجه وإحلاله.

السادس والعشرون: "الأنياب"(2) جمع ناب، وهي الأسنان الملاصقة للثنايا، وهي أربعة أنياب، وأربعة ضواحك، واثني عشر

(1) في ن ب د (أحوج)، هكذا هنا، والذي في الموطأ (ما أحد أحوج مني).

(2)

انظر: المخصص (1/ 146).

ص: 236

[رحا](1) ثلاثة في كل شق، وأربعة نواجذ، وهي أقصاها، ويلي الثنايا أربع رباعيات، فذلك اثنان وثلاثون، قاله أبو زيد فيما نقله ابن قتيبة عنه.

وقال الأصمعي: مثله إلَّا أنه قال: الأَرْحا ثمانية فينقص أربعة.

وجاء في رواية: "حتى بدت نواجذه" وهي الأنياب هنا جمعاً بين الروايتين، وجاء في حديث آخر في قصة أخرى:"فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه".

وأجاب بعضهم: أنه حيث ضحك [متبسماً](2) إنما كان لأمر يتعلق بالدنيا وحيث ضحك حتى بدت نواجذه إنما كان لأمر يتعلق بالآخرة، ويعكر على هذا رواية:"حتى بدت نواجذه" هنا.

السابع والعشرون: فيه جواز الضحك وهو [غير](3) التبسم، كما جاء من أنه عليه الصلاة والسلام كان ضحكه تبسماً، فيجوز أن يكون الغالب من ضحكه، لا كله. وأما قوله -تعالى-:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} (4) فضاحكاً حال مقدرة أي تبسم بقدر الضحك، لأن الضحك يستغرق التبسم.

قال الفاكهي: هذا هو الصحيح عندي وقد جعله ابن

(1) في ن د (رحي).

(2)

في ن ب د (تبسما).

(3)

زيادة من ن ب د.

(4)

سورة النمل: آية 19.

ص: 237

عصفور (1): حالة مؤكدة، وهو بعيد أو وهم. فقد علمت بذلك أن التبسم غير الضحك، ويقال منه: ضحِكَ يضحَك ضَحْكاً (2) وضِحِكاً (3)[وضِحِكاً](4) لغات والضَّحْكةُ المرة الواحدة (5).

الثامن والعشرون: قوله عليه الصلاة والسلام: "اذهب فأطعمه أهلك" فيه أقوال (6).

أحدها: أن هذا خاص بهذا الرجل وحده، قاله الزهري (7) يعني أنه يجزيه أن يأكل من صدقة نفسِهِ لسقوط الكفارة عنه، فسوغها له النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي:"كله وأطعمه أهلك".

(1) ابن عصفور هو علي بن مؤمن بن محمد بن علي أبو الحسن ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة وتوفي سنة تسع وستين وستمائة. انظر: فوات الوفيات (2/ 185)، والأعلام (5/ 179).

(2)

بوزن (فَهْمٍ).

(3)

بوزن (عِلْمٍ) من مختار الصحاح (161).

(4)

في ن ب ساقطة.

(5)

قال أبو منصور الجبان في شرح الفصيح (211): واصل الضَّحِكِ: التفتح، ولهذا يقال: للطَّلْع المتفتح: ضَحْكَ وكذلك تفتح الشجر والنبَات: ضَحْكَ ولهذا قال الشاعر:

كلُّ يومٍ بأقحوانٍ جديدٍ

تضحك الأرض من بكاء السماء

(6)

انظر كلام ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 106): نقلاً عن الشافعي في معناها.

(7)

رواه عبد الرزاق في المصنف (4/ 194)، والاستذكار (10/ 105)، وانظر: تخريج رواية أبي داود، والبغوي في شرح السنة (6/ 287). قال الحافظ: وإلى هذا نحا إمام الحرمين، ورد بأن الأصل عدم الخصوصية. انظر: الفتح (4/ 171).

ص: 238

ثانيها: أنه منسوخ وهما ضعيفان (1).

ثالثها: يحتمل أنه أعطاه إياه لكفارته، وأنه يجزيه عن من لا تلزمه نفقته من أهله.

