الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فخذوا"، وأما إذا لم يكن قد شُرِط عليهم، والنازلُ غير مضطر، فلا يجوز أخذ مال الغير بغير طيبة نفس منه.
قال أبو عيسى: معنى الحديث: أنهم كانوا يخرجون في الغزو، فيمرون بقوم، ولا يجدون من الطعام ما يشترون بالثمن، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن أبوا أن يبيعوا إلا أن تأخذوا كرهًا فخذوا"، هكذا روي في بعض الحديث مفسَّرًا.
* * *
10 - باب الصُّلحِ
(باب الصلح)
مِنَ الصِّحَاحِ:
3083 -
عن المِسْوَر بن مَخْرَمَة ومَرْوانَ بن الحَكَم قالا: خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عامَ الحُدَيْبيةِ في بِضْعَ عَشْرَةَ مئةً منْ أصحابهِ، فلما أتى ذا الحُلَيْفةِ قلَّدَ الهَدْي وأَشْعَرَه وأحرمَ منها بعُمرةٍ، وسارَ حتَّى إذا كانَ بالثَّنيَّةِ التى يُهبَطُ عليهمْ مِنها بَرَكَتْ به راحلتُه، فقال النَّاسُ: حَلْ حَلْ خَلأَتِ القَصْواءُ خلأَتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" ما خلأتِ القَصْواءُ وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حَبَسَها حابسُ الفيلِ"، ثم قال:" والذى نَفْسي بيدِهِ لا يَسْألوني خُطَّةً يُعَظِّمون فيها حُرُماتِ الله إلا أعْطَيْتُهم إيَّاها". ثمَّ زَجَرَها فوثَبتْ، فعَدَلَ عنهمْ حتَّى نزَلَ بأقصَى الحُدَيْبيةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ يتَبَرَّضه النَّاسُ تَبرُّضًا، فلم يُلَبثْهُ الناسُ حتَّى نزَحوهُ وشُكِيَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم العَطَشُ، فانتَزَعَ سَهْمًا من كِنانتِهِ ثمَّ أمرَهمْ أنْ يَجعلوهُ فِبهِ، فَوَالله ما زالَ يَجيشُ لهم بالرِّيِّ حتَّى صَدَروا عنهُ، فبَيْنما هُمْ كذلك إِذْ جاءَ بُدَيْلُ ابن وَرْقاءَ الخُزاعيُّ في نَفَرٍ مِنْ خُزاعةَ، ثم أتاه عُرْوةُ بن مسعودٍ وساقَ الحديثَ
إلى أنْ قال: إذْ جاء سُهيلُ بن عَمْرٍو، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اكتُبْ هذا ما قاضى عليهِ مُحمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ". فقال سُهيل: والله لو كنَّا نَعلمُ أنَّكَ رسولُ الله ما صَدَدْناكَ عن البيتِ ولا قاتَلْناك، ولكن اكتُبْ محمدُ بن عبْدِ الله، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"والله إنِّي لَرسولُ الله وإنْ كذَّبتُموني، اكتُبْ محمدُ بن عبدِ الله ". فقال: سُهيل: وعلى أنْ لا يأْتِيكَ منَّا رجُل وإنْ كانَ على دينكَ إلَّا ردَدْتَهُ علينا. فلما فَرَغَ مِنْ قضيَّةِ الكِتابِ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصْحابهِ: "قوموا فانحَرُوا ثمَّ احْلقُوا". ثم جاء نِسوةٌ مؤْمِناتٌ، فأنزلَ الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ. . .