المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌17 - كتاب الجهاد - شرح المصابيح لابن الملك - جـ ٤

[ابن الملك]

فهرس الكتاب

- ‌10 - باب عشرةِ النِّساءِ وما لكلِّ واحدةِ من الحقوقِ

- ‌11 - باب الخُلعِ والطلاقِ

- ‌12 - باب المُطلَّقَةِ ثلاثًا

- ‌فصل

- ‌13 - باب اللِّعَانِ

- ‌14 - باب العِدَّة

- ‌15 - باب الاستبراء

- ‌16 - باب النَّفقاتِ وحَقّ المَملوكِ

- ‌17 - باب بلوغِ الصَّغيرِ وحضانتهِ في الصِّغَرِ

- ‌13 - كِتابُ العِتِقْ

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب إعتاقِ العَبْدِ المُشتَرَك وشراءِ القريبِ والعتقِ في المَرَضِ

- ‌3 - باب الأيمانِ والنذورِ

- ‌فصل في النُّذورِ

- ‌14 - كِتَابُ القِصَاص

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب الدِّيَاتِ

- ‌3 - باب ما لا يُضْمَنُ من الجنايات

- ‌4 - باب القَسامة

- ‌5 - باب قتلِ أهل الرِّدةِ والسّعاةِ بالفسادِ

- ‌15 - كتاب الحدود

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب قطع السرقة

- ‌3 - باب الشَّفاعةِ في الحُدودِ

- ‌4 - باب حدَّ الخمرِ

- ‌5 - باب لا يُدْعى على المَحدودِ

- ‌6 - باب التَّعْزيرِ

- ‌7 - باب بيانِ الخَمْرِ ووعيدِ شاربها

- ‌16 - كِتابُ الإِمَارَة وَالقَضَاءِ

- ‌1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ:

- ‌2 - باب ما على الوُلاةِ من التيسيرِ

- ‌3 - باب العَملِ في القضاءِ والخَوفِ منهُ

- ‌4 - باب رزقِ الوُلاةِ وهداياهم

- ‌5 - باب الأقضيةِ والشَّهاداتِ

- ‌17 - كِتابُ الجِهَاد

- ‌2 - باب إعدادِ آلةِ الجِهادِ

- ‌3 - باب آدابِ السَّفَرِ

- ‌4 - باب الكتابِ إلى الكُفَّارِ ودعائِهم إلى الإسلامِ

- ‌5 - باب القِتالِ في الجهادِ

- ‌6 - باب حُكْمِ الأُسارىَ

- ‌7 - باب الأمانِ

- ‌8 - باب قِسْمَةِ الغنائمِ والغُلولِ فيها

- ‌9 - باب الجزية

- ‌10 - باب الصُّلحِ

- ‌11 - باب الجلاء: إخراجِ اليهودِ من جزيرةِ العَرَبِ

- ‌12 - باب الفَيْء

- ‌18 - كِتَابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِح

- ‌2 - باب (باب ذكر الكلب)

- ‌3 - باب ما يحلّ أكلُه وما يحرُمُ

- ‌4 - باب العقِيقةِ

- ‌19 - كِتابُ الأَطْعِمَةِ

- ‌2 - باب الضيافَةِ

- ‌فصل

- ‌3 - باب الأشرِبةِ

- ‌4 - باب النَّقيعِ والأنبذةِ

- ‌5 - باب تغطيةِ الأواني وغيرِها

الفصل: ‌17 - كتاب الجهاد

‌17 - كِتابُ الجِهَاد

ص: 301

17 -

كِتَابُ الجهَاد

(كتاب الجهاد)

مِنَ الصِّحَاحِ:

2854 -

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آمَنَ بالله وَبرَسُولِهِ، وأقامَ الصلاةَ، وصامَ رمضانَ، كانَ حَقًّا على الله أَنْ يُدْخِلَهُ الجنَّةَ، جاهدَ في سبيلِ الله أو جَلَسَ في أرضهِ التي وُلِدَ فيها"، قالوا: أفلا نبُشِّرُ الناسَ؟ قال: "إنَّ في الجَنَّةِ مئةَ درجةٍ أعدَّها الله للمُجاهِدِينَ في سبيلِ الله، ما بين الدَّرجتَيْنِ كما بيْنَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سَأَلتمُ الله فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّه أَوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعلى الجَنَّةِ، وفوقَهُ عَرْشُ الرَّحمَنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ".

"من الصحاح":

" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان" خصَّهما بالذكر من بين العبادات البدنية تنبيهًا على عظم شأنهما، وتحريضًا عليهما؛ لصعوبة موقعهما على الطباع، ومَن راعاهما على كونهما أشق لا يترك غيرهما غالبًا.

"كان حقًا على الله"؛ أي: ثابتًا عليه بوعده الصدق.

"أن يدخله الجنة" بمزيد رفع الدرجات، أو بالتجاوز عن السيئات.

"جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها" وإنما سوى صلى الله عليه وسلم -

ص: 303

بين الجهاد في سبيله تعالى، وبين عدمه في دخول الجنة؛ لأنه فرض كفاية.

وروي: (هاجر) مكان (جاهد)، وهذا يدل على أن الحديث صَدَرَ بعد فتح مكة؛ لأن الهجرة قبله كانت فريضة لكل مؤمن؛ ليجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وينصروا دينه.

"قالوا: أفلا نبشر الناس، قال: إن في الجنة مئة درجة" المراد بالمئة هنا الكثرة، وبالدرجة: المرقاة.

"أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله" وهم الغزاة والحجَّاج (1)، أو الذين جاهدوا أنفسَهم لمرضاة ربهم.

"ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" قال القاضي: يحتمل أن تجري الدرجات على ظاهرها محسوسًا كما جاء في أهل الغرف أنهم يتراءون كالكوكب الدري، وأن يجري على المعنى، والمراد: كثرة النعم وعظم الإحسان مما لم يخطر على قلب بشر.

"فإذا سألتم الله"؛ أي: إذا سألتم على الجهاد من الله تعالى درجةً من درجات الجنة المعدة للمجاهدين.

"فاسألوا الفردوس" وهو بستان في الجنة جامعٌ لأصناف الثمر.

"فإنه أوسط الجنة"؛ أي: أفضلها وأشرفها.

"وأعلى الجنة" وضع المُظْهَر موضع المضمر؛ أي: أعلاها.

"وفوقه عرش الرحمن" وهذا يدل على أنه فوق جميع الجنان.

"ومنه"؛ أي: من الفردوس "تفجَّر"؛ أي: تتفجر "أنهار الجنة" وهي أربعة مذكورة في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ

(1) في "غ": "أو الحجاج".

ص: 304

وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] المراد منها أصول أنهار الجنة.

* * *

2855 -

وقال: "مَثَلُ المُجَاهِدِ في سَبيلِ الله كمثلِ الصائمِ القائمِ القانِتِ بآياتِ الله، لا يَفْتُرُ مِن صِيامٍ ولا صَلاةٍ حتى يرجِعَ المُجاهدُ في سَبيلِ الله".

"وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه تعالى عليه وسلم: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم بالليل القانت بآيات الله"؛ أي: القارئ للقرآن في صلاته، أو طويل القيام في الصلاة، وهو أخصُّ من القائم.

"لا يَفْتُر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله" هذا مِن وَضْعِ الظاهر موضع المضمَر.

* * *

2856 -

وقالَ: "انتدَبَ الله لِمَن خَرجَ في سَبيلهِ لا يُخْرِجُه إلا إيمانٌ بي، وتصدِيقٌ برُسُلِي، أنْ أُرْجِعَهُ بما نالَ مِن أجْرٍ أو غَنِيمةٍ، أو أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ".

"وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: انتدب الله"؛ أي: أجاب أو تكفَّل.

"لمن خرج في سبيله" قائلًا: "لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي" فالجملة معمولٌ لقول هو حال عن (الله).

"أن أرجعه" بدل عن (من خرج)، أو ضمِّن (انتدب) معنى ضَمِنَ، فيكون مفعوله؛ أي: ضمن الله لمن خرج في سبيله أن يرجعه سالمًا.

"بما نال من أجر أو غنيمة" معناه: مع ما حصل له من الأجر بلا غنيمة إن لم يغنموا، أو مع الأجر والغنيمة إن غنموا، وروي:(من أجر وغنيمة) بالواو

ص: 305

أيضًا، وهذه أولى.

"أو أدخله الجنة".

* * *

2857 -

وقال: "والذي نفسِي بيدِهِ، لو أَنَّ رِجَالًا مِن المؤمنينَ لا تطيبُ أنفسُهم أنْ يتخلَّفوا عني، ولا أجدُ ما أَحمِلُهم عليه، ما تَخلَّفتُ عن سَرِيَّةٍ تَغْزو في سَبيلِ الله، وقال: والذي نفسِي بيدِهِ، لَوَدِدْتُ أنِّي أُقْتَلُ في سَبيلِ الله ثم أُحيا، ثم أُقْتَلُ ثم أُحيَا، ثم أُقْتَل ثم أُحْيَا ثم أُقْتَلُ".

"عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والذي نفسي بيده لولا أن رجالًا من المؤمنين" والمراد بعض أصحابه الفقراء.

"لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني" لعدم مركوبهم.

"ولا أجد ما أحملهم عليه"، وجواب (لولا):"ما تخلفت عن سرية" وهي طائفةٌ من الجيش يبلغ أقصاها أربع مئة.

"تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت" واللام جواب القسم؛ أي: تمنيت "أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" وفيه فضل الجهاد، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يترك أحيانًا رفقًا بالمؤمنين الدين لا مركب لهم.

* * *

2858 -

وقال: "رِبَاطُ يومٍ في سَبيلِ الله خيرٌ مِن الدُّنيَا وما فيها".

"وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رباط يوم" بكسر الراء: المرابطة، وهو ملازمة ثغر العدو.

ص: 306

وقيل: هو أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في ثغرهم؛ ليكون كل واحد منهم معدًا لصاحبه معترضًا لقصده.

"في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها" من المال.

* * *

2859 -

وقال: "لَغَدوَةٌ في سَبيلِ الله أو رَوْحَةٌ خيرٌ مِن الدُّنيَا وما فيها".

"وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لغدوة" بفتح الغين: الذهاب في أول النهار واللام للابتداء.

"في سبيل الله أو روحة" بفتح الراء: الذهاب في آخره.

"خير من الدنيا وما فيها" معناه: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله وثوابُها خير من نعيم الدنيا كلها؛ لأنه زائل، ونعيم الآخرة باقٍ.

* * *

2860 -

وقال: "رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صِيامِ شَهرٍ وقِيامِهِ، وإنْ مَاتَ جَرَى عليهِ عَمَلُه الذي كانَ يعمَلُهُ، وأُجْرِيَ عليهِ رِزقُهُ، وأَمِنَ الفَتَّانَ".

"وعن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات"؛ أي: المرابط؛ لدلالة الرباط عليه.

"جرى عليه عمله الذي كان يعمله" من الجهاد لو لم يمت، فإنه رابَطَ ليجاهد؛ يعني: يُعطَى ثواب الجهاد، فيعطَى ثواب عمله ناميًا غير منقطع إلى يوم القيامة.

"وأجري عليه رزقه" وهو الرزق الموعود للشهداء، كما قال الله تعالى:

ص: 307

{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 169، 170].

"وأمن الفتان" بفتح الفاء مفرد من الفَتْن: الابتلاء والامتحان.

قيل: أراد به منكرًا ونكيرًا؛ أي: يَسْهُلُ عليه جوابهما. وقيل: الشيطان فإنه يفتن الناس بخدعه وغروره، وقيل: الدجال لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بك من فتنة المسيح الدجال".

ويروى بضم الفاء جمع فاتن، وهم المضلُّون الناس عن الحق.

* * *

2861 -

وقال: "ما اغبَرَّت قَدَمَا عبدٍ في سَبيلِ الله فتمسَّهُ النَّارُ".

"وعن أبي عبس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما اغبرت قدما عبد"؛ أي: صارا ذا غبرة.

"في سبيل الله فتمسه النار"؛ يعني: من يصل إليه غبار الغزو لم تصل إليه نار جهنم.

* * *

2862 -

وقال: "لا يجتَمعُ كافِرٌ وقاتِلُهُ في النَّارِ أبَدًا".

"وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يجتمع كافر وقاتله" أراد به المؤمن الذي قتله لإعلاء كلمة الله.

"في النار أبدًا" فإن جهاده ذلك إن كان مكِّفرًا لجملة ذنوبه فلا إشكال، وإلا فيجوز أن يعاقب بغير دخول النار كالحبس في موضع آخر.

* * *

ص: 308

2863 -

وقال: "مِن خَيْرِ مَعاشِ النَّاسِ لَهم، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فرسِهِ في سَبيلِ الله يطيرُ على مَتْنِهِ، كلما سَمعَ هَيْعةً أو فَزْعَةً طارَ عليه يبتغي القتلَ والمَوتَ مَظَانَّةٌ، أو رَجُل في غُنَيْمَةٍ في رأسِ شَعَفَةٍ مِن هذهِ الشَّعَفِ أو بطنِ وادٍ من هذه الأودِيةِ، يُقيمُ الصَّلاةَ ويُؤْتي الزَّكاةَ ويعبدُ ربَّهُ حتى يَأتِيَه اليقينُ، ليسَ مِن النَّاسِ إلا في خَيرٍ".

"وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من خير معاش الناس لهم" والمعاش - بفتح الميم - إما مصدر من عاش معاشًا؛ أي: عيشًا، وإما اسم لما يعاش به، والجملة خبر للمبتدأ - وهو (رجل) - بتقدير المضاف؛ أي: معاش.

"رجل ممسك عنان فرسه"؛ أي: لجامه.

"في سبيل الله يطير"؛ أي: يسرع راكبًا.

"على متنه"؛ أي: على ظهره، والضمير للفرس، والمراد مسارعتُه إلى ما يكاد ينثلم من الثغور الاسلامية.

"كلما سَمِعَ هَيْعَةً"؛ أي: صوتًا يفزع منه ويخاف من عدو.

"أو فَزْعَةً": وهي المرَّة من الفَزَعَ: الاستغاثة.

"طار عليه"؛ أي: أسرع على مَتْنِ فرسه.

"يبتغي"؛ أي: يطلب.

"القتل والموت مَظَانَّه": جمع المَظِنَّة، وهي موضع ظَنِّ الشيء، مَفْعَلَةٌ بمعنى العلم، ونصبه على الظرفية للابتغاء، ووحِّد الضمير فيه لأن الموت والقتل مآلهما شيء واحد، وهو الهلاك، أو أعيد إلى الأقرب، وأكثر الروايات بـ (أو) فيوحَّد على القياس.

ص: 309

"أو رجل في غُنَيْمَة": تصغير غنم؛ أي: في قطيعة من الغنم، وظهور التاء؛ لأنه مؤنث سماعي.

"في رأس شَعْفَةٍ". بالشين المعجمة والعين المهملة المفتوحتين: رأس الجبل.

"من هذه الشَّعَف، أو بَطْنِ وَادٍ من هذه الأودية": والإشارة فيها إلى الجنس، أو إلى ما كانوا يعرفونه منهما؛ أي: يفرُّ من الناس ويسكن رؤوس الجبال، أو بطون الأودية طلبًا للسلامة من الناس.

"يقيم الصَّلاة، ويؤتي الزَّكاة، ويعبد ربَّه حتى يأتيه اليقين"؛ أي: الموت، سمي به لأنه لا شكَّ في وقوعه.

"ليس من الناس إلا في خَيْرٍ": حال من مفعول (يأتيه)؛ أي: يأتيه اليقين سالمًا من الناس ليس من أمورهم إلا في خير، وسالمًا الناس منه.

* * *

2864 -

وقال: "مِن جَهَّزَ غازِيًا في سَبيلِ الله فقد غَزَا، ومَن خَلَفَ غازيًا في أهلِهِ فقد غَزَا".

"عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ جهَّز غازيًا في سبيل الله"، تجهيزه: تهيئة جهاز سفره.

"فقد غَزَا"؛ أي: حصل له أجرُ الغزو.

"ومن خلف غازيًا"؛ أي: صار خَلَفًا له، وقائمًا بعده برعاية أموره "في أهله فقد غزا".

* * *

ص: 310

2865 -

وقال: "حُرمَةُ نساءِ المُجَاهدينَ على القَاعِدينَ كحُرمةِ أُمَّهاتِهِم، وما مِن رَجُلٍ مِن القاعِدين يَخْلُفُ رَجُلًا مِن المُجاهدينَ في أهلِهِ، فيَخُونُه فيهم، إلا وُقِفَ له يومَ القيامَةِ فيَأْخُذُ مِن عَمَلِهِ ما شاءَ فما ظَنُّكم؟ ".

"وعن بريدة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: حُرْمَةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحُرمَةِ أمهاتهم" عليهم، أراد بهذا القول: المبالغة في اجتناب القاعدين عن مخالطتهم نساء المجاهدين.

"وما من رجل من القاعدين يَخْلُفُ رجلًا من المجاهدين"؛ أي: يصير خَلَفًا له.

"في أهله فيخونه فيهم"؛ أي: الرجل الخَلَف الرجل المجاهد في أهله.

"إلا وُقِفَ له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟! "؛ أي: بالله مع هذه الخيانة هل تشكُّون في هذه المجازاة، فـ (ما) للاستفهام، فإذا علمتم صدق ما أقول فاحذروا من الخيانة في نسائهم.

وقيل: معناه: فما ظنكم بمن أحلَّه الله هذه المنزلة وخصَّه بهذه الفضيلة، وبما يكون وراء ذلك من الكرامة.

* * *

2866 -

عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: جاءَ رجلٌ بناقةٍ مَخْطومَةٍ فقالَ: هذه في سَبيلِ الله، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لكَ بها يومَ القيامَةِ سَبع مِئَةِ ناقَةٍ كلُّها مَخْطُومَةٌ".

"عن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مَخْطُومة"؛ أي: جعل الخِطَام على أنفها، وهو الزِّمَام.