رابعها: أنه لما كان عاجزاً عن نفقة أهله جاز له إعطاء الكفارة عن نفسه لهم وقد جوز ذلك بعض أصحابنا حكاه الشيخ تقي الدين.

خامسها: لما ملكها، وهو محتاج جاز له أكلها هو وأهله لحاجتهم.

قال بعضهم: ولأن في أكله منها إذا كان محتاجاً. إجبار معه، فجاز له، وفيه نظر.

سادسها: وهو أقربها، كما قال الشيخ تقي الدين: أنه أطعمه لفقره، وأبقى الكفارة عليه متى أيسر. وهذا هو الصحيح عندنا. وهو مذهب مالك.

وذهب الأوزاعي (2)[وأحمد (3)](4) إلى أن حكم من لم يجد الكفارة ممن (5) لزمته من سائر الناس سقوطها عنه مثل هذا الرجل وهو قول عندنا كزكاة الفطر.

(1) انظر: له ولما قبله شرح السنة للبغوي (6/ 287).

(2)

انظر: الاستذكار (10/ 106).

(3)

المرجع السابق.

(4)

في ن ب ساقطة.

(5)

في الأصل (لم)، وفي ن ب د غير موجودة.

ص: 239

ووجه عدم السقوط القياس على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره، وليس في الحديث سقوطها بل قوله عليه الصلاة والسلام لما أتى بالعرق له:"خذ هذا فتصدق به" دليل على بقائها، وإنما أذن له في صرفه لعياله لحاجته كما سيأتي (1)، فإن الكفارة تجب على التراخي لا على الفور، كما سلف

(1) قال ابن العربي -رحمنا الله وإياه- في القبس (2/ 500): "وهم وتنبيه": لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي "كُلْهُ" ظنَّت طائفة أن الكفارة ساقطة عنه، وقالوا بأن ذلك مخصوص به -تقدم في القول الأول وتخريجه- ولم يتنبهوا لفقه عظيم، وهو أن هذا رجل ازدحمت عليه جهة الحاجة وجهة الكفارة فقدم الأهم، وهو الاقتيات، وبقيت الكفارة في ذمته إلى حين القدرة، حسب ما أوجبها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال علماؤنا: ولم يذكر القضاء لعلمه به. اهـ.

وهذا اختيار ابن دقيق العيد، كما نقله عنه ابن حجر في الفتح (4/ 172)، والبغوي في شرح السنَّة (6/ 287).

قال ابن القاسم -رحمنا الله وإياه- في حاشية الروض (3/ 420): قال ابن الوزير: أجمعوا على أنه إذا عجز عن كفارة الوطء، حين الوجوب سقطت، إلا الشافعي، في أحد قوليه. اهـ. وانظر: الفتح الرباني (10/ 99).

قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 107): إن احتج محتج في إسقاط الكفارة عن المعسر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "كله أنت وعيالك" ولم يقل له: تؤديها إذا أيسرت، ولو كانت واجبة عليه لم تسقط عنه حتى يبين ذلك له قيل له: ولا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ساقطة عنك لعسرتك بعد أن أخبره بوجوبها عليه، وكل ما وجب أداؤه في اليسار لزم الذمة إلى الميسرة، والله أعلم. نقله في تلخيص الحبير (2/ 208). انظر: التحقيق =

ص: 240

في الوجه العاشر. وجاء في رواية غريبة من حديث علي في الدارقطني (1) أنه عليه الصلاة والسلام: "قال له انطلق فكله أنت وعيالك. فقد كفر الله عنك". وفي إسنادها ابن عقدة وقد ضعفوه.

ومن تراجم البخاري على هذا الحديث "إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر"(2).

وترجم عليه [أيضاً المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج](3)

وترجم عليه في باب (4): "النفقات" نفقة المعسر على أهله!

التاسع والعشرون: "الأهل": هو كل من تلزمه نفقته ذكره الرافعي في كتاب الحج.

= في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (2/ 83)، فإنه بسط أدلة الفريقين بسطاً موسعاً.

