الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
36 - باب الصوم في السفر [وغيره]
(1)
ذكر فيه رحمه الله أحد عشر حديثاً:
الحديث الأول
186/ 1/ 36 - عن عائشة رضي الله عنها: أن حمزه بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ -وكان كثير الصيام- فقال (2): "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر"(3).
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: حمزة هذا مدني كنيته أبو صالح (4).
(1) زيادة من ن ب د.
(2)
في بعض كتب الحديث: أنت بالخيار.
(3)
البخاري (1942، 1943)، ومسلم (1121)، وأبو داود (2402) في الصيام، باب: الصوم في السفر، والترمذي (711) ، والنسائي (4/ 187، 188)، وابن ماجه (1662)، وابن خزيمة (2028)، وابن الجارود (397)، وأحمد (6/ 46، 193، 202)، وابن حبان (3560)، والدارمي (2/ 8)، وابن أبي شيبة (3/ 16)، ومالك (1/ 295)، والفريابي في الصيام (105، 106، 107، 108، 109).
(4)
في الثقات لابن حبان (3/ 70).
ويقال: أبو محمد.
وكان البشير بوقعة أجنادين إلى أبي بكر.
وقيل: هو الذي بشر كعب بن مالك بتوبته فكساه ثوبيه.
وروى البخاري [في تاريخه](1) عنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فتفرقنا في ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعي حتى حملوا عليها ظهرهم وما هلك منهم وإن أصابعي لتنير".
روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أحاديث روى له مسلم حديثاً واحداً من حديث أبي [مراوح](2) عنه وقد أخرجا ذكره في هذا الحديث.
مات سنة إحدى وستين.
قال ابن حبان في "ثقاته"(3): في ولاية يزيد بن معاوية وهو ابن إحدى وسبعين سنة.
فائدة: في الصحابة أيضاً حمزة غير هذا: حمزة بن عبد المطلب، وحمزة بن الحمير حليف لبني عبيد بن عدي الأنصاري (4).
(1) التاريخ الكبير (3/ 46)، والمعجم الكبير للطبراني (3/ 159). قال في المجمع (9/ 411): ورجاله ثقات، وفي كثير بن زيد اختلاف، وتاريخه ساقطة من الأصل.
(2)
في ن ب (مرواح)، وهو تصحيف.
(3)
الثقات (3/ 70).
(4)
قد ذكره ابن الأثير في أسد الغابة (2/ 50، 52).
ثانيها: الأسلَمي -بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح اللام وكسر الميم- نسبة إلى أسلم بن أفصى -بالفاء- ويشتبه هذا بالأسلُمي بضم اللام نسبة إلى أسلُم بن الجاف بن [بضاعة](1).
ثالثها: في الحديث دليل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، وليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان، وربما استدل به من يجيز صوم رمضان في السفر، فمنعوا الدلالة من حيث ما ذكرناه، من عدم الدلالة على كونه صوم رمضان. كذا قاله الشيخ تقي الدين (2) وكأنه استند في ذلك إلى قول ابن حزم (3)، إنما سأله عن التطوع وهو عجيب ففي سنن أبي داود (4) من حديث حمزة بن محمد بن حمزة الأسلمي عن أبيه عن جده ما هو صريح، أنه سأله عن شهر رمضان، لكن ابن حزم اختصرها (5) وأعلها بضعف حمزة (6) وأبيه. فأما حمزة: فمجهول، وأما أبوه: فعَنْهُ جماعة، وذكره ابن حبان في "ثقاته"(7)، وقد روى الحديث الحاكم (8) في مستدركه عليه.
(1) وفي توضيح النسبة (1/ 228): قضاعة. قال بعده: قلت: وإلى أسلم بن القِيَاتة بن الغافِق بن الشاهد بن عَكّ، وإلى أسلُم بن تدُول بن تيم اللات بن رُفَيدة بن ثور بن الكلب
…
إلخ.
(2)
انظر: إحكام الأحكام (3/ 366).
(3)
المحلى (6/ 253).
(4)
أبو داود (2296) في الصيام، باب: الصوم في السفر.
(5)
المحلى (6/ 248).
(6)
المرجع السابق (6/ 250).
(7)
الثقات لابن حبان (5/ 357).
(8)
المستدرك للحاكم (1/ 433).
