الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن
193/ 8/ 36 - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أُمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟! فقال:"لو كان على أمك دين أكنت قاضيه [عنها؟] (1) "، قال: نعم. قال: "فدين الله أحق أن يقضى (2) ".
وفي رواية جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أُمي ماتت، وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال:"أرأيت لو كان على أمكِ دين فقضيتيه، أكان ذلك يؤدي عنها"؟ قالت: نعم، قال:"فصومي عن أُمكِ"(3).
(1) في الأصل ساقطة، وما أثبت من ن ب.
(2)
البخاري (1953)، ومسلم (1148) تعليقاً.
(3)
البخاري (1953)، ومسلم (1148)، والترمذي (717)، وابن ماجه (1758)، والبغوي (1774)، والدارقطني (2/ 195)، والبيهقي (4/ 255)، وأحمد (1/ 224، 227، 258، 362)، وأبو داود (3310)، في الإِيمان، باب: ما جاء فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه، والنسائي (7/ 20)، بألفاظ متقاربة.
الكلام عليه من وجوه، والتعريف براويه سلف في باب الاستطابة:
الأول: الرجل المذكور وأمه وكذا أم المرأة لا أعلم أسماءهم بعد البحث الشديد عن ذلك.
وأما المرأة فقال ابن طاهر في إيضاحه: [هي](1) غايثة أو غاثية (2) يعني بتقديم المثناة أو المثلثة.
وقال ابن منده في مستخرجه: سهل بن عبادة كان مستفتياً ورجل وامرأة كانا مستفتيين.
الثاني: مقتضى الرواية الأولى عدم تخصيص جواز النيابة بصوم النذر. فإن فيه إطلاق القول بموت أمه وعليها صوم شهر من غير تقييد بنذر، وهو أحد [قولي](3) الشافعي كما سلف في الحديث قبله، خلافاً لما قاله أحمد من الصوم عنه في النذر والإِطعام عنه في قضاء رمضان، ووجه الدلالة من وجهين.
أحدهما: أنه عليه الصلاة والسلام ذكر الحكم غير مقيد بعد سؤال السائل مطلقاً عن واقعة يحتمل أن يكون وجوب الصوم فيها عن نذر، ويحتمل أن تكون عن غيره فيرجع ذلك إلى القاعدة الأصولية وهي أنه عليه الصلاة والسلام إذا أجاب بلفظ غير مقيد
(1) زيادة من ن ب د.
(2)
هكذا في المخطوط: والذي في إيضاح المشكل لابن طاهر (140)، غاثنة أو غاينة. انظر: فتح الباري (4/ 65)، وأسد الغابة (7/ 211)، والإِصابة (8/ 44).
(3)
في ن ب (قول).
عن سؤال وقع، عن صورة محتملة أن يكون الحكم فيها مختلفاً، أنه يكون الحكم فيها شاملاً للصور كلها، وهو الذي قال فيه الشافعي وغيره ترك الاستفصال [في](1) قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال. وقد استدل الشافعي بمثل هذا، وجعله كالعموم.
الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام علل قضاء الصوم بعلة عامة للنذر وغيره وبينه بالقياس على الدين، وذلك لا يختص بالنذر في كونه حقًّا واجباً. والحكم يعم بعموم علته. وقد استدل القائلون بالقياس في الشريعة بهذا الحديث من حيث إنه عليه الصلاة والسلام قاس وجوب أداء حق الله -تعالى- على وجوب أداء حق العباد. وجعله من طريق الأحق، فيجوز لغيره القياس، لقوله -تعالى-:{فَاتَّبِعُوهُ} (2) لا سيما وقوله عليه الصلاة والسلام "أرأيت" إرشاد وتنبيه على العلة التي هي كشيء مستقر في نفس المخاطب.
وأما الرواية الثانية: ففيها ما في الأولى من دخول النيابة في الصوم، والقياس على حقوق الآدميين، إلَّا أنه ورد التخصيص فيها بالنذر.
وقد يتمسك بها من يرى التخصيص بصوم النذر. إما بأن يدل دليل على أن الحديث واحد فيتبين من بعض الروايات أن الواقعة المسؤول عنها واقعة واحدة، وهي النذر فيسقط الوجه الأول
(1) في ن ب د (عن).
(2)
سورة الأنعام: آية 153.