(1)

السنن للدارقطني (2/ 208)، وضعفه الغساني في تخريج الأحاديث الضعاف (254)، وابن حجر في الفتح (4/ 172) قال: ولكنه حديث ضعيف لا يحتج بما انفرد به -فلم يسمِ أحد- ونقله الصنعاني في الحاشية (3/ 359)، وضعفه ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 208).

(2)

الفتح (4/ 163).

(3)

الفتح (4/ 173).

(4)

الفتح (9/ 513)، ومجموع ما ترجم عليه البخاري مفرداً ومشتركاً ثلاثة عشر باباً، وانظر: أطرافه (4/ 163) الفتح.

ص: 241

وقال الفاكهي: ظاهر الحديث دخول ذوي القربى والزوجة فيه، يقال: أهل الزوجة، وأهل الدار، وكذلك الأَهْلاتٌ وأهَلات بإسكان الهاء وفتحها وأهَالٍ زادوا فيه التاء على غير قياس، كما جمعوا ليلاً على ليالٍ وقد جاء في [الشعر](1)، آهَالٌ مثل فرح وأفراح ووتد وأوتاد (2).

الثلاثون: جمهور الأمة على وجوب القضاء على مفسد الصوم بالجماع، وهو الأصح عندنا، إذ الصوم المطلوب منه لم يفعله، وهو باق عليه كالصلوات وغيرها إذا لم تفعل بشروطها.

وقيل: لا يجب، وبه قالت طائفة من أهل العلم، لأن الخلل الحاصل قد انجبر بالكفارة، ولسكوته عليه الصلاة والسلام عنه في الصحيح.

وفي وجه ثالث: إن كفر بالصوم دخل فيه القضاء وإلَاّ فلا، لاختلاف الجنس، وبه قال الأوزاعي (3).

والصحيح عندنا الأول: وقد روى أبو داود والدارقطني (4) أنه

(1) في ن ب (العشر)، وما أثبت يوافق مختار الصحاح (20).

(2)

انظر: مختار الصحاح (20).

(3)

انظر: الاستذكار (10/ 98).

(4)

أبو داود (2287) في الصيام، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان، والدارقطني (2/ 190)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 226)، والموطأ (1/ 297)، وانظر ت (2)، (222)، وأبو داود في المراسيل (94). انظر: تلخيص الحبير (2/ 207)، فقد ساق طرقه كاملة، ومنها رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند أحمد (11/ 146). قال الهيثمي =

ص: 242

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= في مجمع الزوائد (3/ 168): رواه أحمد وفيه الحجاج بن أرطأة وفيه كلام. وسأنقل لك كلام ابن عبد البر في آخر التعليق.

قال ابن القيم في تهذيب السنن (2287): هذه الزيادة، وهي الأمر بالصوم، قد طعن فيها غير واحد من الحفاظ، قال عبد الحق: وطريق حديث مسلم أصح وأشهر، وليس فيها "صم يوماً" ولا تكميله التمر، ولا الاستغفار، وإنما يصح حديث القضاء مرسلاً، وكذلك مالك في الموطأ، وهو من مراسيل سعيد بن المسيب، رواه مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني عن سعيد بن المسيب بالقصة، وقال:"كله، وصم يوماً مكان ما أصبت"، والذي أنكره الحفاظ ذكر هذا اللفظ في حديث الزهري، فإن أصحابه الأثبات الثقات، كيونس وعقيل ومالك والليث بن سعد وشعيب ومعمر وعبد الرحمن بن خالد، لم يذكر أحد منهم هذه اللفظة وإنما ذكرها الضعفاء عنه، كهشام بن سعد، -وقد خالف الحفاظ في موضعين "أحدهما" أنه جعله عن أبي سلمة، وإنما هو عن حميد. "الآخر" أنه زاد ذكر الصوم، قال فيه: "كله أنت وأهل بيتك وصوم يوماً مكانه