} [الممتحنة: 10] الآية. فنهاهُم الله عز وجل أنْ يَردُّوهُنَّ وأَمَرهُم أَنْ يَرُدُّوا الصَّداقَ. ثم رَجَعَ إلى المدينةِ فجاءَهُ أبو بَصيرٍ رجلٌ منْ قُرَيْشٍ وهو مُسلمٌ فأرسَلوا في طَلَبهِ رَجُلَيْنِ، فدفعَهُ إلى الرَّجُلَين، فخَرجا بهِ حتَّى بَلَغا ذَا الحُلَيْفة نزلُوا يأكُلونَ منْ تمرٍ لهمْ، فقال أبو بَصيرٍ لأحدِ الرجُلَين: والله إنِّي لأَرى سَيفَكَ هذا يا فُلانُ جيدًا، فَأَرِنى أنظُرْ إليهِ، فأمْكَنَهُ منهُ، فضَرَبَهُ حتَّى بَرَدَ، وفرَّ الآخَرُ حتَّى أتى المدينةَ، فدخَلَ المَسجدَ يَعْدو، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لقد رأَى هذا ذُعْرًا". فقالَ: قُتِلَ والله صاحِبي وإنّي لَمقتولٌ. فجاءَ أبو بَصيرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وَيلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَربٍ لو كانَ لهُ أحدٌ". فلمَّا سمعَ ذلكَ عَرَفَ أنَّهُ سيَرُدُّهُ إليهمْ، فخَرَجَ حتَّى أتى سِيفَ البحرِ، قال: وتَفَلَّتَ أَبو جَنْدَلِ بن سُهيلٍ فلَحِقَ بأبي بَصيرٍ، فجعلَ لا يخرجُ من قُرَيشٍ رجل قد أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بأَبى بَصيرٍ، حتَّى اجتمعَتْ منهُمْ عِصابة، فوالله ما يَسْمعونَ بعِيرٍ خَرَجَتْ لقُرَيْشٍ إلى الشّامِ إلَّا اعترَضُوا لها، فقَتَلُوهم وأَخَذوا أموالَهم، فأرسلَتْ قُريشٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُناشِدُهُ الله والرَّحِمَ لمَّا أرسلَ، فمنْ أتاهُ فهوَ آمِنٌ، فأرسلَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
"من الصحاح":
" عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام
الحديبية): بتخفيف الياء، وكثير من المحدثين يشددونها، وهي قرية قريبة من مكة خارجة من الحرم.
"في بضع"؛ أي: مع بضع.
"عشرة مئة من أصحابه" نصب (مئة) على التمييز.
وروي عن كثير من الصحابة: أنهم كانوا ألفًا وأربع مئة رجل.
"فلما أتى ذا الحُليفة": موضع على ميل من المدينة.
"قلَّد الهدي"، تقليده: أن يعلق شيء على عنق البدنة؛ ليعلم أنها هدي.
"وأشعر"، إشعار الهدي: أن يُطعَن في سنامه الأيمن حتى يسيلَ منه الدم؛ ليعلم أنه هدي.
"فأحرم منها"؛ أي: من ذي الحليفة.
"بعمرة، وسار حتى إذا كان بالثنية": وهي الجبل الذي عليه الطريق.
"التي يهبط عليهم"؛ أي: ينزل على قريش؛ أعني: أهل مكة.
"منها"؛ أي: من تلك الثنية.
"بركت به راحلته"؛ أي: استناخت ناقته بالنبي صلى الله عليه وسلم، والباء للمصاحبة؛ أي: في الحالة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم على ظهر راحلته.
"فقال الناس: حَلْ حَلْ" بالحاء المهملة المفتوحة واللام الخفيفة: كلمة زجر للبعير إذا حثثته على السير، والثانية تأكيد في الزجر، وتنون الأولى إذا وصلت بالأخرى، والمحدثون يسكِّنونها في الوصل.
"خلأت القصواءُ"؛ أي: حَرَنَت وبركت من غير علة، والقصواء: الناقة المقطوع طرف أذنها.
قال الجوهري: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى قصواء، ولم تكن مقطوعة الأذن.
"فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: ما خَلأَت القصواءُ، وما ذاك لها بخلق" بضم الخاء واللام.
"ولكن حبسها حابسُ الفيل"؛ أي: منعها من السير - كيلا تدخلَ مكة - مَنْ منع أصحاب اللَّيل من مكة، وهو الله؛ لئلا تقع محاربة وإراقة دم في الحرم قبل أوانه.
"ثم قال: والذي نفس محمد بيده، لا يسألونني"؛ أي: لا تطلب أهل مكة مني "خُطَّة": وهي - بضم الخاء المعجمة - الأمر العظيم، أريد به: المصالحة.
"يعظمون فيها حرمات الله": جمع حرمة، كـ (ظلمات)، أراد بها: حرمة الحرم والإحرام والشهر بالكفِّ فيها عن القتال.