السالف: وهو الاستدلال بعدم الاستفصال، إذا تبين عين الواقعة، إلَّا أنه قد يبعد هذا التباين بين الروايتين. فإن في إحداهما: أن السائل رجل، وفي الثانية امرأة. وقد تقرر في علم الحديث أنه يعرف كون الحديث واحداً باتحاد سنده ومخرجه وتقارب ألفاظه. وعلى كل حال فيبقي الوجه الثاني: وهو الاستدلال بعموم العلة على عموم الحكم، كيف ومعنا عموم آخر، وهو الحديث السالف:"من مات وعليه صيام صام عنه وليه" فيكون التنصيص على مسألة صوم النذر مع ذلك العموم راجعة إلى مسألة أصولية. وهي: أن التنصيص على بعض صور العام لا يقتضي التخصيص، وهو المختار في علم الأصول.
الثالث: [شبه](1) بعض الشافعية المتأخرين بأن نقيس الاعتكاف والصلاة على الصوم في النيابة. وحكاه بعضهم وجهاً في الصلاة، كما أسلفناه في الحديث قبله. فإن صح ذلك فقد يستدل بعموم التعليل.
الرابع: في الحديث قضاء الدين عن الميت، وهو إِجماع، ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارثه أو غيره، فيبرأ به قطعاً قال القرطبي والحديث مشعر بأن القضاء على الندب لمن طاعت به نفسه، لأنه لا يجب على ولي الميت أن يؤدي [من](2) ماله عن الميت ديناً بالاتفاق، لكن من تبرع به انتفع به الميت وبرئت ذمته. قال: ويمكن أن يقال: إن مقصود الشرع إن ولي الميت إذا عمل العمل
(1) في جميع النسخ (شبب)، ولعلها ما أثبت.
(2)
في ن ب ساقطة.
بنفسه من صوم أو حج أو غيره فصيره للميت انتفع به الميت، ووصل إليه ثوابه ويعتقد ذلك بشبهة قضاء الصوم عنه بقضاء الدين. والدين إنما يقضيه الإِنسان عن غيره مما [حصله](1) لنفسه، ثم بعد ذلك يقضيه عن غيره أو يهبه له.
الخامس: فيه أيضاً تقديم دين الله -تعالى- على دين الآدمي إذا تزاحما: كدين الزكاة ودين الآدمي، ولم يمكن الجمع بينهما، لضيق التركة عن الوفاء لكل منهما. وقد يستدل لتقديم الزكاة بقوله:"فدين الله أحق أن يقضى" وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال للشافعي.
أصحها: تقديم دين الله -تعالى-.
والثاني: تقديم دين الآدمي، لأنه مبني على الشح والمضايقة.
والثالث: هما سواء فيقسم بينهما.
السادس: فيه أيضاً جواز سماع كلام الأجنبية في الاستفتاء ونحوه من مواضع الحاجة.
السابع: فيه أيضاً صحة القياس وقد أسلفناه.
الثامن: فيه أيضاً جواز صوم القريب عن الميت، وقد أسلفناه، واعتذر القاضي عياض عن مخالفة مذهبهم لهذه الأحاديث في الصوم عن الميت والحج بأنها مضطرية، حيث رُوِيَ تارة أن السائل رجل وتارة امرأة، وتارة صوم شهر وتارة صوم شهرين. وهذا عذر باطل، كما قاله النووي في "شرح مسلم". قال: وليس في الحديث اضطراب، بل يحمل على أن السائل تارة رجل وتارة امرأة، وتارة
(1) في الأصل (جعله)، وما أثبت من ن ب د.
عن شهر وتارة عن شهرين. قال: ويكفينا في صحته احتجاج مسلم به في صحيحه.
قلت: وكذا البخاري أيضاً [وإن كان النووي أقر القاضي على هذه المقالة في كتاب النذر](1) وروي رواية أخرى أن عليها صوم خمسة عشر يوماً.
التاسع: فيه أيضاً أنه يستحب للمفتي أن ينبه على وجه الدليل إذا كان مختصراً واضحاً وبالسائل إليه حاجة أو يترتب عليه مصلحة لأنه عليه الصلاة والسلام قاس على دين الآدمي تنبيهاً على وجه الدليل، وهو أشرح لصدر المستفتي، وأطيب لنفسه، وأدعى لإِذعانه للأحكام من غير وجود حرج في نفسه.
العاشر: فيه أيضاً الجواب بنعم إذا كان حقًّا.
الحادي عشر: فيه تقريب العلم إلى أذهان السائلين بعبارة مفهومة عندهم، ليكون أقرب إلى سرعة فهمهم للمسؤول عنه.
…
(1) زيادة من ن ب د.