"فقال: هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبع

ص: 311

مئة ناقة كلها مَخْطُومة".

* * *

2867 -

وعن أبي سعيدٍ: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ بَعْثًا إلى بني لِحْيانَ مِن هُذَيْل، فقالَ:"لِيَنْبَعِثْ مِن كُلِّ رَجُلينِ أحدُهما والأجرُ بينَهما".

"عن أبي سعيد: أن رسول الله بَعَثَ بَعْثًا"؛ أي: أرسل جيشًا.

"إلى بني لِحْيَان" بكسر اللام: طائفة "من" قبائل "هذيل، فقال: لِيَنْبَعِثْ"؛ أي: لينتهض إلى العدو.

"من كلِّ رجلين أحدهما، والأجر"؛ أي: ثواب الغزو "بينهما"؛ أما الغازي فظاهر، وأما القاعد فلأن الغازي يغزو بإعانته.

* * *

2868 -

وقال: "لنْ يَبْرَحَ هذا الدِّينُ قائمًا يقاتِلُ عليهِ عِصابةٌ مِن المسلمين حتى تقومَ الساعةُ".

"وعن جابر بن سَمُرَة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لن يَبْرَحَ"؛ أي: لن يزال.

"هذا الدِّين قائمًا يُقاتِلُ عليه عِصَابة" بكسر العين؛ أي: جماعة.

"من المسلمين حتى تقوم الساعة"؛ يعني: لا يخلو وجه الأرض من الجهاد إن لم يكن في ناحية يكون في ناحية أخرى.

* * *

2869 -

وقال: "لا يُكْلَمُ أَحَدٌ في سبيلِ الله - والله أعلمُ بمَنْ يُكْلَمُ في سبيلِهِ - إلا جاءَ يومَ القيامَةِ وجُرْحُهُ يَثْعَبُ دمًا، اللونُ لونُ الدَّمِ، والريحُ ريحُ المِسْكِ".

ص: 312

"وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يُكْلَمُ" بصيغة المجهول؛ أي: لا يُجْرَح.

"أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله": جملة اعتراضية.

"إلا جاء يوم القيامة وجرحه يَثْعَبُ"؛ أي: يسيل.

"دمًا": أضاف الفعل إلى الجرح؛ لأنه السبب في ذلك، جُعِلَ ذلك علامة له يُعرَف بها يوم القيامة بلا ألم يلحقه من سيلانه.

"اللون لون الدم، والرِّيح ريح المسك".

* * *

2870 -

وقال: "ما أحدٌ يدخلُ الجَنَّةَ يحبُّ أنْ يَرجعَ إلى الدُّنيا وله ما في الأرض مِن شيءٍ إلا الشهيدُ، يتمنَّى أنْ يرجَعَ إلى الدُّنيا فيُقْتَلَ عَشْرَ مرَّاتٍ لِمَا يرى من الكرامةِ".

"وعن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من أحدٍ يدخل الجنَّهّ يحبُّ أن يرجع إلى الدنيا وله ما في الأرض من شيء"، جاز كونه عطفًا على قوله:(أن يرجع)؛ أي: ما يحبُّ الرُّجوع ولا أن يكون شيء في الدنيا، وجاز كونه حالًا؛ أي: لا يحبُّ الرُّجوع في حال كونه مالكًا لكثير من أمتعة الدنيا والبساتين والأملاك والأقارب.

"إلا الشَّهيد يتمنَّى أن يرجع إلى الدُّنيا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مرَّات لما يَرَى من الكرامة".

* * *

2871 -

وسُئِلَ عبدُ الله بن مسعودٍ عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي

ص: 313

سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: إنَّا قد سَأَلْنَا عن ذلكَ فقال: "أرواحُهُم في جَوْفِ طيرٍ خُضْرٍ لها قناديلُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ، تسرحُ من الجنَّةِ حيثُ شاءَتْ، ثم تَأْوِي إلى تلكَ القناديلِ، فاطَّلَعَ عليهم ربُّهم اطِّلاعةً فقال: هل تَشْتهونَ شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نَشْتَهِي ونحنُ نَسْرَحُ مِن الجنَّةِ حيثُ شِئْنَا! فَفَعَلَ ذلكَ بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رَأَوْا أنَّهم لن يُتْرَكُوا مِن أَنْ يُسْأَلُوا، قالوا: يا ربِّ نريدُ أنْ تَرُدَّ أرواحَنَا في أجسادِنًا حتى نُقتَلَ في سبيلِكَ مرَّةً أُخرى، فلمَّا رَأَى أنْ ليسَ لهم حاجةٌ تُرِكُوا".

"وسئل عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ} [آل عمران: 169، 170] قال: إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله، فقال: إنَّ أرواحهم"؛ أي: أرواح الشهداء.

"في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ"، قيل: إن أرواحهم بعد مفارقتها أبدانها تُهيَّأ لها طيور خُضْر تنتقل إلى أجوافها خَلَفا عن أبدانها، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فيتوصل بسببها إلى نَيْلِ ما يشتهي من لذَّات الجنة، وإليه يرشد قوله تعالى:{يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169، 170].

"لها قَناديل معلَّقةٌ بالعَرْشِ"؛ المراد منها: أوكارها الشريفة ومأواها.

"تَسْرَح"؛ أي: ترعى وتتناول.

"من الجنَّة حيث شاءَتْ، ثم تأوي"؛ أي: ترجع.

"إلى تلك القناديل، فاطَّلَعَ إليهم ربُّهم": تعديته بـ (إلى) لتضمنه معنى النظر.

"اطِّلَاعَةً"، وفي تنكيرها دلالة على خصوصيتها بما ذكر من الفضل والتضعيف، وأنها ليست من جنس اطِّلاعنا على الأشياء، رزقنا الله الشَّهادة، وبلغنا هذه السَّعادة.

ص: 314

"فقال: هل تَشْتَهُون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي، ونحن نَسْرَح من الجنَّة حيث شِئْنَا، ففعل ذلك": وهو إشارة إلى قوله: (هل تشتهون).

"بهم ثلاث مرَّات، فلما رأَوْا أنهم لن يُتْرَكوا مِنْ أن يُسْأَلُوا، قالوا: يا رب نريد أن تَرُدَّ أرواحَنَا في أجْسَادنا حتى نُقْتَلَ في سبيلك مرَّة أخرى"؛ معناه: لا يبقى لهم مُتَمَنًى ولا مطلوب سوى إرادة الرجوع إلى الدنيا ليستشهدوا ثانية وثالثة، يتمنون ذلك لما رَأَوا من الشَّرف والكرامة.

"فلمَّا رأى أن ليس لهم حاجة"؛ أي: حاجة معتبرة؛ لأنهم سألوا ما هو خلاف عادة الله.

"تُرِكُوا": على بناء المجهول.

* * *

2872 -

عن أبي قتادةَ رضي الله عنه قال: قالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أرأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ الله يُكَفرُ عنِّي خطايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نعمْ، إنْ قُتِلتَ في سبيلِ الله وأنتَ صابرٌ مُحتَسِبٌ، مُقْبلٌ غيرُ مُدْبرٍ"، ثم قال:"كيفَ قلتَ؟ "، قال: أرأيتَ إنْ قُتِلتُ في سبيلِ الله؛ أَيُكَفَّرُ عني خطايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، وأنتَ صابرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبل غيرُ مُدْبرٍ، إلا الدَّيْنَ فإنَّ جبريلَ قالَ لي ذلكَ".

"عن أبي قتَادة أنه قال: قال رجل: يا رسول الله! أرأيْتَ"؛ أي: أخبرني.

"إن قُتِلْتُ في سبيل الله يُكَفرُ عنِّي خَطايَايَ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قُتِلْتَ في سبيل الله وأنت صابرْ مُحْتَسِبٌ"؛ أي: طالب الثواب من الله لا لأجل الرياء.

"مُقْبلٌ غير مُدْبرٍ"، قيل: هذا احترازٌ عمَّنْ يُقْبلُ في وَقْتٍ ويُدْبرُ في

ص: 315

وقتٍ، ويجوز أن يكون (غير مدبر) تأكيدًا.

"ثم قال: كيفَ قلْتَ؟ قال: أرأيْتَ إن قُتِلْتُ في سبيل الله يُكَفَّرُ عنِّي خطاياي، فقال: نعم، وأنْتَ صابرٌ محتسبٌ مُقْبلٌ غير مُدْبرٍ إلا الدَّيْن"؛ المراد به: ما يتعلق بذمَّته من حقوق الناس.

"فإن جبريل قال لي ذلك".

* * *

2873 -

وقال: "القتلُ في سبيلِ الله يُكَفِّر كلَّ شيءٍ إلا الدَّيْن".

"وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: القتل في سبيل الله يكفر"؛ أي: عن المقتول "كل شيء إلا الدين".

* * *

2874 -

وقال: "يَضْحَكُ الله إلى رجُلَيْنِ يَقتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلَانِ الجنَّةَ، يُقاتِلُ هذا في سبيلِ الله فيُقْتَلُ ثم يتوبُ الله على القاتِلِ فيُسْتَشْهَدُ".

"عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يَضْحَكِ الله إلى رجُلَيْنِ"، الضَّحك في حقِّه تعالى مجازٌ عن الرضا؛ أي: يرضى عن رجلين.

"يقتلُ أحدُهما الآخر يَدْخُلان الجنَّة، يُقَاتِلُ هذا في سبيل الله فُيقْتَل" فرحمه الله؛ لأنه قُتِلَ شهيدًا.

"ثم يتوب الله على القاتل" الكافر؛ أي: يوفقه للإيمان فآمَنَ.

"فيُسْتَشْهَد"؛ أي: يُقْتَلُ شهيدًا فيرحمه بفضله أيضًا.

* * *

ص: 316

2875 -

وقال: "مَن سألَ الله الشهادةَ بصِدقٍ، بَلَّغَهُ الله منازِلَ الشهداءَ وإن ماتَ على فراشِهِ".

"عن سَهْل بن حُنَيْف قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ سأل الله الشَّهادةَ بصدق"؛ يعني: مَنْ طلب من الله أن يجعله شهيدًا، ويتمنى ذلك عن نيَّة خالصة.

"بلَّغَهُ الله منازِلَ الشُّهداء"؛ أي: أعطاه أجر الشُّهداء بصدق نيته.

"وإنْ مات على فِرَاشِهِ"، قيل: قال عمر رضي الله عنه: اللهم ارزقني الشَّهادة في بلد رسولك.

* * *

2876 -

عن أنسٍ رضي الله عنه: أن الرُّبَيع بنتَ البَراءِ - وهي أمُّ حارِثَةَ بن سُراقَةَ - أَتَت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبيَّ الله! أَلَا تُحَدِّثُنِي عن حَارِثَةَ، وكانَ قُتِلَ يومَ بَدرٍ أصابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فإنْ كانَ في الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وإنْ كَانَ غيرَ ذلكَ اجتهدتُ عليهِ في البكاءِ قال:"يا أُمَّ حارِثَةَ! إنها جِنانٌ في الجنةِ، وإنَّ ابنكَ أصابَ الفِردوسَ الأعلى".

"عن أنس: أن الرُّبَيع بنت البراء، وهي أمُّ حارثة بن سُرَاقَةَ أتَتِ النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله! ألا تحدِّثُني"؛ أي: ألا تخبرني.

"عن حَارِثَةَ"؛ أي: عن حاله.

"وكان قُتِلَ يوم بَدْرٍ": هو موضع، وقيل: اسم ماء.

قال الشعبي: بئر كانت لرجل يدعى بدرًا، ثم غلب على الموضع ومنه: يوم البدر.

"أصابه سهمٌ غَربٌ" بفتح الراء وسكونها، وبالإضافة وتركها، وهو السَّهم

ص: 317

الذي لا يُعرف راميه، وقيل: بالسكون معناه: أُتِيَ مِنْ حيث لا يدري، وبالتحريك معناه: رماه فاصاب غيره، وقيل بالوصف: إذا لم يعرف راميه، وبالإضافة هو المتَّخذ من شجر الغرب.

"فإن كان في الجنة صبرْتُ، وإن كان غير ذلك اجتهدْتُ عليه بالبكاء، فقال: يا أم حَارِثَة إنها": الضمير للقصة والحكاية، والجملة بعدها خبرها، وهو:"جنان في الجنة": تنكيرها للتعظيم، والمراد بها: الدرجات فيها.

"وإنَّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى".

* * *

2877 -

عن أنسٍ رضي الله عنه قال: انطلَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابهُ، حتى سَبقُوا المشركينِ إلى بدرٍ، وجاءَ المشركونَ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"قُومُوا إلى جنةٍ عرضها السماواتُ والأرضُ"، قالَ عُمَيْرُ بن الحُمَامِ: بَخْ بَخ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما يَحْمِلُكَ على قولِكَ: بَخ بَخ؟ "، قال: لا والله يا رسولَ الله! إلَّا رجاءَ أنْ أكونَ من أهلِها، قال:"فإنكَ مِن أَهلِهَا"، قال: فأخرجَ تمراتٍ فجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثم قال: لئنْ أَنَا حَييتُ حتى آكلَ تَمَراتِي إنَّها لحَيَاةٌ طويلة، قال: فَرَمَى بما كانَ معَهُ مِنَ التَّمر ثم قاتَلَهم حتّى قُتِلَ".

"عن أنس أنه قال: انطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: خرج هو "وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بَدْرِ"؛ أي: نزلوا لبدر قبل نزول الكفار.

"وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنَّة عَرْضُها السَّموات والأرض"؛ أي: إلى عمل هو سبب لدخولها.

"فقال عمير بن حُمام" بضم الحاء المهملة، هو حُمَام بن الجموح الأنصاري

ص: 318

أحد بني سلمة قيل: إنه أول من قُتِل من الأنصار في الإسلام قتله خالد بن الأعلم.

"بخ بخ": كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء، وتكرر للمبالغة، وتبنى على السُّكون وقد تنون تشبيهًا بـ (صه)(1)، وقيل: إذا أفردت وَقَفْتَ عليها، وإذا كُرِّرَتْ [تنون الألى وتُسَكَّن الثانية](2).

"فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما يحملك على قولك: بخ بخ"، توهَّم صلى الله عليه وسلم أن قوله ذلك صدر من غير نيَّة ورويَّة، بل شبيه قول المزاح، فنفاه عمير عن نفسه بأن "قال: لا والله"؛ أي: ليس الأمر على ما توهَّمْتَ.

"يا رسول الله! إلا رجاء": استثناء من مقدر؛ أي: لا لشيء إلا رجاء "أن كون من أهلها قال: فإنك من أهلها، قال: فأخرج تمرات فجعل يأكل منهنَّ، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة، قال"؛ أي: الراوي: "فرمى بما كان معه من التَّمر، ثم قاتلهم حتى قُتِلَ".

* * *

2878 -

وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما تَعدُّونَ الشهيدَ فيكم؟ "، قالوا: يا رسولَ الله مَن قُتِلَ في سبيلِ الله، قال:"إنَّ شُهداءَ أُمَّتي إذًا لَقَلِيلٌ! مَن قُتِل في سبيلِ الله فهوَ شهيدٌ، وَمَن ماتَ في سبيلِ الله فهوَ شهيدٌ، ومَن ماتَ في الطاعُونِ فهوَ شهيدٌ، ومَن ماتَ في البَطْنِ فهوَ شهيدٌ".

"عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما تعدُّون الشَّهيد فيكم": (ما) استفهامية، والمراد هنا: السؤال عن الصِّفة والحال التي ينال بها المؤمن رتبة الشهادة، وهي تسدُّ مَسَدَّ (من) ولهذا "قالوا": في

(1) في "غ": تشبهًا بصنعه.

(2)

في "غ" و"ت": "نونها مكسورة" ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 319

الجواب: "يا رسول الله! مَنْ قْتِلَ في سبيل الله، قال: إنَّ شهداء أمَّتي إذًا لقليل" على تأويل جمع قليل.

"مَنْ قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البَطْنِ"؛ أي: مبطونًا و (في) بمعنى باء السببية.

"فهو شهيد": معناه: أنهم يشاركون الشهداء في نوع من أنواع المثوبات التي يستحقها الشُّهداء، لا المساواة في جميع أنواعها.

* * *

2879 -

وقال: "ما مِن غازِيَةٍ أو سَرِيَّةٍ تغزُو فتَغْنَمُ وتَسْلَمُ إلا كانُوا قد تَعَجَّلُوا ثُلُثي أجورِهم، وما مِن غازِيَةٍ أو سَرِيَّةٍ تُخفِقُ وتُصابُ إلا تَمَّ أُجورُهم".

"عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من غازية"؛ أي: جماعة، أو فِئَةٍ غازية، والغزو: القصد لغةً، والخروج إلى محاربة الكفار شرعًا، وإلى محاربة العدو عرفًا.

"أو سريَّة"، وإنما ذكرهما تنبيهًا على أن إثبات الحكم في القليل والكثير من الغزاة، ويحتمل أن يكون شكًّا من الراوي.

"تغزو في سبيل الله، فتغْنَمُ وتَسْلَمُ إلا كانوا قد تعجَّلوا ثُلُثَي أجورهم" في الدنيا وهما السَّلامة والغنيمة، وبقي له ثلث أجره يناله في الآخرة بقصده محاربة أعداء الله ونصر دينه، ومن سلم ولم يغنم استوفى ثلث أجوره وبقي له ثلثان، ومن رجع مجروحًا يقسم على هذا التقسيم بحسب جراحته إن الله لا يضيع أجر المحسنين.

ص: 320

"وما من غازية، أو سريَّة تُخْفِقُ"، الإخفاق: أن تغزو ولا تغنم.

"وتُصَاب"؛ أي: أصابهم مصيبة.

"إلا تمَّ أجورهم": إذ الأجر بقدر التَّعب.

* * *

2880 -

وقال: "مَن ماتَ ولم يَغْزُ، ولم يُحَدِّثْ نفسَه، ماتَ على شُعبةٍ مِن نِفاقٍ".

"وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من مات ولم يَغْزُ، ولم يُحَدِّث نفسه بالغَزْوِ"؛ أي: لم تقل نفسه: يا ليتني كنْتُ غازيًا.

وقيل: معناه: إرادة الخروج له، وعلامتها في الظاهر: إعداد آلته، كما قال الله تعالى:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46].

"مات على شُعْبَةٍ من نفاق"؛ أي: على نوع من أنواع النِّفاق تنوينها للتهويل، يعني: من مات على هذه الصِّفة فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد، وقيل: هذا كان مخصوصًا بزمانه صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه عام.

* * *

2881 -

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: الرَّجلُ يُقاتِلُ للمَغْنَم، والرجلُ يقاتِلُ للذِّكْرِ، والرجلُ يقاتِلُ ليُرَى مكانُه، فمَن في سبيلِ الله؟ قال:"مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهوَ في سبيلِ الله".

"عن أبي موسى أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمَغْنَمِ والرجل يُقَاتِل للذِّكْرِ"؛ أي: ليُذْكَرَ بين الناس ويُوْصَفَ بالشَّجاعة.

ص: 321

"والرجل يُقَاتِل لِيُرَي": على صيغة المجهول من الرُّؤْية، وهو الصواب.

"مكانُهُ"؛ أي: منزلته من الشَّجاعة.

"فمَنْ في سبيل الله؟ قال: مَنْ قاتل لتكون كلمة الله": وهي قول: لا إله إلا الله.

"هي العُليا": تأنيث الأعلى.

"فهو في سبيل الله": تقديم (هو) يفيد الاختصاص، فيُفْهَم منه: أنَّ مَنْ قاتل للدنيا فليس في سبيل الله في الحقيقة، ولا يكون له ثواب الغزاة.

* * *

2882 -

وعن أنسٍ: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجعَ مِن غزوةِ تبوكَ فدَنَا مِن المدينةِ فقال: "إنَّ بالمدينةِ أقوامًا ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قَطَعْتُم وادِيًا إلا كانُوا معَكم - وفي روايةٍ: إلَّا شَركُوكُم في الأجر - "، قالوا: يا رسولَ الله وَهُم بالمدينةِ! قالَ: "وهَمُ بالمدينةِ حَبَسَهُم العذرُ".

"وعن أنس: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجعَ من غزوة تبوك فدنا من المدينة"؛ أي: قرب إليها.

"فقال: إن بالمدينة أقوامًا"، وهم الذين يتمنَّون الغَزْوَ، ويحدِّثون أنفسهم به، ولهم مانع من الخروج.

"ما سِرْتُمْ مَسِيْرًا، ولا قَطَعْتُمْ واديًا إلا كانوا معكم"؛ أي: بالقلب والهمِّ والدُّعاء، وهذا يدلُّ على أن كون المعية بالقلب مع بُعْدِ الظَّاهر كهي بالظاهر، وأن المعتبر القرب بالأرواح لا الأشباح، وأن نَيْلَ المثوبة بالنِّية لا بالأعمال الظاهرة فقط، ولذلك ورد في حق الكل في التَّنزيل:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95].

ص: 322

"وفي رواية: إلا شركوكم في الأجر، قالوا: يا رسول الله! وَهُمْ بالمدينة! قال: وَهُمْ بالمدينة، حبسهم العذر": وهو عدم القدرة.

* * *

2883 -

عن عبدِ الله بن عَمرٍو قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاستأذَنَهُ في الجهادِ، فقال:"أَحَيٌّ والِدكَ؟ "، قال: نعم، قال:"ففيهما فجاهِد".

وفي روايةٍ: "فارجِعْ إلى والدَيْكَ فأَحْسِنْ صُحْبَتَهُما".

"وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيُّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما"؛ أي: في خِدْمَة وَالِدَيْك "فجاهد"، يحتمل أن الرجل كان متطوعًا في الجهاد، فرأى له النبي صلى الله عليه وسلم خِدْمَةَ أبويه أهم الأمرين؛ لأنه فرضُ عين، والجهاد ليس كذلك، لاسيَّما إذا كان بهما حاجة إليه.

"وفي رواية: فارجع إلى والديك فأحسِنْ صُحْبَتَهُما".

* * *

2884 -

وعن ابن عبَّاسٍ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ يومَ الفتحِ: "لا هِجْرَةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جهادٌ ونِيَّةٌ وإذا اسْتُنْفِرتُمْ فانْفِرُوا".

"عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوم الفتح"؛ أي: فتح مكة: الا هجرة بعد الفتح"، المنفي فريضة الهجرة وفضيلتها التي كانت قبله.

"ولكن جهاد"؛ أي: محاربة الكفار.

"ونيَّه"، المراد بالنيَّة: إخلاص العمل لله تعالى، أو قصد الجهاد؛ أي: لم

ص: 323

يبْقَ هجرة، وإنما بقي الإخلاص في الجهاد وقَصْدِهِ.

"وإذا استُنْفِرْتُم"؛ أي: اسْتُنْصِرْتُم للغزو.

"فانفروا" خارجين إلى الإعانة، وفيه إيجاب النَّفْرِ والخروج إلى الغزو إذا دُعِيَ إليه.

* * *

مِنَ الحِسَان:

2885 -

عن عِمْرانَ بن حُصَينٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على الحقِّ ظاهرينَ على مَن نَاوأَهم، حتى يُقاتِلَ آخِرُهم المَسيحَ الدَّجَّالَ".

"عن عِمران بن حُصَين: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا يزال طائفة من أمَّتي يقاتلون على الحق ظاهرين"؛ أي: غالبين.

"على من نَاوَأَهُم"؛ أي: ناهضهم وعاداهم، وكل من المتعادِيَيْنِ ينهض إلى قتال صاحبه.

"حتى يُقَاتِل آخِرُهم"؛ والمراد به: عيسى بن مريم عليه السلام.

"المسيحَ الدَّجال"، فإنه روي: أنه يقاتله فيقتله فسماه أمةً له.

* * *

2886 -

عن أبي أُمَامَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ لم يَغْزُ ولم يُجَهِّزْ غَازِيًا، أو يَخْلُفْ غَازِيًا في أهلِه بخيرٍ، أصابَهُ الله بقارعةٍ قبلَ يومِ القيامةِ".

"عن أبي أمامة عن النَّبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: من لم يغْزُ ولم يجِّهزْ غَازِيًا، أو يَخْلُفْ": عطف على المنفي؛ أي: لم يَخْلُفْ.

ص: 324

"غَازِيا في أهله بخير"؛ يعني: مَنْ لم يفعل أحدَ هذه الثلاثة من الغَزْوِ بنفسه، أو تجهيز غَازٍ، أو النيابة عنه في أهله بخير.

"أصابه الله بقارعة"؛ أي: بداهِيَةٍ شديدة تقرعه؛ أي: تدقُّه وتهلكه.

"قبل يوم القيامة"، والعطف بالواو في الثاني، وبـ (أو) في الثالث يدل على أنهما في رتبة واحدة.

* * *

2887 -

عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"جاهِدُوا المُشركينَ بأموالِكُم وأنفسِكُمْ وأَلسِنَتِكُمْ".

"عن أنس رضي الله عنه أنه قال: جاهدوا المشركين بأموالكم"؛ أي: أظهروا العداوة عليهم بأن تصرفوا أموالكم في أسباب المجاهدين، إن لم تقدروا أن تجاهدوا بأنفسكم.

"وأنفسكم": إن قدرتم عليه.

"وألسنتكم": بأن تدعوا عليهم بالخذلان والهزيمة، وللمسلمين بالنَّصر والغنيمة وتحرِّضوا القادرين على الغَزْوِ، ونحو ذلك.

* * *

2888 -

عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَفشُوا السَّلامَ، وأَطعِمُوا الطَّعامَ، واضْرِبُوا الهامَ، تُورَثُوا الجِنانَ"، غريب.

"عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أفشُوا السَّلام"، إفشاؤه: إظهارُهُ برفع الصَّوت، أو إشاعته بأن يسلِّم على مَنْ يراه عرفه أو لا.

ص: 325

"وأطعموا الطعام واضربوا الهام": جمع هَامَة - بالتخفيف - وهو الرأس، يعني: اقطعوا رؤوس الكفار، والمراد به: الجهاد.

"تُورَثُوا الجِنَان" بالمضارع المجهول؛ لأنهم كأنهم ورثوها منها.

* * *

2889 -

عن فُضالةَ بن عُبيدٍ، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"كلُّ مَيتٍ يُخْتَمُ على عملِهِ، إلا الذي ماتَ مُرابطًا في سبيلِ الله؛ فإنه يُنَمَّى لهُ عملُهُ إلى يومِ القيامَةِ ويَأْمَنُ فتنةَ القبرِ". قال: وسمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "المُجاهِدُ مَن جاهَدَ نفسَه".

"عن فُضَالة بن عُبَيْد: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: كل ميت يُخْتَم على عمله"؛ يعني: ينقطع عمله ولا يصل إليه ثواب عمل.

"إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه يُنَمَّى له عمله": على صيغة المجهول، وهو الثواب؛ أي: يُزَاد ثواب عمله.

"إلى يوم القيامة": لأنه فدى نفسه فيما يعود نفعه إلى المسلمين، وهو إحياء الدِّين بدفع أعدائه عنهم.

"ويأمن فتنة القبر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المجاهد"؛ أي: المجاهد الحقيقي.

"مَنْ جاهد نفسه" بامتثال الأوامر والانزجار عن النواهي.

* * *

2890 -

وعن معاذِ بن جبلٍ رضي الله عنه سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ قَاتَلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ، فقد وَجَبَتْ لهُ الجنَّةُ، ومَن جُرحَ جُرحًا في سبيلِ الله أو نُكِبَ نَكْبَةً، فإنها تَجيءُ يومَ القيامةِ كَأَغْزَرِ ما كانتْ، لونُها الزَّعْفَرانُ وريحُها

ص: 326

المِسْكُ، ومَن خَرَجَ به خُرَاجٌ في سبيلِ الله فإنَّ عليهِ طابَعَ الشُّهداءِ".

"عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: مَنْ قاتل في سبيل الله فَوَاقَ ناقة"؛ أي: قَدْرَ ما بين حلبتيها من الوقت، وهذا يحتمل أن يكون ما بين الغَدَاة إلى العشاء؛ لأن الناقة تُحْلَب فيهما، وأن يكون ما بين حَلْب ملء ظرف، ثم ظرف آخر في زمان واحد، وأن يحلب، ثم يُتْرَك سُويعة يرضعها فصيلها لقدر، ثم تُحلب، وأن يكون قدر مدِّ الضرع مدة إلى مدة أخرى، وهذا الأخير أليق بالترغيب في الجهاد، يعني: مَنْ قاتل في سبيل الله لحظة.

"فقد وَجَبَتْ له الجنة، ومَنْ جُرِحَ جُرْحًا في سبيل الله، أو نُكِبَ نَكْبَةً": قيل: الجرح والنكبة هنا بمعنى وأحد، بدليل أنه يصف لونها بلون الزَّعفران.

وقيل: الجرح ما يكون من فعل الكفار، والنَّكبة: الجراحة التي نالته من سقوطه من دابته، أو من سلاحه، ونحو ذلك.

"فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر"؛ أي: أكثر.

"ما كانت": في الدنيا.

"لونها الزعفران"؛ أي: كلون الزعفران، إذ لونه يابسًا يشبه لون الدم.

"وريحها المِسك، ومن خرج به خُراج" بضم الخاء المعجمة: ما يخرج من البدن من القروح والدماميل.

"في سبيل الله، فإن عليه طابع" بفتح الباء الموحدة وكسرها: الخاتم الذي يُخْتَمُ به الشيء؛ أي: يُعلَّم، معناه: علامة "الشهداء" السَّاعين في إعلاء الدِّين؛ ليجازى بذلك جزاء المجاهدين.

* * *

ص: 327

2891 -

عن خُرَيْمِ بن فَاتِكٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أنفقَ نفقةً في سبيلِ الله، كُتِبَتْ لهُ بسَبع مئةِ ضعْفٍ".

"عن خُرَيْم بن فَاتِك قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ أنفق نفقة في سبيل الله كتب الله له سبع مئة ضعْفٍ".

* * *

2892 -

عن أبي أمامةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الصَّدقاتِ ظِلُّ فُسْطاطٍ في سبيلِ الله، ومِنْحَةُ خادمٍ في سبيلِ الله، أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ في سبيلِ الله".

"عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أفضل الصَّدقات ظل فُسْطَاط"؛ أي: خيمة يضربها.

"في سبيل الله" لاستظلال المجاهدين.

"ومِنْحَةُ خادم في سبيل الله"؛ أي: هبته وعطيته من غَازٍ ليخدمه.

"أو طَرُوْقَة"؛ أي: مِنْحَةُ طَرُوْقَة.

"فَحْل"؛ أي: النَّاقة التي بلغَتْ أن يطرقها؛ أي: يضربها الفحل؛ أي: إعطاء مركوب الجهاد "في سبيل الله".

* * *

2893 -

عن أبي هريرةَ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَلِجُ النَّارَ مَن بَكَى مِن خشيةِ الله، حتى يعودَ اللَّبن في الضَّرْعِ، ولا يجتمعُ غُبَارٌ في سبيلِ الله ودُخَانُ جهنَّمَ في مَنْخِرَي مُسلمٍ أبداً".

ويُروَى: "في جوفِ عبدٍ أبداً، ولا يجتمعُ الشُّحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبداً".

ص: 328

"عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يَلِجُ النار"؛ أي: لا يدخلها.

"مَنْ بكى مِنْ خشية الله حتى يعودَ اللَّبن في الضَّرْعِ": فإن اللَّبن لا يمكن عوده إلى الضَّرْعِ بعد أن خرج منه، فكذلك دخول الباكي من خشية الله النار.

"ولا يجتمع غُبَارٌ في سبيل الله ودُخَان جهنَّم في مَنْخَرَي مسلم أبداً"؛ يعني: من دَخَلَ الغُبار منخره في الجهاد لا يدخل دُخَان جهنم في منخره.

"ولا يجتمع الشُّحُّ"؛ أراد به: منع الزكاة ونحوها.

"والإيمان"؛ أي: كمال الإيمان "في قلب عبد أبداً".

* * *

2894 -

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "عَيْنَانِ لا تمسُّهما النارُ: عينٌ بَكَتْ مِن خشيةِ الله، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيلِ الله".

"عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عينان لا تمسُّهما النار أبداً عينٌ بَكَتْ مِنْ خشية الله"، قيل: هذا كناية عن العالم العابد المجاهد مع نفسه لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] حيث حصر الخشية فيهم.

"وعين باتَتْ تحرس في سبيل الله"؛ أي: يكون حارساً للمجاهد [ين] يحفظهم عن الكفار، فحصلت النسبة بين العينين: عين مجاهدة مع النفس، وعين مجاهدة مع الكفار.

* * *

2895 -

عن أبي هريرةَ قال: مَرَّ رجلٌ مِن أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ

ص: 329

فيهِ عُيَيْنَةٌ من ماءٍ عذبةٌ فَأَعْجَبَتْهُ، فقال: لو اعتزلتُ الناسَ فأَقَمْتُ في هذا الشِّعْبِ، فذكر ذلكَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لا تفعلْ! فإنَّ مُقامَ أحدِكم في سبيلِ الله أفضَلُ مِن صلاتِهِ في بيتِهِ سبعينَ عاماً، ألا تُحِبونَ أنْ يغفرَ الله لكم ويُدْخِلَكُمْ الجَنَّةَ، اُغزُوا في سبيلِ الله، مَن قاتَلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ وجبَتْ له الجَنَّةُ".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: مَرَّ رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بشِعْبٍ"، وهو بكسر الشين المعجمة: ما انفرج بين الجبلين من طريق ونحوه.

"فيه عُيَيْنَةٌ": تصغير عَيْن.

"من ماء عذبة"؛ أي: طيبة.

"فأعجبته"؛ أي: حسنت في عينه، وطابت في قلبه.

"فقال: لو اعتزلْتُ النَّاس فأقمت في هذا الشِّعب": (لو) هذه للتمني، أو للشرط، وجوابه محذوف؛ أي: لكان خيراً لي.

"فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: لا تفعل": وإنما نهى عن ذلك؛ لأن الرجل صحابي، وقد وجب عليه الغزو، فكان اعتزاله للتَّطوع معصية لاستلزامه ترك الواجب.

"فإن مُقَام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تِحبُّون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، مَنْ قاتل في سبيل الله فَوَاقَ ناقة وَجَبَتْ له الجنة".

* * *

2896 -

وعن عُثمانَ رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "رِباطُ يومٍ في سبيلِ الله خيرٌ مِن ألفِ يومٍ فيمَا سِوَاهُ مِن المَنَازِلِ".

ص: 330

"عن عثمان - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: رِبَاط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من ألف يومٍ فيما سِوَاه من المنازل".

* * *

2897 -

وعن أبي هريرةَ: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "عُرِضَ عليَّ أولُ ثلاثةٍ يدخلونَ الجنةَ: شهيدٌ وعَفيفٌ مُتعفِّفٌ، وعبدٌ أحسنَ عبادةَ الله ونصحَ لِمَوَاليهِ".

"عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عُرِضَ عليَّ أولُ ثلاثة": وروي: (ثُلَّة) بالضم، وهي الجماعة من الناس؛ أي: أول جماعة.

"يدخلون الجنة: شهيد، وعفيف"، وهو الذي يمنع نفسه عمَّا لا يحل في الشرع.

"متعفِّف"؛ أي: محترز عن السؤال، ومكتفٍ باليسير عن طلب الفضول في المطعم والملبس، وقيل: أي صابر على مخالفة نفسه.

"وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه"؛ أي: أراد الخير لهم، وأقام بحقوق خدمتهم.