"إلا أعطيتهم إياها"؛ أي: تلك الخطة المسؤولة، عبَّر عن المستقبل بالماضي مبالغة.
"ثم زجرها"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم تلك الناقة.
"فوثبت"؛ أي: طفرت.
"فعدل عنهم"؛ أي: انحرف صلى الله عليه وسلم ومال عن أصحابه، وذهب أمامهم، وتوجَّه غير جهة أهل مكة.
"حتى نزل بأقصى الحديبية على ثَمَدٍ" بفتح الثاء والدال المهملة؛ أي: على ماء قليل، وإنما وصفه بقوله:"قليل الماء"؛ إرادة للتأكيد، والمراد هنا: البئر.
"يتبرَّضُه الناس تبرُّضًا"؛ أي: يأخذونه قليلًا قليلًا، أو يشربونه كذلك.
"فلم يلبثه الناس"؛ أي: فلم يجعلوا لبثَ ذلك الماء طويلًا في تلك البئر.
"حتى نزحوه"؛ أي: نزعوه، وأفرغوه منها عن قريب.
"وشكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته": وهي التي يجعل فيها السهام.
"ثم أمرهم أن يجعلوه فيه"؛ أي: ذلك السهم في البئر.
"فو الله ما زال يجيشُ"؛ أي: يفور ويرتفع ويمتد.
"لهم بالري" متعلق بـ (يجيش)؛ أي: بماء يرويهم.
"حتى صدروا عنه"؛ أي: رجعوا عن ذلك الماء راضين، فما لهم حاجةٌ إلى الماء.
"فبينما هم كذلك إذ جاء بُدَيل" - بصيغة التصغير والتخفيف - "ابن ورقاء الخزاعي": بضم الخاء المعجمة.
"في نفر من خزاعة" بعثه أهل مكة بالرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
"ثم أتاه عروة بن مسعود، وساق الحديث" من كلام المؤلف أو الراوي؛ أي: ساق الراوي هذا الحديث طويلًا.
"إلى أن قال: إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أكتب هذا ما قاضى عليه" من (المقاضاة)؛ لأن القضية كانت بينه وبين أهل مكة، من (قضى الحاكم): إذا فصل في الحكم؛ أي: هذا ما صالح عليه.
"محمد رسول الله" مع أهل مكة.
"فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت"؛ أي: ما منعناك عن زيارة الكعبة.
"ولا قاتلناك، اكلتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله، فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك" معطوف على مقدر؛ أي: أكتب: على أن تأتينا من القابل، وعلى أن [لا] يأتيك.
"منا رجل"، وروي:(واحد) مكان رجل.
"وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فلما فرغ من قضية الكتاب"؛ أي: من حكم كتبة كتاب الصلح.
"قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأصحابه: قوموا فانحروا"؛ أي: اذبحوا.
"ثم احلقوا"، وهذا يدل على أن مَنْ أحرم بحج أو عمرة، ثم منع عن إتمامهما، فإنه ينحر الهدي في مكانه الذي أُحصِر فيه، ويفرِّقُ اللحمَ على مساكين ذلك الموضع، ويحلق، ويتحلل من إحرامه، وإن لم يبلغ هديه الحرم.
"ثم جاء"؛ أي: من جانب الكفار.
"نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية، فنهاهم الله تعالى أن يردوهن"، اختلفوا في دخولهن في شرطهم مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: على أن لا يأتيك منا أحد؛ قيل: لم يدخلن في ذلك الشرط؛ لأن المراد: الرجال، فعلى هذا لا إشكال في عدم ردهن.
وقيل: يدخلن في الشرط؛ لأن لفظ (أحد) يتناولهن، فتكون الآية ناسخةٌ لذلك.
"وأمرهم أن يردوا الصداق"؛ أي: ما أعطاهن أزواجهن من الصداق إذا جاؤوا في طلبهن، إن كانوا قد سلَّموا الصداق إليهن، وإلا لا يُعطَون شيئًا.
"ثم رجع"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم.
"إلى المدينة، فجاءه أبو بَصير" - بفتح الباء - "رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا"؛ أي: أهل مكة.