ووهم ابن العطار في"شرحه" فعزاه باللفظ الذي سقناه إلى مسلم فاجتنبه. ويؤيد هذه الرواية التي ذكرناها قوله عليه الصلاة والسلام لحمزة بن عمرو في رواية أخرى لمسلم (1): "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" ولا يقال في التطوع مثل هذا، فظهر بهذا أن المراد بقوله:"أأصوم في السفر" أنه صوم رمضان لا صوم التطوع. وكذا قوله في الصحيح: "إني أسرد الصوم"[فالمراد سرد](2) رمضان لا سرد صوم التطوع جمعاً بين الروايات وإن كان ظاهر هذه [الرواية](3)[أنه](4) التطوع وقوله أيضاً "كان كثير الصيام" يشعر به وعلى هذا الظاهر جرى النووي في "شرح مسلم"(5)، حيث [قال] (6): فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضرراً، ولا يفوّت به حقّاً بشرط فطر يوميّ العيد وأيام التشريق، قال: لأنه أخبر، بسرده، ولم ينكر عليه، بل أقره عليه، وأذن له فيه في السفر، ففي الحضر أولى، قال: وهذا محمول على أن حمزة كان يطيق السرد بلا ضرر ولا تفويت حق، كما قال في
(1) مسلم (1121)، والنسائي (4/ 186، 187)، والحاكم (1/ 433)، وابن خزيمة (2026)، والبيهقي (4/ 243)، وابن حبان (3567).
(2)
في ن ب ساقطة.
(3)
زيادة من ن ب د.
(4)
في ن ب (له).
(5)
انظر: (7/ 237).
(6)
في ن ب (قاله).
الرواية الأخرى "أجد بي قوة على الصيام" ثم شرع يجمع بين حديث حمزة هذا وحديث (1) عمرو بن العاص في النهي عنه.
ثم اعلم بعد ذلك أن جمهور العلماء على أن المسافر سفراً طويلاً مباحاً إن صام في سفره، أجزأه.
وذهبت الشيعة: إلى أنه لا يصح وعليه القضاء.
واختلف أصحاب داود الظاهري (2): فذهب بعضهم: إلى أنه ينعقد صومه.
وذهب بعضهم: إلى أنه لا يجزئه ولا ينعقد، وعليه القضاء.
وحكي عن ابن عمر أنه قال: من صام في السفر قضى في الحضر (3).
وحكي عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر"(4) قال البيهقي: وهو موقوف منقطع. قال: وروي مرفوعاً وإسناده ضعيف.
(1) هكذا هنا، والصحيح أنه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال النووي في مسلم (7/ 227): وأما إنكاره صلى الله عليه وسلم على ابن عمرو بن العاص
…
إلخ.
(2)
انظر: الاستذكار (10/ 72).
(3)
روى معني ذلك استنتاجاً من قوله: "من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإِثم مثل جبل عرفة". انظر: فتح الباري (4/ 183).
(4)
النسائي (4/ 183)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/ 14)، والبيهقي (4/ 244)، وقال: وهو موقوف وفي إسناده انفطاع، وروي مرفوعاً وإسناده ضعيف. انظر: الاعتبار للحازمي (358)، وابن ماجه (1666).
وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده انقطاع، أسامة بن زيد متفق على تضعيفه، وأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً. قاله ابن معين والبخاري، والفريابي في كتاب الصيام (140).
وحكى أصحابنا بطلانه عن أبي هريرة (1)، وحكى أنه مذهب عمر (2)، ومتمسك هؤلاء قوله -تعالى-:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3) أي فعليه عدة، أو فالواجب عدة، والحديث الآتي "ليس من البر الصوم في السفر"(4) والحديث الآخر "أولئك العصاة"(5) وتأول الجمهور أن في الآية حذف التقدير "فأفطروا".
واستدلوا على صحته بالأحاديث الصحيحة في صومه عليه الصلاة والسلام فيه (6)، وتخييره بينه وبين الإِفطار (7) فدل ذلك
(1) الفريابي في الصيام (141)، وساق بسنده: عن محرر بن أبي هريرة قال: كنت في سفر فصمت رمضان، فلما رجع، قال له أبو هريرة: اقضه فقضاه.
(2)
الفريابي في الصيام (139)، وساق بسنده: عن عمرو بن دينار، عن رجل، عن أبيه؛ أنه سأل عمر بن الخطاب عن رجل صام رمضان في السَّفر؟ فأمره عمر أن يبدل.
(3)
سورة البقرة: آية 184.
(4)
سيأتي تخريجه إن شاء الله.
(5)
مسلم (1114)، والحميدي (1289)، والترمذي (710)، والنسائي (4/ 177)، والطيالسي (1667).