* * *

2898 -

عن عبدِ الله بن حُبْشِيٍّ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: "إيمانٌ لا شَكَّ فيهِ، وجِهادٌ لا غُلولَ فيهِ، وحَجَّةٌ مَبرورَةٌ"، قيلَ: فَأَيُّ الصَّلاةِ أفضلُ؟ قال: "طولُ القيامِ"، قيلَ: فأيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: "جُهْدُ المُقِلِّ"، قيل: فأيُّ الهِجْرةِ أفضلُ؟ قال: "مَن هَجَرَ ما حَرَّم الله عليهِ"، قيل: فأيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال: "مَن جاهَدَ المشركينَ بمالِهِ ونفسِهِ"، قيل: فأيُّ القتلِ

ص: 331

أشْرَفُ؟ قال: "مَن أُهْريقَ دَمُهُ وعُقِرَ جَوادُهُ".

"عن عبد الله بن حُبْشِي: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سُئِلَ، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شكَّ فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحَجَّة مبرورة"؛ أي: مقبولة.

"قيل: فأيُّ الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام"؛ أي: في الصلاة "قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جُهْدُ المُقِلِّ"؛ أي: طاقة الفقير؛ يعني: ما أعطاه الفقير مع احتياجه إليه.

"قيل: فأيُّ الهجرة أفضل؟ قال: مَنْ هَجَرَ"؛ أي: هِجْرَةُ مَنْ هَجَرَ.

"ما حرَّم الله عليه، قيل: فأيُّ الجهاد أفضل؟ قال: مَنْ جاهد"؛ أي: جِهَادُ مَنْ جَاهَدَ "المشركين بماله ونفسه، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: مَنْ أُهْرِيْقَ"؛ أي: قَتْلُ مَنْ أُهْرِيْقَ "دمه، وعُقِرَ جواده"؛ أي: جُرِحَ فرسه الجيد في سبيل الله، وفيه إشارة إلى أنه لغاية شجاعته، أوقع نفسه بين الكفار وحاربهم ولم يظفروا به إلا بعقر فرسه.

* * *

2899 -

عن المِقْدَامِ بن مَعدِ يكرِبَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "للشَّهيدِ عندَ الله سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مِن الجَنَّةِ، ويُجَارُ مِن عذابِ القبرِ، ويَأْمَنُ مِن الفَزَعِ الأكبرِ، ويُوضَعُ على رأسِهِ تاجُ الوَقارِ، الياقوتَةُ منها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ويُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشَفَّعُ في سبعينَ مِن أقربائه".

"عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: للشهيد عند الله ستُّ خِصَال: يُففر له في أول دُفْعة" بالضم ثم السكون؛

ص: 332

أي: في أول قطرة من الدم.

"ويرى مَقْعَدَهُ من الجنَّة": عند زهوق روحه.

"ويُجَار"؛ أي: يُؤَمَّن.

"من عذاب القبر، ويأمن من الفَزَع الأكبر": قيل: هو عذاب النار، وقيل: حين العرض عليها، وقيل: الوقت الذي يُؤْمَر أهل النار بدخولها، وقيل: الوقت الذي يُذْبَح فيه الموت فييأس الكفار عن التَّخلص من النار.

"ويوضع على رأسه تاج الوَقَار"؛ أي: تاج العزِّ والتَّعظيم.

"الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، وبزوَّج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع"؛ أي: تُقبل شفاعته "في سبعين من أقربائه".

* * *

2900 -

وقال: "مَن لَقِيَ الله بغيرِ أثرٍ مِن جهادٍ، لقِيَ الله وفيهِ ثُلمَة".

"وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ لَقِيَ الله بغير أثرٍ من جهاد"؛ أي: بغير علامة من علامات الغَزْوِ كالجراحة والتَّعب وبذل المال وغير ذلك.

"لقي الله وفيه ثُلْمَة"؛ أي: في شأنه نقصان، أو في دينه خَلَل.

* * *

2901 -

وقال: "الشَّهيدُ لا يجدُ أَلَمَ القَتْلِ، إلا كما يَجِدُ أَحَدُكم ألمَ القَرْصَةِ"، غريب.

"وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الشَّهيد لا يجدُ ألم القتل إلا كما يَجدُ أحَدُكم ألمَ القَرْصَة"، وهي المرَّة من

ص: 333

القَرْصِ، وهو عَضُّ النَّملة، وقيل: الأخذ بأطراف الأصابع، وقيل: حكُّ الجلد بظفرٍ ونحوه.

"غريب".

* * *

2902 -

وعن أبي أُمامَةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليسَ شيءٌ أَحَبَّ إلى الله مِن قَطْرَتَيْنِ وأثَرَيْنِ: قطرةُ دَمْعٍ مِن خَشيةِ الله، وقطرةُ دمٍ يُهْراقُ في سبيلِ الله، وأمَّا الأَثَرانِ: فأَثَرٌ في سبيلِ الله، وأَثَرٌ في فريضةٍ مِن فرائضِ الله تعالى"، غريب.

"عن أبي أمامة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيء أحبُّ إلى الله من قَطْرتين وأثرين: قطرةُ دَمْعٍ من خشية الله، وقطرة دَمٍ يُهْرَاق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله"، (الأثر) بفتحتين: ما بقي من الشيء، وهنا: علامة الغزو من الجراحات، أو غبار الطريق وغير ذلك.

"وأثر في فريضة من فرائض الله": وذلك [كـ]ـبقاء بلل الوضوء عليه، واصفرار لونه في التهجد، وخلوف فمه في الصوم، واغبرار قدميه في الحجِّ ونحو ذلك.

* * *

2903 -

عن عبدِ الله بن عَمرٍو قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَركبِ البحرَ إلا حاجاً أو مُعتَمِراً أو غازياً في سبيلِ الله، فإنَّ تحتَ البحرِ ناراً، وتحتَ النارِ بحراً".

"عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تركب البحر إلا حاجًّا، أو معتمراً، أو غازياً في سبيل الله": وهذا يدل على وجوب ركوبه للحجِّ والجهاد إذا لم يجد طريقاً آخر.

ص: 334

"فإن تحت البحر ناراً، وتحت النَّار بحراً": قيل: يحمل هذا على ظاهره، فإن الله على كل شيء قدير.

وقيل: هو تفخيم لأمر البحر، وأنه بمثابة آفة مهلكة؛ لأن الآفة تسرع إلى راكبه فلا يأمن الهلاك كل ساعة، كما لا يأمَنُ في ملابسة النار ومداخلتها.

* * *

2904 -

عن أمَّ حرامٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"المائدُ في البحرِ الذي يُصيبهُ القَيْءُ لهُ أجرُ شهيدٍ، والغريقُ لهُ أجرُ شهيدَيْنِ".

"وعن أم حَرَام: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المائِدُ في البحر الذي يصيبه القيء"، (المائد): من المَيْدِ وهو الدوران؛ أي: الذي يُدَار برأسه من ريح البحر واضطراب السفينة بالأمواج فيصيبه القيء كما يقع ذلك لمن لم يتعوَّد ركوب البحر.

"له أجر شهيد": إن كان ركوبه للغزو والحجِّ وطلب العلم وصلة الرحم، وأما التجار فإن لم يكن لهم طريق سواه وكان ركوبهم لطلب القوت لا لجمع المال فهم داخلون في هذا الأجر.

"والغريق له أجر شهيدين"؛ أحدهما بقصد الطاعة، والآخر بالغرق.

* * *

2905 -

عن أبي مالكٍ الأشعريِّ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن فَصَلَ في سبيلِ الله فماتَ، أو قُتِلَ، أو وَقَصَهُ فرسُه أو بعيرُه، أو لدَغتْهُ هامَّةٌ، أو ماتَ على فراشِهِ بأَيِّ حتفٍ شاءَ الله فإنه شهيدٌ، وإنَّ لهُ الجَنَّةَ" "عن أبي مالك الأشعري أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه

ص: 335

وسلم يقول: من فَصَلَ في سبيل الله"؛ أي: خرج للجهاد.

"فمات، أو قتل، أو وَقَصَه فرسه، أو بعيره"؛ أي: صَرَعَهُ ودقَّ عنقه.

"أو لدغته هامَّة" بتشديد الميم: الحيوان الشُّمِّي كالحية والعقرب وغيرهما.

"أو مات على فراشه": في طريق الغزو.

"بأي حتفٍ شاء الله"؛ أي: بأي موتٍ قدَّره الله تعالى.

"فإنه شهيد، وإنَّ له الجنة".

* * *

2906 -

عن عبدِ الله بن عَمرٍو أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "قَفْلَةٌ كغزوةٍ".

"عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: قَفْلَةٌ"؛ أي: مَرَّةٌ من القَفُول، وهو الرجوع من السفر.

"كغزوة"؛ يعني: أجر الغازي في رجوعه إلى أهله بعد غزوه، كأجره في إقباله إلى الجهاد، أو المراد: رجوعه ثانياً إلى الغزو الذي جاء منه، أو في غيره لأمر يقتضي الرُّجوع لقي عدواً وقاتل، أو لا.