"في طلبه رجلين، فدفعه"؛ أي: ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بصير" إلى الرجلين،
فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة، نزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، أرنى أنظرْ إليه، فأمكنه منه"؛ أي: رفع السيف إلى أبي بصير.
"فضربه"؛ أي: أبو بصير ذلك الكافر.
"حتى برد"؛ أي: مات، وسكنت منه حركة الحياة، وهذا من إطلاق اللازم على الملزوم.
"وفرَّ الآخرُ حتى أتى المدينة، فدخل المسجدَ يعدو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد رأى هذا ذُعراً"؛ أي: خوفًا.
"فقال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول"؛ يعني: لو لم أفرَّ دنوت أن أقتل.
"فجاء أبو بصير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويلَ أمه": بالنصب على المصدر، وبالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، معناه في الأصل: الحزن والمشقة والهلاك، وقد يراد به التعجب، وهو المراد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم تعجَّب من حسن نهضته للحرب، وجودة معالجته لها.
"مِسْعَرُ": بكسر الميم وسكون السين وفتح العين، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو مسعر "حرب": وهو الذي يحمي الحرب، ويهيج الشر، وسعرت النار والحرب؛ أي: أوقدتها، والمسعر والمسعار: ما تحرَّك به النار، يصفه بالمبالغة في الحرب والنجد [ة].
"لو كان له أحدٌ"؛ أي: لأبي بصير صاحبٌ ونصيرٌ ينصره، وقيل: معناه: لو كان له أحدٌ يعرفه أن لا يرجَع إليَّ حتى لا أرده إليهم، وهذا أنسبُ بسياق الحديث.
"فلما سمع"؛ أي: أبو بصير "ذلك" القولَ من النبي صلى الله عليه وسلم.
"عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سِيْفَ البحر" بكسر السين وسكون الياء؛ أي: ساحل البحر.
"قال"؛ أي: الراوي.
"وانفلت"؛ أي: ففرَّ.
"أبو جندل بن سهل" من أيدي المشركين.
"فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجلٌ قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عِصابةٌ": بكسر العين؛ أي: جماعة.
"فو الله ما يسمعون بعِيرٍ": وهي - بكسر العين المهملة وسكون الياء -: الإبل، وقيل: الحمير أيضًا بأحمالها، والمراد هنا: القافلة.
"خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها"؛ أي: استقبلوا عليهم بالمحاربة.
"فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريشٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحمَ"؛ أي: يحلفونه بالله وبحق القرابة التي بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم.
"لما أرسل ": بتشديد الميم بمعنى: ألا؛ أي: لا يعاملهم بشيء إلا بإرساله "إليهم"؛ أي: إلى أبي بصير وأتباعه أحدًا، وردهم إلى المدينة؛ كيلا يتعرضوا لهم في سبيلهم.
"فمن أتاه"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين منهزمًا من أيدي الكفار.
"فهو آمن": من طلبهم له، ومن عدم رده صلى الله عليه وسلم إليهم.
"فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم "، وردهم إلى المدينة.
* * *
3084 -
عن البراءَ بن عازِبٍ قال: صالحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المُشْرِكينَ يومَ
الحُدَيْبيةِ على ثلاثةِ أشياءَ: على أَنَّ مَنْ أتاهُ مِنَ المُشركينَ ردَّهُ إليهِمْ، ومَنْ أتاهُمْ مِنَ المُسلمينَ لم يَرُدُّوه. وعلى أنْ يدخُلَها مِنْ قابلٍ ويُقيمَ بها ثلاثةَ أَيَّامٍ، ولا يدخُلَها إلَّا بجُلُبَّانِ السِّلاحِ: السَّيْفِ والقَوسِ ونحوه. فجاءَ أبو جَندَلٍ يَحْجُلُ فِى قُيودِهِ فردَّهُ إليهمِ.
"عن البراء بن عازب قال: صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين ردَّه إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم مكة.
"من قابلٍ"؛ أي: في السنة القابلة.
"ويقيم بها"؛ أي: بمكة.
"ثلاثة أيام، ولا يدخلها إلا بجُلبَّان السلاح" بضم الجيم واللام وتشديد الباء: وهو جراب من أديم يُوضَع فيه السيف مغمودًا، ويطرح فيه السوط والآلات، فيعلَّق من آخرة الرجل، ومن عادة العرب أن لا يفارقهم السلاح في السلم والحرب.