" الحديث. أخرجه أبو داود (2393)، وسكت عنه الدارقطني (2/ 190)، والبيهقي (4/ 226، 227). انظر: الفتح (4/ 163، 172)، وعمدة القارىء (11/ 29)، وصالح بن أبي الأخضر وأضرابهما، وقال الدارقطني رواتها ثقات، رواه ابن أبي أويس عند الزهري، وتابعه عبد الجبار بن عمر عنه، وتابعه أيضاً هشام بن سعد عنه، قال: وكلهم ثقات، وهذا لا يقيد صحة هذه اللفظة، هؤلاء إنما هم أربعة، وقد خالفهم من هو أوثق منهم وأكثر عدداً، وهم أربعون نفساً، لم يذكر أحد منهم هذه اللفظة، ولا ريب أن التعليل بدون هذا مؤثر في صحتها، ولو انفرد بهذه اللفظة من هو أحفظ منهم وأوثق، وخالفهم هذا العدد الكثير، لوجب التوقف فيها، وثقه الراوي شرط في صحة الحديث لا موجبه، بل =

ص: 243

-عليه الصلاة والسلام أمره بالقضاء وأعلها ابن حزم (1)، بمن

= لا بد من انتفاء العلة والشذوذ، وهما غير منتقين في هذه اللفظة، -قال أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه-، على قوله بل لا بد

إلخ هذه اللفظة: وأين ما اتفقوا عليه ورجحوا: إن زيادة الثقة مقبولة. اهـ. ثم ساق الخلاف في الصيام وعدمه.

وقال في مسند أحمد (11/ 149): وقد استدركت على ابن القيم -رحمنا الله وإياه- هناك -أي في تهذيب السنن- فقلت: "وأين ما اتفقوا عليه أو رجحوا: إن زيادة الثقة مقبولة؟ " ولم أكن مستحضراً هناك رواية عمرو بن شعيب هذه، فإنها تزيد زيادة الثقة رجحاناً وقبولاً. والحمد لله على التوفيق. اهـ.

قال ابن عبد البر في الاستذكار (10/ 99): ومن حجة من لم يرَ مع الكفارة قضاء أنه ليس في خبر أبي هريرة، ولا خبر عائشة، ولا في نقل الحفاظ لهما ذكر القضاء وإنما فيهما الكفارة فقط، ولو كان القضاء واجباً لذكره مع الكفارة.

ومن حجة من رأى القضاء مع الكفارة: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن أعرابياً جاء بنتف شعره، فقال: يا رسول الله: وقعت على امرأتي في رمضان

" فذكر مثل حديث أبي هريرة وزاد وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي يوماً مكانه.

قال ابن حجر في الفتح (4/ 172): بعد سياقه روايات هذه الزيادة والخلاف في الصيام: وبمجموع هذه الطرق أن لهذه الزيادة أصلاً. اهـ.

وانظر: تلخيص الحبير. وقد نقل الشوكاني هذا في نيل الأوطار (4/ 243)، والحاشية للصنعاني (3/ 360).

(1)

أي بهشام بن سعد. انظر: المحلى (3/ 173)(7/ 365، 372)(8/ 15، 29)(9/ 141).

ص: 244

احتج به في الصحيح كعادته في التعنت.

ووقع في الوسيط للغزالي أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر الأعرابي بالقضاء، وليس بجيد منه، وهذا الخلاف في حق الرجل.

أما المرأة فيجب عليها القضاء قطعاً إذا لم تلزمها الكفارة، ولا يتحمل الزوج فإن الكفارة إذا [(1)] كانت صوماً لم يتحمل، فما ظنك بالقضاء.

قال الفاكهي: ولا أعلم خلافاً في وجوب القضاء عليهما عندنا إلَّا ما تقدم من احتمال كلام ابن القصار مكرهة كانت أو طائعة.

الحادى والثلاثون: اختلفوا في وجوب الكفارة على المرأة إذا مكنت طائعة فوطأها الزوج كما سلف في [الوجه](2) الرابع عشر، ومشهور مذهب مالك أنها إن كانت طائعة يجب عليها كفارة أخرى عن نفسها مع القضاء، وإن كانت [مكرهة](3) فالقضاء عليها وعلى زوجها كفارة عنها فيكون عنه كفارتان. عنه وعنها كذا فصل الفاكهي.

