المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في النذور - شرح المصابيح لابن الملك - جـ ٤

[ابن الملك]

فهرس الكتاب

- ‌10 - باب عشرةِ النِّساءِ وما لكلِّ واحدةِ من الحقوقِ

- ‌11 - باب الخُلعِ والطلاقِ

- ‌12 - باب المُطلَّقَةِ ثلاثًا

- ‌فصل

- ‌13 - باب اللِّعَانِ

- ‌14 - باب العِدَّة

- ‌15 - باب الاستبراء

- ‌16 - باب النَّفقاتِ وحَقّ المَملوكِ

- ‌17 - باب بلوغِ الصَّغيرِ وحضانتهِ في الصِّغَرِ

- ‌13 - كِتابُ العِتِقْ

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب إعتاقِ العَبْدِ المُشتَرَك وشراءِ القريبِ والعتقِ في المَرَضِ

- ‌3 - باب الأيمانِ والنذورِ

- ‌فصل في النُّذورِ

- ‌14 - كِتَابُ القِصَاص

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب الدِّيَاتِ

- ‌3 - باب ما لا يُضْمَنُ من الجنايات

- ‌4 - باب القَسامة

- ‌5 - باب قتلِ أهل الرِّدةِ والسّعاةِ بالفسادِ

- ‌15 - كتاب الحدود

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب قطع السرقة

- ‌3 - باب الشَّفاعةِ في الحُدودِ

- ‌4 - باب حدَّ الخمرِ

- ‌5 - باب لا يُدْعى على المَحدودِ

- ‌6 - باب التَّعْزيرِ

- ‌7 - باب بيانِ الخَمْرِ ووعيدِ شاربها

- ‌16 - كِتابُ الإِمَارَة وَالقَضَاءِ

- ‌1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ:

- ‌2 - باب ما على الوُلاةِ من التيسيرِ

- ‌3 - باب العَملِ في القضاءِ والخَوفِ منهُ

- ‌4 - باب رزقِ الوُلاةِ وهداياهم

- ‌5 - باب الأقضيةِ والشَّهاداتِ

- ‌17 - كِتابُ الجِهَاد

- ‌2 - باب إعدادِ آلةِ الجِهادِ

- ‌3 - باب آدابِ السَّفَرِ

- ‌4 - باب الكتابِ إلى الكُفَّارِ ودعائِهم إلى الإسلامِ

- ‌5 - باب القِتالِ في الجهادِ

- ‌6 - باب حُكْمِ الأُسارىَ

- ‌7 - باب الأمانِ

- ‌8 - باب قِسْمَةِ الغنائمِ والغُلولِ فيها

- ‌9 - باب الجزية

- ‌10 - باب الصُّلحِ

- ‌11 - باب الجلاء: إخراجِ اليهودِ من جزيرةِ العَرَبِ

- ‌12 - باب الفَيْء

- ‌18 - كِتَابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِح

- ‌2 - باب (باب ذكر الكلب)

- ‌3 - باب ما يحلّ أكلُه وما يحرُمُ

- ‌4 - باب العقِيقةِ

- ‌19 - كِتابُ الأَطْعِمَةِ

- ‌2 - باب الضيافَةِ

- ‌فصل

- ‌3 - باب الأشرِبةِ

- ‌4 - باب النَّقيعِ والأنبذةِ

- ‌5 - باب تغطيةِ الأواني وغيرِها

الفصل: ‌فصل في النذور

اللَّغو في أثناء المحاورات، كقولهم: لا والله، وبلى والله، استدركَه بذلك نافياً كونَه يمينًا معقوداً عليه.

وقيل: معناه: أستغفر الله إن كان الأمرُ على خلاف ذلك، وسَمَّاه يميناً مجازاً، وقيل: الظاهر أن قوله: (لا، وأستغفر الله) كان حَلِفًا صادراً منه على سبيل اللَّغو.

* * *

2566 -

وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن حلفَ على يمينٍ فقالَ: إنْ شاءَ الله، فلا حِنْثَ عليهِ"، وَوَقَفَهُ بعضُهم على ابن عمرَ رضي الله عنهما "عن ابن عمر رضي الله عنه: أن رسولَ الله عليه الصلاة والسلام قال: مَن حلفَ على يمينٍ فقال"؛ أي: عقيبَ حلفِه متصلاً: "إن شاء الله، فلا حِنْثَ عليه"؛ للاستثناء.

"ووقفَه بعضُهم على ابن عمر".