"السيف": بدل من (السلاح).
"والقوس ونحوه": والمراد: أنهم لا يدخلون مكة كاشفي سيوفهم متأهبين للحرب، وإنما شرطوه ليكون إمارةً للسلم، فلا يُظَنَّ أنهم دخلوها قهرًا، واشتراطُهُ صلى الله عليه وسلم لهذه الشروط كان لضعف حال المسلمين وعجزهم عن مقاومة الكفار ظاهرًا.
"فجاء أبو جندل"؛ بن سهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة متفلتًا منهم بعد أن أخذه أهل مكة، وقيَّده لإسلامه.
"يَحْجُلُ" بفتح الياء وسكون الحاء قبل الجيم المضمومة: هو مشي المقيد.
"في قيوده"؛ أي: يمشي كمشي الأعرج؛ لقيد رجله.
"فرده إليهم": فإنه لما رده صلى الله عليه وسلم وفاء بشرطه، انفلت كرة أخرى، فجاء سيف البحر، ولحق أبا بصير، كما ذكر.
* * *
3085 -
وعن أنسٍ: أنَّ قُرَيْشًا صالَحُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَنْ جاءَنا منكُمْ لم نَرُدَّهُ عليكُمْ، ومَنْ جاءكمْ منَّا رَدَدْتُمُوهُ علينا، فقالوا يا رسُولَ الله! أَنَكْتُبُ هذا؟ قالَ:"نعَمْ، إنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إليهمْ فَأَبْعَدَهُ الله، ومَنْ جاءَنا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ الله لهُ فَرَجًا ومَخْرَجًا".
"وعن أنس - رضي الله تعالى عنه -: أن قريشًا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم، فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم على أنَّ من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، قالوا"؛ أي: الصحابة لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - استبعادًا لهذه الشرط.
"يا رسول الله! أتكتب هذا؟ قال: نعم؛ إنه من ذهب منا إليهم"؛ أي: إلى الكفار واختار دينهم.
"فأبعده الله"؛ لأنه مرتد.
"ومن جاءنا منهم"؛ أي: من أهل مكة بعد أن أسلم، ثم رددناه وفاءً بالعهد.
"سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا"؛ أي: خروجًا؛ يعني: سوف يخلِّصه الله من أيديهم.
* * *
3086 -
وقالت عائِشَةُ في بَيْعَةِ النِّساءِ: إنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَمتحِنُهُنَّ بهذِه الآية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ
…
} [الممتحنة: 12] الآية، فمَنْ أَقَرَّتْ بهذا الشَّرْطِ منْهُنَّ قال لها:"قدْ بايَعْتُكِ" كلامًا" يُكَلِّمُها بهِ، والله ما مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امرأةٍ قطُّ في المُبايَعَة.
"وقالت عائشة في بيعة النساء: إن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يمتحنهنَّ بهذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12]، فمن أقرت بهذا الشرط منهن، قال لها: قد بايعتك كلامًا": نصب على أنه مصدر (قال) من غير لفظه.
"يكلمها به"؛ أي: بعقد المبايعة، أو بذلك الكلام.
"والله ما مسَّت يده يدَ امرأة قطُّ في المبايعة".
* * *
مِنَ الحِسَان:
3087 -
عن المِسْوَرِ ومروانَ: أنَّهم اصْطَلَحُوا على وضْعِ الحَرْبِ عَشْرَ سنين يأمَنُ فيهِنَّ النَّاسُ، وعلى أنَّ بَيْننا عَيْبةً مَكفوفةً، وأنَّهُ لا إسْلالَ ولا إغلالَ.
"من الحسان":
" عن المسور ومروان أنهم"؛ أي: أهل مكة.
"اصطلحوا"؛ أي: صالحوا مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -.
"على وضع الحرب"؛ أي: على ترك المحاربة.
"عشر سنين": قال الشافعي: أقصى المدة التي تُصالَح الكفارُ فيها عند الضعفِ عشرُ سنين، وقيل: إلى أربع سنين، وقيل: إلى ثلاث سنين، وقيل: لا حدَّ له معلوم، بل بحسب ما يراه الإمام.