وقال القرطبي: مذهب مالك والجمهور أن الكفارة على الجاني وحده.

(1) في الأصل زيادة (لم)، والتصحيح من ن ب د.

(2)

في ن ب (الزوجة).

(3)

في ن ب (مكروهة)، وهي خطأ.

ص: 245

ومذهب الشافعي وأهل الظاهر أنها عنه وعن موطوئته.

قلت: هذا قول عنه فإنّ عنْهُ أقوال:

[أصحها](1): يجب كفارة واحدة على الزوج.

ثانيها: عنه وعنها.

ثالثها: [عليها](2) كفارة أخرى.

وحكى الدارمي وغيره وجهاً أنه يجب على الزوج في ماله كفارتان: كفارة عنه، وكفارة عنها، وهو مصادم للحديث. والكلام على هذه الأقوال وما يتعلق بها محله كتب الفروع.

ثم قال القرطبي: ومشهور مذهب مالك في المكرهة أن مكرهها يكفر عنها.

قلت: وبالأول من أقوال الشافعي قال داود وأهل الظاهر.

وبقول مالك: قال أبو ثور: وأهل الرأي أعني وجوب الكفارة على المرأة إن طاوعت كما أسلفناه في الوجه الرابع عشر ونقله البغوي في شرح السنة (3) عن أكثر العلماء.

واحتج لعدم الوجوب عليها: أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم المرأة بوجوب الكفارة عليها مع الحاجة إلى الإِعلام ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقد أمر -عليه الصلاة

(1) في ن ب (أحدها).

(2)

في ن ب (عليه).

(3)

شرح السنة (6/ 288).

ص: 246

والسلام- أُنيساً أن يغدر على امرأة العسيف، فإن اعترفت رجمها، فلو وجبت عليها لأعلمها بذلك، كما في حديث أنيس.

ومن أوجبها عليها أجاب بوجوه (1):

أحدها: أنّا لا نسلم الحاجة إلى إعلامها، فإنها لم تعترف بسبب الكفارة، وإقرار الرجل عليها لا يوجب عليها حكماً وإنما تمس الحاجة إلى إعلامها إذا ثبت الوجوب في حقها، ولم يثبت على ما بيناه.

ثانيها: أنها قضية حال، يتطرق إليها الاحتمال، ولا عموم لها، وهذه المرأة يجوز أن لا تكون ممن يجب عليها الكفارة بهذا الوطء: إما لصغرها، أو جنونها، أو كفرها، أو حيضها، أو طهارتها من الحيض في أثناء النهار.

واعترض على هذا بأنّ علمه عليه الصلاة والسلام بحيضها وعدمه عسر ولو كان علمُه ولم يخبره به الأعرابي ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم كان مستحيلاً. وأما باقي الأعذار المذكورة من الصغر والجنون وغيرها (2) فكلها أعذار تنافي التحريم على المرأة، وينافيها قوله في الرواية السالفة:"هلكت وأهلكت"(3) وجودة هذا الاعتراض

(1) انظر كلام الخطابي في معالم السنن (3/ 270).

(2)

انظر: إحكام الأحكام (3/ 363)، حيث اختلاف العبارات.

(3)

قال ابن حجر في فتح الباري (4/ 170): واستدل بعضهم بقوله في بعض طرق هذا الحديث: "هلكت وأهلكت" وهي زيادة فيها مقال. انظر: التعليق (4)، (212). =

ص: 247

موقوفة على صحة هذه الرواية (1). وقد علمت ما فيها فيما مضى.

وثالثها: أنّا لا نسلم عدم بيان الحكم، فإن بيانه في حق الرجل بيان له في حق المرأة، لاستوائهما في تحريم الفطر، وانتهاك

= وقد قال ابن الجوزي في التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 85): وفي قوله: "وأهلكت" تنبيه على أنه أكرهها، ولولا ذلك لم يكن مهلكاً لها، والمكرهة لا كفارة عليها. اهـ.