* * *

‌فصل في النُّذورِ

(فصل في النذور)

مِنَ الصِّحَاحِ:

2567 -

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَنْذُروا فإنَّ النَّذرَ لا يُغْني من القَدَرِ شيئًا، وإنما يُستَخرَجُ بهِ مِن البخيلِ".

ص: 103

"من الصحاح":

" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا تَنْذُرُوا، فإن النذرَ لا يُغني من القَدَر شيئاً": وهذا يدل على أن النذرَ المَنهيَّ ما يُقصَد به تحصيلَ غرض، أو دفعَ مكروهٍ على ظنِّ أن النذرَ يردُّ عن القَدَر شيئًا، وليس مُطلَقُ النذرِ مَنهيًّا؛ لأنه لو كان كذلك لَمَا لزمَ الوفاءُ به، وقد أجمعوا على لزومه إذا لم يكن المنذورُ معصيةً، يدل عليه قولُه:"وإنما يُستخرَج به"؛ أي: يخرج المالُ بواسطة النذر "من البخيل"؛ لأن غيرَ البخيلِ يُعطي باختياره بلا واسطة النذر.

* * *

2568 -

وقال: "مَن نذرَ أنْ يُطيعَ الله فلْيُطِعْهُ، ومَن نذرَ أنْ يَعصيَهُ فلا يَعصِه".

"وعن عائشة قالت: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: مَن نَذَرَ أن يطيعَ الله فَلْيُطِعْه، ومَن نذرَ أن يَعصيَه فلا يَعصِه"، فيه: دليل على أن مَن نذرَ طاعةً يلزمُه الوفاءُ به، وإن لم يكن معلَّقاً بشيءٍ، وأنَّ مَن نذرَ معصيةً فلا يجوز له الوفاءُ، كصومِ يومِ العيدِ ونحرِ ولدِه، ولا يلزمُه الكفارةُ أيضاً عند الشافعي.

* * *

2569 -

وقال: "لا وفاءَ لنذْرٍ في مَعصِيةٍ، ولا فيما لا يَملِكُ العبدُ".

وفي روايةٍ: "لا نذْرَ في معصيةِ الله".

"عن عمران بن حُصين قال: قال عليه الصلاة والسلام: لا وفاءَ لنذرٍ في معصيةٍ، ولا فيما لا يَملِك العبدُ": فُسِّر ذلك بنذرِ صومِ يوم العيد ونحرِ ولدِه، والأَولى تفسيرُه بأن نَذَرَ عتقَ عبدٍ ليس في ملكِه، ونحو ذلك.

ص: 104

"وفي رواية: لا نذرَ في معصيةِ الله".

* * *

2570 -

وقال: "كفَّارةُ النَّذرِ كفَّارةُ اليمينِ".

"وعن عقبة بن عامر قال: قال عليه الصلاة والسلام: كفَّارةُ النذرِ كفَّارةُ اليمينِ"، وبه قال أبو حنيفة، وفيه حُجَّة على الشافعي.

* * *

2571 -

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: قال: بينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ إذا هو برجلٍ قائمٍ فسألَ عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيلَ، نذرَ أنْ يقومَ ولا يقعدَ، ولا يَستظِلَّ، ولا يتكلَّمَ، ويصومَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مُرْهُ فليتكلَّمْ وليستظِلَّ وليَقعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ".

"وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: بينا رسولُ الله عليه الصلاة والسلام يَخطُبُ، إذا هو برجلٍ قائمٍ، فسأل عنه"؛ أي: النبيُّ عليه الصلاة والسلام عن الرجلِ.

"فقالوا: أبو إسرائيل، نَذَرَ أن يقومَ ولا يقعدَ ولا يستظلَّ ولا يتكلَّمَ ويصومَ": سؤالُه عليه الصلاة والسلام عنه إما سؤالٌ عن اسمِهِ؛ ولذلك أُجيب به وزِيدَ عليه، أو عن حالِه؛ فأُجيب به وزِيدَ باسمه، أو عنهما؛ فأُجيب بهما.

وقيل: إنما سألَ عن علَّة انتصاب الرجل، دون اسمه؛ لأنه رجلٌ من قريش، فاشتبه على السامعين، فلم يدروا عن أي الأمرَين يسأل، فأَخبروا بهما جميعًا.

"فقال عليه الصلاة والسلام: مُرُوه فَلْيتكَّلمْ وَليَستظلَّ وَلْيقعُدْ وَلْيُتمَّ

ص: 105

صومَه"، أمرُه عليه الصلاة والسلام إياه بوفاء الصوم دونَ ما عداه: يدلُّ على صحة نذرِ القُربة دونَ غيرها.

* * *

2572 -

وعن أنسٍ رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى شيخاً يُهادَى بين ابنيْهِ فقال: "ما بالُ هذا؟ " قالوا: نذرَ أنْ يمشيَ، قال:"إنَّ الله عز وجل عَنْ تَعْذِيب هذا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ"، وأَمَرَهُ أنْ يركبَ.

وفي روايةٍ: "اركبْ أيُّها الشَّيخُ، فإنَّ الله غنيٌّ عنكَ وعن نذرِك".

"وعن أنس: أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى شيخاً يُهَادَى بين ابنيه"؛ أي: يمشي معتمداً عليهما من الضعف؛ لأجلِ نذرِه ماشيًا إلى بيت الله.

"فقال: ما بالُ هذا؟ قالوا: نَذَرَ أن يمشيَ إلى البيت، قال: إن الله عز وجل عن تعذيبِ هذا نفسَه لَغنيٌّ، وأَمَرَه أن يَركبَ"، عملَ الشافعيُّ رحمه الله بظاهر الحديث وقال: لا دمَ عليه.

وقال أبو حنيفة، وهو أحدُ قولَي الشافعي: عليه دمٌ؛ لأنه أَدخلَ نقصًا في الواجب بعدم وفائه كما التزمَه.

"وفي رواية: اركبْ أيها الشيخُ؛ فإن الله غنيٌّ عنك وعن نذرِك".

* * *

2573 -

وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أن سعدَ بن عُبادَةَ استفْتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كانَ على أُمِّهِ، فتُوفِّيَت قبلَ أنْ تَقْضيَه؟ فأَفتَاه بأنْ يَقضيَه عنها.

"عن ابن عباس: أن سعدَ بن عُبادةَ استَفْتَى النبيَّ عليه الصلاة والسلام "؛ أي: طلبَ الفتوى منه.

ص: 106

"في نذرٍ كان على أُمِّه، فتُوفِّيتْ"؛ أي: ماتتْ.

"قبلَ أن تقضيَه، فأفتاه أن يقضيَه عنها"، قيل: هذا يدلُّ على أن مَن ماتَ، وعليه نذرٌ أو كفارةٌ، يجب قضاؤُها من رأس المال مقدَّمًا على الوصايا والميراث، كقضاء الديون، أوصى بها أو لا، وبه قال الشافعي.

وعندنا: لا يُقضَى ما لم يُوصِ بها، فإن أوصى يُقضَى من الثلاث.

* * *

2574 -

وعن كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسولَ الله: إنَّ مِن تَوْبَتي أنْ أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى الله وإلى رسولهِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أمسِكْ بعضَ مالِكَ فهو خيرٌ لكَ"، قلتُ: فإني أُمسِكُ سَهْمي الذي بخيبرَ.

"عن كعب بن مالك": وهو واحد الثلاثة الذين تخلَّفوا عنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك، والآخران مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فنزل في حقِّهم:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] الآية، ثم ندموا من سوء صنيعهم ذلك، فتابوا، فقُبلَتْ توبتُهم بعد أيام، فأراد كعبٌ أن يتصدَّق بجميع ماله شكرًا لله.

"قال: قلت: يا رسولَ الله! إن من توبتي"؛ أي: من تمامِها.

"أن أَنخلَع من مالي"؛ أي: أتجرَّد منه.

"صدقةً إلى الله وإلى رسوله"، كما يتجرَّد الإنسانُ وينخلع من ثيابه.

"فقال رسولُ الله عليه الصلاة والسلام: أَمسِكْ بعضَ مالك؛ فهو خيرٌ لك، قلت: فإني أُمسكُ سَهْمِي الذي بخيبر" من العقار وغيره.

* * *

ص: 107

مِنَ الحِسَان:

2575 -

عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذرَ في معصيةِ الله، وكفَّارتُه كفارةُ اليمينِ".

"من الحسان""عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نذرَ في معصيةِ الله، وكفَّارتُه كفارةُ اليمين": تقدم بيانه.

* * *

2576 -

عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَذَرَ نَذْراً لم يُسَمِّهِ فكفّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذراً في معصيةٍ فكفَّارتُه كفارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْراً لا يُطيقُه فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْراً أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بهِ"، ووقَفه بعضُهم على ابن عباسٍ رضي الله عنهما.