(6)
ورد من رواية جابر وانظر ما قبله، ومن رواية ابن عباس عند البخاري (2954، 4275)، ومسلم (1113)، والنسائي (4/ 189)، وابن خزيمة (2035)، والحميدي (514)، وأحمد (1/ 219، 334) ، وأبي سعيد عند أحمد (3/ 21).
(7)
أقول: وهذا في حديث الباب، وهو قوله:"إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".
على أن المعنى على ما قدروه من الحذف، وأن القضاء على من أفطر فقط. ويقوي قولهم أيضاً الرواية السالفة:"هي رخصة من الله" ثم اختلفوا في الأفضل على أقوال.
أحدها: أن الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر. فإن تضرر به فالفطر أفضل، وبه قال أنس (1) بن مالك، ومالك في المشهور عنه، كما قال القرطبي (2) وأبو حنيفة (3) وحكاه الخطابي (4) عن عمر بن عبد العزيز وقتادة ومجاهد، وحكاه النووي في "شرح مسلم"(5) عن الأكثرين مبادرة إلى تخليص الذمم ومسابقة إلى الخيرات، ولأنه عليه الصلاة والسلام وعبد الله بن رواحة صاموا كما سيأتي، وقد قال -تعالى-:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (6).
ثانيها: أن الفطر أفضل، وإليه ذهب ابن عباس، فقال:"عسر ويسر خذ يسر الله"(7) وابن عمر وكان يقول "رخصة ربي أحب إليّ"
(1) الاستذكار (10/ 79).
(2)
"قال: قال مالك: وذلك واسع وأحب ذلك إليّ الصيام في السفر لمن قوي عليه". انظر: الصيام للفريابي (112)، والمغني لابن قدامة (3/ 150).
(3)
انظر: الاستذكار (10/ 79).
(4)
انظر: معالم السنن (3/ 283).
(5)
(7/ 229).
(6)
سورة البقرة: آية 184.
(7)
الاستذكار (10/ 79)، والمحلى لابن حزم (6/ 247)، واختلفت الرواية =
مع أنه كان من أهل التشديد على نفسه والأخذ بالأشد، وقال:"أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ألا تغضب"(1) وذهب إليه أيضاً سعيد بن المسيب (2)، والأوزاعي (3) وأحمد وإسحاق وغيرهم، وحكاه بعض (4) أصحابنا قولاً للشافعي.
واحتجوا بما سلف لأهل الظاهر وبحديث "هي رخصة من الله" السالف وظاهره ترجيح الفطر، وبالحديث الآتي:"ليس من البر الصيام في السفر"(5).
وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضرراً أو يجد
= عنه في جواز الصيام في السفر ففي رواية عنه أنه لا يجزىء المسافر أن يصوم، ورواية ثانية أن الصيام في السفر جائز وروى ابن حزم في المحلى عن ابن عباس أن الصوم للمسافر هو الأفضل. وروى عنه أنه قال:"إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم برخصة الإِفطار في السفر تيسيراً عليكم، فمن يُسّر عليه الصوم فليصم ومن يُسّر عليه الفطر فليفطر". انظر: عبد الرزاق (2/ 570، 569)، وابن جرير في التفسير (2/ 156).
(1)
انظر: كتاب الصيام للفريابي (103)، مع اختلاف في الألفاظ، وانظر: الاستذكار (10/ 79).
(2)
قال البيهقي في المعرفة (6/ 298): قال سعيد بن المسيب: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خياركم الذين إذا سافروا أفطروا وقصروا الصلاة". انظر: الاستذكار (10/ 79).
(3)
الصيام للفريابي (114)، والاستذكار (10/ 79).
(4)
انظر: الاستذكار (10/ 79).
(5)
انظر: إيضاح معنى هذا الحديث بالتفصيل في الاستذكار (10/ 81، 82)، وما يأتي في التعليق (22).
مشقة، كما هو صريح في الأحاديث، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري الثابت في الصحيح (1):"كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن. ويرون أن من وجد ضعفاً فافطر فإن ذلك حسن. وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة (2).
(1) مسلم (1116، 1117)، والترمذي (712، 713)، وأبو داود (2406) في الصيام، باب: الصوم في السفر، والنسائي (4/ 188، 189)، وابن خزيمة (2030، 2038)، وابن حبان (3558)، والبيهقي (4/ 245)، وأحمد (3/ 50).
(2)
قال ابن القيم -رحمنا الله وإياه- في تهذيب السنن (3/ 284): وقد احتج به -أي حديث (2300) - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلاً يظلَّلُ عليه، والزحام عليه. فقال:"ليس من البِرِ الصيام في السفر" واحتجوا بأن الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا أيضاً بحديث دحية بن خليفة الكلبي:"أنه لما سافر من قريته في رمضان، وذلك ثلاثة أميال أفطر، فأفطر معه الناس، وكره ذلك آخرون، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت أمراً ما كنت أظن أني أراه، إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يقول ذلك للذين صاموا. ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك". رواه أبو داود وغيره.
واحتجوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبول رخصة الفطر. فروى النسائي من حديث جابر، يرفعه:"ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= واحتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم في الذين صاموا: "أولئك العصاة" رواه النسائي في قصة فطره عام الفتح.
واحتجوا أيضاً بقول عبد الرحمن بن عوف: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر". رواه النسائي. ولا يصح رفعه، وإنما هو موقوف.
واحتجوا أيضاً بأن الله -تعالى- إنما أمر المسافر بالعدة من أيام أخر، فهي فرضه الذي أمر به، فلا يجوز غيره. وحكى ذلك عن غير واحد من الصحابة.
وأجاب الأكثرون عن هذا بأنه ليس فيه ما يدل على تحريم الصوم في السفر على الإِطلاق، وقد أخبر أبو سعيد "أنه صام مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح في السفر".
قالوا: وأما قوله: "ليس من البر الصيام في السفر"، فهذا خرج على شخص معين، رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظلل عليه، وجهده الصوم، فقال هذا القول، أي ليس البر أن يجهد الإِنسان نفسه حتى يبلغ بها هذا المبلغ، وقد فسح الله له في الفطر. فالأخذ إنما يكون بعموم اللفظ الذي يدل سياق الكلام على إرادته، فليس من البر هذا النوع من الصيام المشار إليه في السفر.
وأيضاً فقوله: "ليس من البر"، أي ليس هو أبر البر، لأنه قد يكون الإِفطار أبر منه إذا كان في حج أو جهاد يتقوى عليه. وقد يكون الفطر في السفر المباح برّاً، لأن الله -تعالى- أباحه ورخص فيه، وهو -سبحانه- يحب أن يؤخذ برخصه، وما يحبه الله فهو بر، فلم ينحصر البر في الصيام في السفر. وتكون "من" على هذا زائدة، ويكون كقوله -تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
…
} الآية، وكقولك: ما جاءني من أحد، وفي هذا نظر. وأحسن منه أن يقال: إنها ليست بزائدة، بل هي على حالها، والمعنى: أن الصوم في السفر ليس من البر الذي تظنونه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وتتنافسون عليه. فإنهم ظنوا أن الصوم هو الذي يحبه الله ولا يحب سواه، وأنه وحده البر الذي لا أبر منه، فأخبرهم أن الصوم في السفر ليس من هذا النوع الذي تظنونه، فإنه قد يكون الفطر أحب إلى الله منه، فيكون هو البر.
قالوا: وأما كون الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد به واقعة معينة، وهي غزاة الفتح، فإنه صام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، فكان فطره آخر أمريه، لا أنه حرم الصوم، ونظير هذا قول جابر:"كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار" إنما هو في واقعة معينة، دُعي لطعام وأكل منه، ثم توضأ وقام إلى الصلاة، ثم أكل منه وصلى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار. وجابر هو الذي روى هذا وهذا، فاختصر بعض الرواة والأمر منه على آخره. ولم يذكر جابر لفظاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا آخر الأمرين منه وكذلك قصة الصيام، وإنما حكوا ما شاهدوه أنه فعل هذا وهذا، وآخرهما منه الفطر، ترك الوضوء، وإعطاء الأدلة حقها يزيل الاشتباه والاختلاف عنها.
وأما قصة دحية بن خليفة الكلبي، فإنما أنكر فيها على من صام رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وظنَّاً أنه لا يسوغ الفطر. ولا ريب أن مثل هذا قد ارتكب منكراً، وهو عاص بصومه. والذين أمرهم الصحابة بالقضاء وأخبروا أن صومهم لا يجزيهم، هم هؤلاء، فإنهم صاموا صوماً لم يشرعه الله، وهو أنهم ظنوا أنه حتم عليهم كالمقيم. ولا ريب أن هذا حكم لم يشرعه الله، فلم يمتثلوا ما أمروا به من الصوم، فأمرهم الصحابة بالقضاء.