قلت: -أي ابن حجر- ولا يلزم من ذلك تعدد الكفارة، بل لا يلزم من قوله:"وأهلكت" إيجاب الكفارة عليها، بل يحتمل أن يكون قوله:"هلكت" أي أثمت "وأهلكت" أي كنت سبباً في تأثيم من طاوعتني إذ واقعتها، ولا ريب في حصول الإِثم على المطاوعة، ولا يلزم من ذلك إثبات الكفارة ولا نفيها، وأهلكت أي نفسي بفعلي الذي جر عليّ الإِثم، وهذا كله بعد ثبوت الزيادة المذكورة.

قال الصنعاني في حاشية الأحكام (3/ 364) معلقاً على هذا: ولا يعزب عنك أن الذي جعله احتمالاً متعين، وليس المراد سواه، فإن الأعرابي جاء مستفتياً وقال:"هلكلت وأهلكت" لم يكن عنده علم بما يلزمه من الكفارة قطعاً، ولذا جاء يستفتي، ولا علم بالكفارة إلَّا من جوابه صلى الله عليه وسلم عن سؤاله انما قد علم إثم إتيانه أهله في نهار رمضان عمداً لعلمه بأن الجماع محرم مفطر في نهار رمضان. اهـ.

(1)

قال الصنعاني في حاشية إحكام الأحكام (3/ 364): قال: بل لا جودة له على تقدير صحتها: "فإن مراده أهلكت بتأثيم من واقعتها لا بإيجاب الكفارة عليها. إذ لا علم له بوجوبها كما قررناه آنفاً.

أما صحة هذه الرواية، فقد قال ابن حجر في الفتح (4/ 170): قال البيهقي إنه ألف الحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء. اهـ. وأطال ابن حجر الاستدلال على بطلانها.

ص: 248

الحرمة، مع العلم بأن إيجاب الكفارة هو ذاك، والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، وهذا كما أنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر إيجاب الكفارة على سائر الناس غير الأعرابي، لعلمه بالاستواء في الحكم وهذا وجه قوي كما قال الشيخ تقي الدين:

وإنما حاولوا التعليل عليه بأن بينوا في المرأة معنى يمكن أن يظن به اختلاف [حكمها مع حكم الرجل، بخلاف غير الأعرابي من الناس، فإنه لا معنى يوجب اختلاف](1) حكمهم مع حكمه وذلك المعنى الذي أبدوه في حق المرأة هو أن مؤن النكاح لازمة على الزوج كالمهر وثمن ماء الغسل عن جِمَاعِهِ، فيمكن أن يكون [هذا](2) منه.

وأيضاً: فجعلوا الزوج في باب الوطء هو الفاعل المنسوب إليه الفعل، والمرأة محل، فيمكن أن يقال: الحكم مضاف إلى من [نسب](3) إليه الفعل، فيقال واطءٍ ومواقع. ولا يقال للمرأة ذلك، قال الشيخ: وليس [هذا بقوي](4)، فإن المرأة يحرم عليها التمكين. [وهي آثمة به مرتكبة كبيرة، كا](5) لرجل. وقد أضيف اسم الزنا إليهما في كتاب الله -تعالى-. ومدار الوجوب على هذا

(1) في ن ب ساقطة، ومثبتة في إحكام الأحكام.

(2)

زيادة من ن ب د.

(3)

في إحكام الأحكام (3/ 365)(ينسب).

(4)

في إحكام الأحكام (3/ 365)(هذان بقويين).

(5)

في إحكام الأحكام (3/ 365)(وتأثم به إثم مرتكب الكبائر كما).

ص: 249

المعنى (1).

الثاني والثلاثون: دل الحديث (2)[دلالة ظاهرة](3) على أنه لا مدخل لغير الخصال الثلاثة في الكفارة (4) ونقل عن الحسن البصري وعطاء أن المكفر إن لم يجد رقبة أهدى بدنة إلى مكة قال عطاء: أو بقرة. حكاه القرطبي ورواه مالك في الموطأ من مراسيل سعيد بن المسيب من رواية عطاء بن عبد الله الخراساني عنه، أنه عليه الصلاة والسلام قال له:"فهل تستطيع أن تهدي بدنة"(5).