"عن ابن عباس: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: مَن نَذَرَ نذراً لم يُسمِّه"؛ أي: لم يُسمِّ شيئًا، بل نَذَرَ نذراً مطلقًا.

"فكفارتُه كفارةُ يمين، ومَن نَذَرَ نذرًا في معصيةٍ فكفارتُه كفارةُ يمين، ومَن نَذَرَ نذرًا لا يطيقه فكفارتُه كفارةُ يمين، ومَن نَذَرَ نذراً يُطيقُه فَلْيَفِ به": أمرٌ من الوفاء.

"ووقفَه بعضُهم على ابن عباس".

* * *

2577 -

عن ثابتِ بن الضَّحَّاك: أنه قال: أتَى رَجُلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: إني نذرتُ أنْ أَنحر إبلاً ببُوانَةَ قال: "أكان فيها وَثَنٌ مِن أَوثانِ الجاهليةِ يُعْبَدُ؟ " قالوا:

ص: 108

لا، قال:"فهلْ كانَ فيها عيدٌ مِن أعيادِهم؟ " قالوا: لا، قال:"أَوْفِ بنذرِكَ فإنه لا نَذْرَ في معصيةِ الله، ولا فيما لا يملِكُ ابن آدمَ".

"عن ثابت بن الضحَّاك أنه قال: أتى رجلٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إني نذرتُ أن أنحرَ إبلاً ببُوَانة": بضم الباء وتخفيف الواو: موضع في أسفل مكة دونَ يَلَمْلَم، وقد جاء محذوف التاء أيضًا.

"قال: أكانَ فيها وَثَنٌ من أوثان الجاهلية يُعبَد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أَوفِ بنذرك": وهذا يدل على أن مَن نَذَرَ أن يُضحِّيَ بمكانٍ معينٍ صحَّ نذرُه ولزمَه الوفاءُ.

"فإنه لا نذرَ في معصية الله، ولا فيما لا يَملِك ابن آدم".

* * *

2578 -

وعن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إني نَذَرتُ أنْ أَضرِبَ على رأسِكَ بالدُّفِّ؟ قال: "أَوْفي بنذرِكِ"، قالت: إني نذرتُ أنْ أذبَحَ بمكانِ كذا وكذا - بمكانٍ كانَ يذبحُ فيهِ أهلُ الجاهليةِ، قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: الِصَنَمٍ؟ " قالت: لا، قال: "أَوْفي بنذرِك".

"وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إني نَذرتُ أن أضربَ على رأسك بالدُّفِّ، قال: أوف بنذرِك"، قال الخطابي: ضربُ الدُّفِّ ليس من القُربات التي وجب على الناذر الوفاءُ به، بل من المباحات، كأكل الأطعمة اللذيدة ولبس الثياب الناعمة وغير ذلك، ولكنه عليه الصلاة والسلام أمرَها بالوفاء به؛ نظرًا إلى قصدِها الصحيحِ، الذي هو إظهارُ الفرح والسرور بمَقْدَمه عليه الصلاة والسلام سالمًا غانمًا مُظفَّرًا على الأعداء.

"قالت: إني نَذرتُ أن أذبحَ بمكان كذا وكذا، لمكانٍ كان يَذبَح فيه أهلُ

ص: 109

الجاهلية، قال: لصنمٍ؟ قالت: لا، قال: أوفِ بنذرك".

* * *

2579 -

عن أبي لُبابَةَ: أنَّه قالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِن تَوْبَتِي أنْ أَهْجُرَ دارَ قَوْمي التي أَصبتُ فيها الذنبَ، وأنْ أنخلِعَ مِن مالي كلِّه صَدَقةً، قال:"يُجْزِئ عنكَ الثُّلُثُ".

"عن أبي لُبابة أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إن من توبتي أن أَهْجُرَ"؛ أي: أَتركَ "دارَ قومي التي أَصبتُ"؛ أي: وجدتُ "فيها الذنبَ"، وإنما قال هذا؛ فراراً عن موضعٍ غلبَ عليه الشيطانُ بالذنب، وذَنْبُه كان مناصحتَه ليهود بني قُريظة؛ لمَّا أن عيالَه وأموالَه كانت في أيديهم، فنزلت في حقِّه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] فشدَّ نفسَه على ساريةٍ من سواري المسجد وقال: لا أذوقُ طعامًا ولا شرابًا حتى أموتَ، أو يتوبَ الله عليَّ.

فمكثَ سبعة أيام حتى خرَّ مغشيًا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تِيَب عليك، فحُلَّ نفسَك، فقال: لا، والله لا أحلُّها حتى يكونَ رسولُ الله عليه الصلاة والسلام هو الذي يحلُّني، فجاء عليه الصلاة والسلام فحلَّه بيده.

"وأن أنخلعَ من مالي كلَّه صدقةً" شكرًا لقَبول توبتي.

"قال: يُجزِئ"؛ أي: يَكفي "عنك الثلثُ"، وفيه: دليل الصوفية على إثبات الغرامة على أن من يذنب ذنبًا في الطريقة، ثم يستغفر.

* * *

2580 -

عن جابرِ بن عبدِ الله رضي الله عنه: أن رجلاً قالَ يومَ الفتح: يا رسولَ الله! إني نذرتُ إنْ فتحَ الله عليكَ مكَّةَ أنْ أُصلِّيَ في بيتِ المَقْدسِ ركعتينِ،

ص: 110

فقالَ: "صلِّ هاهنا"، ثم أَعادَ عليهِ فقال:"صل هاهنا"، ثم أَعادَ عليهِ فقالَ:"شَأنُكَ إذًا".

"عن جابر بن عبد الله: أن رجلاً قال يومَ الفتح: يا رسولَ الله! إني نَذرتُ إنْ فتحَ الله عليك مكةَ أن أصلِّيَ في بيت المقدس ركعتين، قال: صلِّ هاهنا"، فيه: دليل على أن الصلاةَ في مكةَ أفضلُ منها في بيت المقدس.

"ثم أعاد عليه "فقال: صلِّ هاهنا": نبَّهه صلى الله عليه وسلم على الأكمل مرتين، فلم يَقبَل، "ثم أعاد عليه فقال": تفويضًا الأمرَ إليه: "شأنك": نُصب بـ (الزم)؛ أي: الزمْ شأنَك.

"إذًا": جوابًا لقوله: (نذرت) هناك، وجزاء المقدَّر هنا تقديره: إذا صلَّيتَ هناك فقد خَرجتَ عن عُهدة نَذرِك.

* * *

2581 -

وعن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أن أختَ عُقْبَةَ بن عامرٍ نَذَرت أنْ تحُجَّ ماشيةً فسُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقيلَ إنها لا تطيقُ ذلكَ، فقال:"إنَّ الله لغنيٌّ عن مَشْي أُختِكَ، فلتَرْكبْ ولتُهْدِ بَدَنَةً".

وفي روايةٍ: "فأمَرَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ تَرْكَبَ وتُهدِيَ هَدْيًا".

وفي روايةٍ: قالَ النبيٌّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لا يَصْنَعُ بشقاءِ أختِكَ شيئًا، فلْتَحُجَّ راكِبَةً وتُكَفِّرَ يمينَها".

"عن عكرمة، عن ابن عباس: أن أختَ عقبة بن عامر نذرتْ أن تحجَّ ماشيةً، فسُئل النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وقيل: إنها"؛ أي: أختَ عقبةَ "لا تُطيق ذلك"؛ أي: الحجَّ ماشيًا.

ص: 111

"فقال: إن الله لغَنيٌّ عن مشي أختك، فَلْتَركَبْ": الفاء فيه جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ؛ يعني: إذا عجزتْ عن المشي فَلْتَركَبْ.

"وَلْتُهْدِ"؛ أي: لِتُرسِلْ.

"بَدَنةً" إلى مكة.

"وفي رواية: فأَمرَها النبي عليه الصلاة والسلام أن تركبَ وتُهدِيَ هَدْيًا".

"وفي رواية: قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يصنع بشقاءِ أختكِ"؛ أي: بتعبها ومشقتِها "شيئاً؛ فَلْتَحُجَّ راكبةً": الفاءُ جوابُ شرط مقدَّرٍ أيضًا.

"وتُكفِّرْ عن يمينها"، وفي بعض النسخ:"وَلْتُكفِّرْ".

* * *

2582 -

ورُوي: أن عُقْبَةَ بن عامرٍ رضي الله عنه سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أُختٍ له نذرَتْ أنْ تَحُجَّ حافيةً غيرَ مُخْتمِرَةٍ؟ فقال: "مروها فلْتَخْتَمِرْ ولتَركبْ، ولتَصمْ ثلاثةَ أيامٍ".