* * *

2907 -

وقال: "للغازي أَجْرُه، وللجاعِل أَجرُهُ وأجرُ الغازي".

"وعنه قال: قال رسول الله: للغازي أجره، وللجاعِل أجرُهُ وأجرُ الغازي"، وهو الذي يدفع جُعْلاً؛ أي: أجرة إلى غازٍ ليغزو، وهذا عندنا صحيح فيكون للغازي أجرةُ سعيه، وللجَاعل أجران: أجرة إعطاء المال في سبيل الله، وأجرة كونه سبباً لغزو ذلك الغازي، ومنعه الشافعي، وأوجب رَدَّه إنْ أخذه.

* * *

ص: 336

2908 -

عن أبي أيوبَ سَمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ستُفتَحُ عليكم الأمصارُ، وستكونُ جنودٌ مُجَنَّدةٌ، يُقطَعُ عليكم فيها بُعوثٌ، فيَكرهُ الرَّجلُ البعثَ فيَتخلَّصُ مِن قومِهِ، ثم يتصفَّحُ القبائلَ يَعرِضُ نفسَهُ عليهم: مَن أَكْفِيهِ بعثَ كذا، ألا وذلك الأجيرُ إلى آخرِ قطرةٍ من دمِهِ".

"عن أبي أيوب - رضي الله تعالى عنه -: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ستُفْتَحُ عليكم الأمصار وستكون جنودٌ": جمع جند، وهم الأعوان والأنصار.

"مجنَّدة"؛ أي: مجموعة.

"يُقْطَع"؛ أي: يقدر.

"عليكم فيها"؛ أي: في تلك الجنود.

"بُعوث": جمع بَعْثٍ؛ أي: جيوش يُبعثون إلى الغزو من كل قبيلة ومن قوم.

"فيكره الرجل البعث"؛ أي: الخروج مع الجيش إلى الغزو بلا أجرة.

"فيتخلَّص"؛ أي: فيخرج ويفرُّ.

"من قومه": طلباً للخلاص من الغزو.

"ثم يتصفَّح"؛ أي: بعد أن فارق هذا الكسلان قومه كراهة الغزو وتتبع. "القبائل يعرض نفسه عليهم" قائلاً: "مَنْ أكفيه بعثَ كذا"؛ أي: مَنْ يأخذني أجيراً أكفيه جيش كذا، ويكفيني هو مؤنتي.

"ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه"؛ أي: إلى أن يموت، أو يُقتل لم يكن له ثواب الجهاد كسائر الأُجَرَاء إذا لم يقصد بغزوه إلا الجعل المشروط، والمراد: المبالغة في نفي ثواب الغزو عن مثل هذا الشَّخص.

* * *

ص: 337

2909 -

عن يَعلى بن أُميَّةَ قال: آذَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالغزوِ، وأنا شيخٌ كبيرٌ ليسَ لي خادِمٌ، فالتمستُ أجيراً يَكفيني، فوَجَدْتُ رَجُلاً سَمَّيتُ لهُ ثلاثةَ دنانيرَ، فلمَّا حضرَتْ غَنيمةٌ أردْتُ أنْ أُجريَ لهُ سهمَهُ، فجئتُ إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكرتُ لهُ فقالَ:"ما أَجِدُ لهُ في غَزوَتهِ هذهِ في الدُّنيا والآخرةِ، إلا دنانيرَهُ التي سَمَّى".

"عن يَعْلَى بن أميَّة أنه قال: آذن"؛ أي: أعلم.

"رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالغَزْوِ، وأنا شيخ كبير ليس لي خادم، فالتمسْتُ"؛ أي: طلبْتُ.

"أجيراً يكفيني"؛ أي: يقوم بالخروج عنِّي إلى الغَزْوِ يأخذ الأجرة.

"فوجدْتُ رجلاً سمَّيْتُ له ثلاثة دنانير، فلما حضرَتْ غنيمةٌ أردْتُ أن أُجْرِيَ له سهمَهُ"؛ أي: أن آخذ له من الغنيمة مثل سهام سائر الغانمين.

"فجئْتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم فذكرْتُ له، فقال: ما أجِدُ له في غَزْوتهِ هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي تُسمَّى"؛ أي: ليس له في الدنيا من الغنيمة ولا في الآخرة من الثواب إلا ما أخذه من الأجرة.

* * *

2910 -

عن أبي هريرةَ: أن رَجُلاً قال: يا رسولَ الله! رجل يريدُ الجِهادَ في سبيلِ الله وهو يبتغي عَرَضاً مِن عَرَضِ الدنيا؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا أَجْرَ لهُ".

"عن أبي هريرة: أن رجلاً قال: يا رسول الله! رجلٌ يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي"؛ أي: يطلب.

"عَرَضاً من عَرَض الدنيا"، وهو - بالتحريك - ما كان من مال قلَّ أو كثر، وبالسكون المتاع، وكلاهما هنا جائز.

"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أَجْرَ له"؛ أي: لا ثواب له؛ لأنه لم يغزُ لله.

* * *

ص: 338

2911 -

وعن معاذٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "الغَزْوُ غَزْوانِ، فأمَّا مَن ابتغَى وجهَ الله، وأَطاعَ الإمامَ، وأَنفقَ الكريمةَ، وياسرَ الشَّريكَ، واجتنبَ الفسادَ، فإنَّ نومَهُ ونُبْهَهُ أجرٌ كلُّه، وأمَّا مَن غَزا فَخْراً ورِياءً وسُمْعَةً، وعَصَى الإمامَ وأَفسدَ في الأرضِ، فإنه لم يرجعْ بالكَفافِ".

"عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: الغزو غزوان، فأما مَنِ ابتغَى وجهَ الله"؛ أي: طلب رضا الله.

"وأطاع الإمام وأنفق الكريمة"؛ أي: المال النفيس.

"وياسَرَ الشَّريك"؛ أي: استعمل اليسر والسهولة مع الشَّريك؛ أي: الرفيق، نفعاً بالمعونة وكفاية.

"واجتنب الفساد"؛ أي: التجاوز عن المشروع قتلاً ونهياً وتخريباً.

"فإن نومه ونُبْهَهُ"؛ أي: يقظته وانتباهه من النوم.

"أجرٌ كلُّه"؛ يعني: أن مَنْ شأنه هذا مِنَ الغزاة فجميع حالاته من حركته وسكونه موجب للأجر؛ لإعانته على الغزو الموجب للثواب.

"وأما مَنْ غزا فَخْراً"؛ أي: لادعاء عظم وكبر وشرف.

"ورياء وسُمْعة"؛ أي: ليراه الناس ويسمعوه.

"وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكَفَاف" من الثواب، أو من الرزق، أو معناه: لم يرجع من الغزو رأساً برأس بحيث لا يكون له أجر ولا يكون عليه وزر، بل يرجع ووزره أكثر من أجره.

* * *

2912 -

عن عبدِ الله بن عَمرٍو أنه قال: يا رسولَ الله! أَخبرني عن الجهادِ؟ فقالَ: "إنْ قاتلْتَ صابراً مُحْتسِباً بعثَكَ الله صابراً محتسباً، وإنْ قاتلْتَ

ص: 339

مُرائياً مُكاثِراً، بعثَكَ الله مُرائياً مُكاثِراً، يا عبدَ الله بن عمروٍ! على أَيِّ حالٍ قاتلْتَ أو قُتِلْتَ بعثَكَ الله على تِيكَ الحالِ".

"عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال: يا رسول الله! أخبرني عن الجهاد؟ "؛ أي: عن ثوابه.

"فقال: إن قاتلت صابراً محتسباً"؛ أي: خالصاً لله.

"بعثك الله صابراً محتسباً، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً"؛ أي: مفاخراً، وقيل: هو أن يقول الرجل لغيره: أنا أكثر منك مالاً وعدداً، يعني: غزوت ليقال: إنك أكثر جيشاً وأشجع.

"بعثك الله مرائياً مكاثراً": ويُنادى عليك يوم القيامة: إنَّ هذا غزا فخراً ورياءً لا محتسباً.

"يا عبد الله بن عمرو! على أيَّ حال قاتلْتَ، أو قُتِلْتَ بعثَكَ الله على تيك الحالة": وهذا يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس مجزيون بأعمالهم".

* * *

2913 -

عن عُقبَةَ بن مالكٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أَعَجَزتُم إذا بَعثتُ رَجُلاً فلم يَمْضِ لأمري، أنْ تَجْعَلُوا مكانَه مَن يَمضي لأمري".

"عن عُقْبَة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أَعَجَزْتُم إذا بَعثْتُ رجلاً"؛ أي: جعلته عليكم أميراً وأمَّرتُهُ بأمْرٍ.

"فلم يَمْضِ لأمري"؛ أي: لم يمتثل بما أمرته.

"أن تجعلوا مكانه مَنْ يَمْضي لأمري"؛ يعني: فاعزلوه واجعلوا مكانه أميراً آخر يمتثل بما أمرته، وعلى هذا إذا ظلم الأمير الرَّعية ولم يَقُم بحقِّ حفظهم، جاز لهم أن يعزلوه ويقيموا غيره مقامه.

ص: 340