(1) انظر: فتح الباري (4/ 169، 170)، ومعالم السنن للخطابي (3/ 270)، والفتح الرباني (10/ 96).

(2)

في ن ب (على هذا).

(3)

في إحكام الأحكام (3/ 365).

(4)

إلى هنا في هذه المسألة ينتهي نقله من إحكام الأحكام.

(5)

قال أحمد شاكر في المسند (11/ 148): وذكر إهداء البدنة في الكفارة ثابت هنا في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي مرسل عطاء بن أبي رباح أيضاً، كما هو بين. وقد ثبت أيضاً في حديث مرسل، رواه مالك في الموطأ -وقد سبق تخريجه- عن عطاء بن عبد الله الخرساني عن سعيد بن المسيب: "جاء أعرابي

" إلخ، إلى أن قال: "هل تستطيع أن تهدي بدنة؟ قال: لا". وهذا المرسل رواه البيهقي (4/ 227) من طريق الشافعي عن مالك.

وبالضرورة ليس هذا المرسل هو مرسل عطاء المروي هنا، لأنه "عن عطاء عن سعيد بن المسيب" فلا يراد إذا أطلق "مرسل عطاء"، بل يقال له:"مرسل سعيد بن المسيب" بداهة، ولذلك حين أشار إليه الحافظ "في =

ص: 250

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الفتح (4/ 167)، قال:"وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك في الموطأ، عن عطاء الخراساني عنه" ثم أشار الحافظ إلى عطاء [يعني الخرساني] لم ينفرد بذلك، وذكر رواية مجاهد عن أبي هريرة، التي رواها ليث بن أبي سليم عن مجاهد، عن ابن عبد البر بإسناده وقد أشرنا إليها آنفاً، ففاته أن ذلك ثابت أيضاً في رواية عطاء بن أبي رباح المرسلة، وفي رواية عمرو بن شعيب الموصولة، الليثي رواهما الإِمام أحمد هنا. اهـ. انظر: المعجم الأوسط (2/ 467)، من رواية عطاء ومجاهد عن أبي هريرة، ومجمع الزوائد (3/ 168)، وقال: وفيه ليث بن أبي سليم -وهو ثقة- لكنه مدلس. مجمع البحرين (3/ 116)، وقد أسند البخاري في التاريخ الكبير (6/ 475)، ذكر البدنة من رواية غير عطاء الخراساني، فرواه عن مجاهد عن أبي هريرة مرفوعاً:"أعتق رقبة ثم قال: "انحر بدنة".

وقال في الفتح الرباني (10/ 92): في رد رواية تكذيب سعيد بن المسيب عطاء في نحو البدنة: ونقل القاسم بن عاصم عن سعيد بن المسيب أنه قال كذب عطاء الخراساني، ما حدثته إنما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له تصدق. انظر: التاريخ الصغير (2/ 35)، والضعفاء للبخاري (90)، وميزان الاعتدال (3/ 74)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 406) -مع ما سبق من المصادر- وقد اضطرب في ذلك على القاسم. ولا يجرح بمثله عطاء فإنه فوقه في الشهرة بحمل العلم. وشهرته فيه الخبر أكثر من شهرة القاسم بن عاصم وإن كان البخاري ذكر عطاءٌ الخراساني بهذا الخبر في كتاب "الضعفاء" له ولم يتابعه أحد على ذلك. وعطاء مشهور بالفضل، وقد روى عنه الأئمة وله فضائل جمة، وقد أسند البخاري في التاريخ ذكر البدنة من رواية غير الخراساني، فرواه عن عطاء مجاهد عن أبي هريرة مرفوعاً:"أعتق رقبة ثم قال انحر بدنة"، قال البخاري: لا يتابع عليه. =

ص: 251

قلت: وقد اختلف في عطاء هذا على قولين:

أحدهما: أنه ابن عبد الله.

الثاني: أنه ابن ميسرة مولى المهلب ابن أبي صفرة، وأدخله البخاري في الضعفاء والمتروكين لتكذيب ابن المسيب له حين سئل عنه أنه حدثه بحديث الأعرابي كذب ما حدثته.

قال القاضي عياض: أنكر سعيد على عطاء روايته عنه البدنة.

وقال ابن طاهر: في تذكرته (1) قوله: "اهد بدنة" باطل.

(2)

قال ابن بزيزة: ووهم البخاري في إدخال عطاء في الضعفاء فإنه كان عالماً فاضلاً مجيداً للقرآن ولعلم القرآن من التفسير وغيره وروي عنه مالك ومعمر والأوزاعي (3).

= وكذا أسنده قاسم بن أصبغ عن مجاهد مرسلاً إلَّا أن جمهور العلماء لم يروا نحر البدنة عملاً. بحديث ابن شهاب. اهـ. وانظر: الكلام على هذه الروايات مفصلاً في الاستذكار (10/ 114).

ثم قال ابن عبد البر: قد وجدنا ذكر البدنة في هذا الحديث من غير رواية عطاء الخراساني، فلا وجه لإِنكار من أنكر ذلك عليه، والله أعلم إلَّا أن العمل عند أهل العلم بالحجاز والعراق الذين تدور عليهم الفتوى على ما في حديث ابن شهاب عن حميد، عن أبي هريرة المذكور عنه في هذا الباب ليس فيه نحر البدنة.

(1)

تذكرة الحفاظ (119، 120).

(2)

في ن ب د زيادة (واو).

(3)

للوقوف على ما قيل فيه، انظر: التاريخ الصغير للبخاري (2/ 35)، والضعفاء له (90)، والتاريخ الكبير (6/ 474)، وميزان الاعتدال (3/ 74)، وطبقات ابن سعد (7/ 379)، وتاريخ خليفة (410)، =

ص: 252

الثالث والثلاثون: يستنبط من الحديث أن من ادعى عذراً يسقط عنه شيئاً أو يفتح له أخذ شيء يقبل قوله ولا يكلف إقامة البينة على ذلك. فإن هذا الرجل ادعى الفقر وادعى أنه ما أصيب إلَّا من الصوم [كما مضى.

الرابع والثلاثون: قوله له] (1)"خذ هذا فتصدق به" يلزم منه أن [يكون ملّكه إياه ليتصدق به عن كفارته ويكون](2) هذا كقول القائل أعتقت عبدي عن فلان فإنه يتضمن سبقيه الملك عند قوم.

قال القرطبي: وأباه أصحابنا مع الاتفاق على أن الولاء للمعتق عنه، وأن الكفارة تسقط بذلك.

الخامس والثلاثون: جاء في رواية في الصحيح "أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة" وذكر الحديث ويتمسك بهذه الرواية لمذهب مالك وجماعة أن من هتك صوم رمضان بأي وجه كان من أكل أو شرب أو غيرهما تجب عليه الكفارة لكن للمخالف أن يحمل الإِفطار على الموافقة جمعاً بين الروايات ويبعد كل البعد تعدد الواقعة.

= وطبقات خليفة (313)، والجرح والتعديل (6/ 334، 335). علماً أن أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه- قال: وأما مرسل عطاء: فإني رجحت أنه عطاء بن أبي رباح لأن الحجاج بن أرطأة يروي عنه

إلخ، المسند (11/ 148)، وانظر التعليق السابق وما ذكره الساعاتي -رحمنا الله وإياه-.

(1)

في الأصل بياض.

(2)

في الأصل بياض.

ص: 253

وإن ادعى القرطبي: أن التعدد هو الظاهر لأجل مذهبه في ذلك (1).

السادس والثلاثون: ترجم البخاري على هذا الحديث في كتاب الهبة (2) من صحيحه باب إذا وهب هبة فقبضها الآخر ولم يقل: قبلت.

وترجم عليه في النفقات: باب نفقة المعسر على أهله (3). كما تقدم.

(1) انظر: الاستذكار (10/ 101).

(2)

البخاري مع الفتح (5/ 223).

(3)

البخاري مع الفتح (9/ 513، 514).

ص: 254