هذا أحسن ما حمل عليه قول من أفتى بذلك من الصحابة، وعليه يحمل قول من قال منهم:"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" وهذا من كمال فقههم، ودقة نظرهم رضي الله عنهم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قالوا: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها" فهذا يدل على أن قبول المكلف لرخصة الله واجب، وهذا حق، فإنه متى لم يقبل الرخصة ردها ولم يرها رخصة، وهذا عدوان منه ومعصية، ولكن إذا قبلها، فإن شاء أخذ بها، وإن شاء أخذ بالعزيمة. هذا مع أن سياق الحديث يدل على أن الأمر بالرخصة لمن جهده الصوم وخاف على نفسه، ومثل هذا يؤمر بالفطر. فعن جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء. قال: ما بال صاحبكم هذا؟ قالوا: يا رسول الله صائم. قال: "إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها" رواه النسائي.
قالوا: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أولئك العصاة" فذاك في واقعة معينة، أراد منهم الفطر فخالفه بعضهم، فقال هذا: ففي النسائي عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس معه، فبلغه أن الناس شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب، والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض. فبلغه أن ناساً صاموا. فقال: "أولئك العصاة" فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أفطر بعد العصر ليقتدوا به، فلما لم يقتد به بعضهم قال: "أولئك العصاة"، ولم يرد بذلك تحريم الصيام مطلقاً على المسافر. والدليل عليه: ما روى النسائي أيضاً عن أبي هريرة قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فقال لأبي بكر وعمر:"ادنيا، فكلا". فقالا: إنا صائمان. فقال: "ارحلوا لصاحبكم. اعملوا لصاحبكم"، وأعله بالإِرسال. ومر الظهران: أدنى إلى مكة من كراع الغميم، فإن كراع الغميم بين يدي عسفان بنحو ثمانية أميال، وبين مكة وعسفان ستة وثلاثون ميلاً. قالوا: وأما احتجاجكم بالآية، وأن الله أمر المسافر بعدة من أيام أخر، فهي فرضه الذي لا يجوز غيره، فاستدلال باطل فطعاً. فإن الذي أنزلت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عليه هذه الآية، وهو أعلم الخلق بمعناها والمراد منها، قد صام بعد نزولها بأعوام في السفر، ومحال أن يكون المراد منها ما ذكرتم، ولا يعتقده مسلم، فعلم أن المراد بها غير ما ذكرتم. فإما أن يكون المعنى: فأفطر، فعدة من أيام أخر، كما قال الأكثرون، أو يكون المعنى: فعدة من أيام أخر تجزىء عنه، وتقبل منه، ونحو ذلك. فما الذي أوجب تعيين التقدير بأن عليه عدة من أيام أخر، أو ففرضه، ونحو ذلك؟
وبالجملة: ففعل من أنزلت عليه تفسيرها، وتبيين المراد منها، وبالله التوفيق.
وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم، يحتجون بعموم نص على حكم، ويغفلون عن عمل صاحب الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده، ومن تدبر هذا علم به مراد النصوص، وفهم معانيها.
وكان يدور بيني وبين المكيين كلام في الاعتمار من مكة في رمضان وغيره، فأقول لهم: كثرة الطواف أفضل منها، فيذكرون قوله صلى الله عليه وسلم:"عمرة في رمضان تعدل حجة"، فقلت لهم في أثناء ذلك: محال أن يكون مراد صاحب الشرع العمرة التي يخرج إليها من مكة إلى أدنى الحل، وأنها تعدل حجة، ثم لا يفعلها هو مدة مقامه بمكة أصلاً، لا قبل الفتح ولا بعده، ولا أحد من أصحابه، مع أنهم كانوا أحرص الأمة على الخير، وأعلمهم بمراد الرسول، وأقدرهم على العمل به. ثم مع ذلك يرغبون عن هذا العمل اليسير والأجر العظيم؟ يقدر أن يحج أحدهم في رمضان ثلاثين حجة أو أكثر، ثم لا يأتي منها بحجة واحدة، وتختصون أنتم عنهم بهذا الفضل والثواب، حتى يحصل لأحدكم ستون حجة أو أكثر؟ هذا ما لا يظنه من له مسكة عقل. وإنما خرج كلام النبي صلى الله عليه وسلم على العمرة المعتادة التي فعلها هو وأصحابه، هي التي أنشأوا السفر لها من أوطانهم، وبها أمر أم معقل، وقال لها:"عمرة في رمضان تعدل حجة" ولم يقل =
ثالثها: أن الصوم والفطر سواء، لتعادل الأحاديث، قال القرطبي: وعليه جل أهل المذهب، ثم ادعى أن الأحاديث دالة له، وليس كما قال، بل هي دالة للأول.
رابعها: إن من لا يتضرر بالصوم في الحال ولكن يخاف الضعف لو صام وكان سفر حج أو غزوة (1) فالفطر أولى. حكاه الرافعي في كتاب الصوم عن "التتمة" وحكى الجيلي وجهان: أن من خاف ضرراً لا يصح صومه وهو غريب.
الرابع: في الحديث دليل على السؤال عن العلم في كل ما يعرض للإِنسان من جوازه وأفضليته.
الخامس: فيه دليل أيضاً على [أن](2) المستفتي يذكر للمفتي حاله وما يعرض له ولا يكتمه شيئاً مما يتعلق بسؤاله.
[السادس](3): جمهور العلماء على أنه يشترط في جواز الفطر كون السفر طويلاً، كما جزمت به فيما مضى، وهو عند [أهل](4) العراق ثلاثة أيام.
= لأهل مكة: اخرجوا إلى أدنى الحل فأكثروا من الاعتمار، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة، ولا فهم هذا أحد منهم. وبالله التوفيق. اهـ.
(1)
فائدة: في الأعذار التي يباح للصائم الفطر:
وعوارض الصوم التي قد يغتفر
…
للمرء فيها الفطر تسع تستطر
حبل وإرضاع وإكراه سفر
…
مرض جهاد جَوْعة عطش كبر
(2)
زيادة من ن ب د.
(3)
في ن ب د (خاتمة).
(4)
زيادة من ن ب د.
وعند أكثر أهل الحجاز يوم وليلة، [وقد كان ابن عمر وابن عباس لا يريان القصر والإِفطار في أقل من أربعة برد].
وادعى ابن بزيزة أن الصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام لم يخص سفراً من سفر، وأنه ظاهر الآية (1).
(1) قال ابن القيم في تهذيب السنن (3/ 292): قال المجوزون للفطر في مطلق السفر: هب أن حديث دحية لم يثبت. فقد أطلق الله -تعالى- السفر، ولم يقيده بحد، كما أطلقه في آية التيمم ، فلا يجوز حده إلَّا بنص من الشارع، أو إجماع من الأمة، وكلاهما مما لا سبيل إليه، كيف وقد فصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة، ولا تأثير للنسك في القصر بحال؟ فإن الشارع إنما علل القصر بالسفر، فهو بالوصف المؤثر فيه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى مسيرة البريد سفراً، في قوله:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر بريداً إلَّا مع ذي محرم"، وقال -تعالى-:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، وهذا يدخل فيه كل سفر، طويل أو قصير، وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإِبل حقها من الأرض، وإذا سافرتم في الجدب بادروا بها نقبها"، وهذا يعم كل سفر، ولم يفهم منه أحد اختصاصه باليومين فما زاد، ونهى "أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو"، ونهى "أن يسافر الرجل وحده"، وأخبر "أن دعوة المسافر مستجابة"، وكان "يتعوذ من وعثاء السفر"، وكان "إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه"، ومعلوم أن شيئاً من هذه الأسفار لا يختص بالطويل، ولا أنه لو سافر دون اليوم لم يقرع بين نسائه، ولم يقض للمقيمات، فما الذي أوجب تخصيص اسم السفر بالطويل بالنسبة إلى القصر والفطر دون غيرها؟
قالوا: وأين معناه في الشريعة تقسيم الشارع السفر إلى طويل وقصير، =
وقال قوم: يجوز في كل سفر وإن قصر، قال الخطابي (1): وأظنه مذهب داود وأهل الظاهر.
قلت: ولا بد أيضاً من اشتراط كونه حلالاً. فالعاصي بسفره لا يفطر.
…
= واختصاص أحدهما بأحكام لا يشاركه فيها الآخر؟ ومعلوم أن إطلاق السفر لا يدل على اختصاصه بالطويل، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم مقداره. وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، فسكوته عن تحديده من أظهر الأدلة على أنه غير محدود شرعاً، قالوا: والذين حددوه -مع كثرة اختلافهم وانتشار أقوالهم- ليس معهم نص بذلك، وليس حد بأولى من حد، ولا إجماع في المسألة، فلا وجه للتحديد، وبالله التوفيق. اهـ.
(1)
انظر: معالم السنن (3/ 292).