"ورُوي: أن عقبةَ بن عامر سأل النبيَّ عليه الصلاة والسلام عن أختٍ له نذرتْ أن تحجَّ حافيةً": حال من ضمير (تحج).

"غيرَ مُختمِرةٍ": حال بعد حال منه.

"فقال: مُرُوها فَلْتَختمِرْ وَلْتَركبْ، وَلْتَصُمْ ثلاثةَ أيام": أمَّا أمرُه عليه الصلاة والسلام إياها بالاختمار والاستتار فلأنَّ النذرَ لم ينعقد فيه؛ لأن ذلك معصيةٌ منها، وأمَّا نذرُها المشيَ حافيةً فالمشيُ قد يصحُّ فيه النذرُ، وعلى

ص: 112

صاحبه أن يمشيَ ما قَدِرَ عليه، وإذا عجزَ ركبَ وأَهدى هَدْيًا، فلعلها عجزتْ حتى أمرَها بالركوب، وأمَّا أمرُه بصيام ثلاثة أيام بدلاً من الهَدْي فخُيرتْ فيه كما خُير قاتلُ الصيد بين الفداء بمِثلِه إن كان له مِثل، وبين تقويمه وشراء طعام بقيمته وإطعام المساكين، وبين الصيام عن كل مُدٍّ يومًا.

* * *

2583 -

وعن سعيدِ بن المُسيبِ: أن أَخَوَيْنِ مِن الأنصارِ كانَ بينَهما ميراثٌ فسألَ أحدُهما صاحبَهُ القِسْمَةَ فقال: إنْ عُدْتَ تسألُني القِسْمَةَ فكلُّ مالي في رِتاجِ الكعبةِ، فقالَ لهُ عمرُ رضي الله عنه: إنَّ الكعبةَ غنيةٌ عن مالِكَ، كفِّرْ عن يمينِكَ وكلِّم أخاكَ، فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:"لا يمينَ عليكَ، ولا نذرَ في معصيةِ الربِّ، ولا في قَطيعةِ الرَّحِم، ولا فيما لا تملكُ".

"عن سعيد بن المسيب: أن أخوَين من الأنصار كان بينهما ميراثٌ، فسأل أحدُهما صاحبَه القِسمةَ، فقال: إن عُدتَ تسألُني القِسمةَ فكلُّ مالي في رِتَاجِ الكعبة": بكسر الراء المهملة؛ أي: بابها، لا يريد به نفس الباب، بل يريد: أن مالَه هَدْيٌ إلى الكعبة، فيضعُه منها حيث نَوَاه، كنَّى به عنها؛ لأنه منه يُدخَل إليها.

"فقال له عمر: إن الكعبةَ غنيةٌ عن مالك، كفِّرْ عن يمينك وكلِّم أخاك؛ فإني سمعتُ رسولَ الله عليه الصلاة والسلام قال: لا يمينَ عليك"؛ أي: لا يجب إبرارُ هذه اليمين عليك، وإنما عليك الكفارةُ، وهو قول أكثر الصحابة والعلماء، وعليه الشافعي في أصح أقواله.

قيل: قد كان عمرُ سمع النبيَّ عليه الصلاة والسلام يقول قولاً يدل على أنه لا يجب على مَن نَذَرَ مِثلَ هذا النذر وفاءٌ، فعبَّرَ عنه بعبارته، وعطفَ

ص: 113

عليه من حيث المعنى:

قولَه: "ولا نذرَ في معصية الربِّ، ولا في قطيعة الرَّحِم، ولا فيما لا يملك"(1).

° ° °

(1) جاء في نهاية النسخة الخطية المرموز لها بـ "م" ما نصه: "وقع الفراغ من تنميقِ النصف الأول من "شرح المصابيح" ومَشْقِه بعون الله تعالى وتوفيقه، على يد أفقر الورى وأحوج العباد الى عفو المولى خير بن محمد البلوي عفا عنهم وعن والديهم المَلِكُ العليُّ، في بلد بروسة، بمدرسة مرادي، حماها الله وسائرَ بلاد المسلمين عن الآفات والبلية، سنةَ ست وستين وألف مِن هجرةِ مَن له العزُّ والشرفُ، حامداً الله العليَّ الأعلى، ومصلِّياً على رسوله محمد المصطفى، وراجياً من العليم الخبير الميسِّر لكل عسير أن يوفّقني لإتمام النصف الأخير، ويرزقَني العمل بما يحتويه الأول والأخير، من السنن الواردة من البشير النذير، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير".

ص: 114