وأما في حال قوة الإسلام؛ فلا يصالحون سنة بلا جزية، ويجوز إلى أربعة أشهر، ولو صُـ[ـو] لحوا إلى مدة - على أنه لو بدا لنا النقضُ فعلنا - جاز.
ولا يصالحهم الإمام عند ضعفنا على النساء خشيةَ إصابة المشركين إياها، وخشية ردتها إذا خُوِّفت أو أكرهت. لضعف قلبها، وقلة هدايتها إلى التورية بكلمة الكفر بخلاف الرجل.
"يأمن فيهن الناس، وعلى أن بيننا عَيْبة": وهي - بفتح العين المهملة ثم السكون -: ما يجعل فيه الثياب.
"مكفوفة"؛ أي: مشدودة؛ يعني: يُحفَظُ العهد والشرط ولا ننقضه، كما يُحفظ ما في العيبة بشد رأسها؛ يعني: لا تُذكَر العداوة التي كانت بيننا قبل هذا، ولا ينتقم بعضنا بعضًا، فكان بيننا صدر سليم وعقائد صحيحة في المحافظة على العهد الذي عقدناه بيننا.
"وأنه لا إسلالَ"؛ أي: لا سرقة.
"ولا إغلالَ"؛ أي: ولا خيانة؛ يعني: لا يأخذ بعضنا مال بعض؛ لا في السر، ولا في العلانية.
وقيل: الإسلال: من سل السيوف، والإغلال: لبس الدروع؛ أي: لا يحارب بعضنا بعضًا، فلما مضى بعد هذا الصلح ثلاثُ سنين، نقضوا عهدهم بإعانتهم بني بكر على حرب خزاعة حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحاربُ حليف الشخص كمحارب ذلك الشخص.
* * *
3088 -
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا مَنْ ظَلَمَ مُعاهدًا أو انتقَصَهُ، أو كلَّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، أو أخذَ منهُ شيئًا بغيرِ طيبِ نَفْسٍ، فأنا حَجيجُهُ يومَ القِيامَةِ".
"وقال: ألا مَنْ ظلم معاهدًا أو انتقضه": بالضاد المعجمة؛ أي: نقض من الأجل المضروب لأمنه وأمانه، أو بالصاد المهملة؛ أي: انتقص حقه.
"أو كلفه فوق طاقته": بأن أخذ جزيته أكثر مما يطيق أداءه إن كان ذميًا، وفوق عشر مال تجارته إن كان حربيًا جاء للتجارة، وجرى بيننا وبينه عهد.
"أو أخذ منه شيئًا بغير طيبة نفس، فأنا حجيجُهُ يوم القيامة"؛ أي: محاججه؛ مبالغة في إظهار الحجة عليه، والحجة: الدليل.
* * *
3089 -
عن أُمَيْمةَ بنتِ رُقَيقةَ قالت: بايعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نِسْوَةٍ، فقال لنا: فيما اسْتَطَعْتُنَّ وأطَقْتُنَّ. قلتُ: الله ورسُولُهُ أرحَمُ بنا مِنَّا بأنفُسِنا، قلتُ: يا رسُولَ الله! بايعْنا، تعني: صافِحْنا، قال:"إنَّما قَوْلي لمئةِ امرأَةٍ كقَوْلي لامرأةٍ واحِدةً".
"عن أُمَيمة بنت رُقَيقة قالت: بايعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نسوة"؛ أي: مع نسوة.
"فقال لنا: فيما استطعتن": متعلق بمحذوف؛ أي: أبايعكن فيما استطعتن.
"وأطقتن": كأنه صلى الله عليه وسلم أشفق عليهن حيث قيَّد المبايعة في التكاليف بالاستطاعة.
"قلت: الله ورسوله أرحمُ بنا منا بأنفسنا، قلت: يا رسول الله! بايعنا؛ تعني: صافحنا"؛ يعني: فرع يدك يزيد كل واحدة منا.
"قال: إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة": فإن قلت: كيف طابق قوله: "إنما قولي" جوابًا عن قولها: صافحنا؛ لأنها طلبت المصافحة باليد، وأجابها بالقول؟
قلت: هذا ردٌّ لقولها: (صافحنا) بوجهين: