الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
209/ 3/ 39 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: "يا رسول الله! إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة". وفي رواية: "يوماً في المسجد الحرام". قال: "فأوف بنذرك"(1)، ولم يذكر بعض الرواة يوماً ولا ليلة.
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: رواية اعتكاف يوم قد قدمنا عزوها إلى مسلم، وكلام ابن حبان عليها ومعنى لم يذكر بعض الرواة يوماً وليلة أن عمر قال: نذرت أن أعتكف في الجاهلية فقال: "أوف بنذرك".
ثانيها: قوله: "نذرت" وهو بفتح الذال. ويقال فيه: نَذُرَ بكسر الذال وضمها.
ثالثها: "الجاهلية" ما قبل الإِسلام، سموا بذلك لكثرة
(1) البزار (1/ 250، 252)، والعلل للدارقطني (2/ 26)، وتمام في فوائده (3/ 142)، وأبو يعلى (37)، والبيهقي في السنن (4/ 316)، وابن الجارود (94)، وانظر: تمام تخريجه في الحديث الأول من باب الاعتكاف.
جهالاتهم، وتطلق الجاهلية على كل فعل ما يخالف الإِسلام والشرع.
رابعها: كان المسجد الحرام فناء حول الكعبة وفضاء للطائفين، ولم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر جدار يحيط به، وكانت الدور محدقة به وبين الدور أبواب يدخل الناس من كل ناحية منها فلما استخلف عمر رضي الله عنه وكثر الناس وسّع المسجد، واشترى دوراً فهدمها وزاد فيه، واتخذ للمسجد جداراً قصيراً دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه وكان عمر أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام، ثم تتابع الناس على عمارته وتوسيعه: كعثمان وابن الزبير رضي الله عنهما ثم عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد، ثم المنصور، ثم المهدي.
قال النووي في "الروضة"(1) وغيرها: وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا. وقال غيره: زاد فيه المأمون وأتقن بنيانه بعد المهدي باثنين وأربعين سنة.
قال السهيلي (2): وهو على حاله إلى الآن، وأسقط النووي ذكر عبد الملك بن مروان وذكر ابن الزبير والوليد. وأثبته ابن العطار في "شرحه"، ولو وسع شيئاً آخر جاز الطواف والاعتكاف في جميعه.
واعلم أن المسجد الحرام يطلق ويراد به هذا المسجد وهذا هو الغالب، وقد يراد به الحرم، وقد يراد به مكة.
(1) انظر: تهذيب الأسماء واللغات (4/ 124).
(2)
الروض الأنف (1/ 224).
وقيل: في قوله -تعالى-: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1). قال الماوردي: كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فالمراد به الحرم، إلَاّ قوله -تعالى-:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فإن المراد به الكعبة.
قلت: وإلَاّ قوله -تعالى-: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2) أيضاً، وأما قوله -تعالي-: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
…
} (3) الآية فالمراد به مكة مع الحرم وما حولها، وقوله -تعالى-:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (4) فنقل النووي في "تهذيبه"(5) عن المفسرين أن المراد به مكة.
وحكى أبو شامة في مصنفه "نور المسرى في تفسير آية الإِسراء" فيه أربعة أقوال: هذا أحدها:
وثانيها: أن المراد نفس الكعبة.
وثالثها: أن المراد نفس المسجد الذي فيه الكعبة.
رابعها: أن المراد به جميع الحرم، وأما قوله عليه الصلاة والسلام:"لا تشد الرحال إلَاّ إلى ثلاثة مساجد"(6)، إلى آخره
(1) سورة البقرة: آية 196.
(2)
سورة التوبة: آية 19.
(3)
سورة التوبة: آية 28.
(4)
سورة الإِسراء: آية 1.
(5)
تهذيب الأسماء واللغات (4/ 152).
(6)
من رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري أطرافه في الفتح (586)، =
فالمراد المسجد وما حوله.
خامسها: في الحديث لزوم النذر للقربة، وقد يستدل بعمومه للزوم الوفاء بكل منذور.
سادسها: فيه أيضاً صحة النذر من الكافر وهو وجه في مذهب الشافعي [ورأي البخاري وابن جرير و](1) المشهور. أنه لا يصح وهو مذهب الجمهور، لأن النذر قربة. والكافر ليس من أهلها. والحديث مؤول على أنه أمر أن يأتي باعتكاف يوم شبيه بما نذر لئلا يخل بعبادة نوى فعلها، فأطلق عليه أنه منذور لشبهه به وقيامه مقامه في فعل ما نواه من الطاعة. وعلى هذا يكون قوله:"أوف بنذرك" من مجاز الحذف أو من مجاز التشبيه، لكن ظاهر الحديث خلافه. فإن دل أقوى من هذا الظاهر على أنه لا يصح اعتكاف الكافر احتيج إلى هذا التأويل وإلَاّ فلا.
وأجابوا أيضاً: إنه يحمل الأمر على الاستحباب، لكن ظاهر الأمر الوجوب، كيف ونص الشافعي على كراهة الابتداء بالنذر، لصحة النهي عنه، مع وجوب الوفاء به قطعاً، ولا يصح بالنية
= ومسلم (2/ 975)، والترمذي (326)، وابن ماجه (1410)، والحميدي (750)، وأحمد (3/ 7، 45، 78، 53، 93).
ومن رواية أبي هريرة عند البخاري (1189)، ومسلم (1397)، وابن ماجه (1409)، والحميدي (943) ، وأبو داود (2033) في المناسك، باب: إتيان المدينة، والنسائي (2/ 37)، وعبد الرزاق (9158)، وأحمد (2/ 234، 238).
(1)
زيادة من ن ب د.
وحدها، بل لا بد فيه من القول معها، وبهذا يرد على قول ابن العربي في قبسه (1): لما كان عمر (2)، نذره في الجاهلية فأسلم أراد أن يكفر ذلك بمثله في الإِسلام، فلما [أراده](3) ونواه سأل النبي صلى الله عليه وسلم (4)، فاعلمه أنه لزمه، قال: وكل عبادة أو عمل ينفرد به العبد عن غيره (5) بمجرد النية [العازمة](6) الدائمة كالنذر في العبادات، والطلاق في الأحكام وإن لم يتلفظ بشيء من ذلك. هذا لفظه، وليس بظاهر [أيضاً](7) بل الظاهر من كلام عمر رضي الله عنه مجرد الإِخبار بما وقع في الجاهلية مع الاستخبار عن لزومه [وعدم لزومه](8) وليس فيه ما يدل على نية في الإِسلام ولا إرادة تنزلنا أنه نواه.
فجواب: ما سلف وقد قال ابن بشير من المالكية: لم يختلف أن العبادات لا تلزم إلَاّ بالقول أو بالنية والدخول فيها وهو الشروع.
قلت: وتأول بعضهم قوله: "في الجاهلية" أي ونحن بمكة قبل فتحها، وأهلها جاهلية فلا يكون ناذراً في الكفر وهو بعيد أيضاً.
(1) القبس (2/ 530).
(2)
في القبس رضي الله عنه.
(3)
ليست موجودة في القبس.
(4)
في القبس زيادة (عنه).
(5)
في المرجع السابق زيادة (يلزمه).
(6)
في المرجع السابق (العارضة).
(7)
زيادة من ن ب د.
(8)
زيادة من ن ب د.
سابعها: فيه أيضاً عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف، كما قررناه في الحديث الأول مع الجواب عن رواية نذر اعتكاف اليوم، والمشترط للصوم أوَّل قوله: ليلة بيوم، فإن الليلة تغلب في لسان العرب، على اليوم يقولون: صمنا خمساً. والخمس تنطلق على الليالي، ولو انطلق على الأيام لقيل: خمسة. فأطلقت الليالي وأراد الأيام، أو يقال: المراد ليلة بيومها.
ثامنها: فيه أيضاً سؤال العلماء عما يجهل من العلم.
تاسعها: فيه أيضاً سؤالهم عما كان من السائل في حال كفره.
عاشرها: فيه وجوب البيان على من سئل عن علم وعدم كتمانه.
خاتمة: روى أبو داود (1) أنه عليه الصلاة والسلام قال
(1) أبو داود (2366) في الصيام، باب: الاعتكاف، وضعفه المنذري لأن في إسناده عبد الله بن بديل، وساق كلام ابن عدي، والدارقطني في السنن (2/ 200). وقال ابن حجر في الفتح (4/ 274): وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر صريحاً لكن في إسنادها ضعيف وقد أخرجها أبو داود والنسائي، من طريق عبد الله بن بديل وهو ضعيف، وقد ذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار، ورواية من روى يوماً شاذة، وقد وقع في رواية سليمان بن بلال الآتية بعد أبواب -2043 - "فاعتكف ليلة" فدل على أنه لم يزد على نذره شيئاً وأن الاعتكاف لا صوم فيه وأنه لا يشترط له حد معين اهـ.
وضعفه أيضاً الغساني في تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني (215)، والبيهقي في المعرفة (6/ 394)، والدارقطني في العلل =
لعمر: "اعتكف وصم" لكن تفرد بها عبد الله بن بديل، كما قاله ابن عدي والدارقطني وضعفاه، ووهم ابن حزم، فادعى جهالته، وهو غريب، فهو معروف العين والحال. وقد أخرج له البخاري تعليقاً، ووثقه ابن معين وابن شاهين وابن حبان، ثم وهم أخرى أفظع من هذه، فقال: لا يعرف هذا الخبر من مسند عمرو بن دينار [أصلاً وما يعرف لعمرو بن دينار](1) عن ابن عمر حديثاً مسنداً، إلَاّ ثلاثة ليس هذا منها. قال: فسقط الخبر لبطلان سنده.
قلت: لعمرو بن دينار في الصحيح عن ابن عمر نحو عشرة أحاديث، فما هذا الكلام؟!
…
= (2/ 26).
وقال العلَاّمة أحمد شاكر -رحمنا الله وإياه- في تعليقه على تهذيب السنن (3/ 350). ليس عبد الله بن بديل من الضعف بالمنزلة التي يصورها كلام المنذري، ففي التهذيب (5/ 155): قال ابن معين: صالح. وقال ابن عدي: له ما ينكر عليه الزيادة في متن أو إسناده. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 21).
قلت: وابن شاهين في تاريخ أسماء الثقات برقم (647)، ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء، فهذا أقل حاله أن يكون حديثاً حسناً، وتقبل زيادته. اهـ.
(1)
زيادة من ن ب د.