الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
15 -
كِتَابُ الحُدُودِ
(كتاب الحدود)
1 - باب
مِنَ الصِّحَاحِ:
2677 -
عن أبي هريرةَ، وزيدِ بن خالدٍ: أن رَجُلينِ اختصَما إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ أحدُهما: اقضِ بينَنا بكتابِ الله، وقال الآخرُ: أجلْ يَا رسولَ الله، فاقضِ بيننَا بكتابِ الله وائذنْ لي أنْ أَتكلَّمَ، قال:"تَكَلَّمْ"، قال: إنَّ ابني كانَ عَسِيفًا على هذا، فزنىَ بامرأتِه فأَخبرُوني أن على ابني الرَّجمَ، فافتدَيْتُ مِنهُ بمئةِ شاةٍ وبجَاريةٍ لي، ثم إنِّي سأَلتُ أهلَ العِلْم فأَخبروني أن على ابني جلدَ مئةٍ وتَغرِيبَ عامٍ، وإنَّما الرجمُ على امرأتِهِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَمَا والذي نفسي بيدِه لأَقضيَنَّ بينَكما بكتابِ الله تعالى، أَمَّا غَنَمُكَ وجاريتُكَ فردٌّ عليكَ، وأمَّا ابنك فعليهِ جلدُ مئة وتغريبُ عامٍ، وأمَّا أنتَ يَا أُنيسُ فاغدُ على امرأةِ هذا فإنْ اعترفَتْ فارجمْها"، فاعترفَتْ فرجمَها.
"من الصحاح":
" عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رجلَين اختصما إلى رسول الله، فقال
أحدهما: اقضِ بيننا بكتاب الله"؛ أي: بحكمِه.
"وقال الآخر: أي: أي: نعمْ.
"يَا رسولَ الله! فاقضِ بيننا بكتاب الله وائذَنْ لي أن أتكلَّمَ، قال: تكلَّمْ": وهذا يدل على أن للحاكم أن يبدأ باستماع كلام أيِّ الخصمَين شاء.
"قال: إن ابني كان عَسيفًا"؛ أي: أجيرًا "على هذا": فعيل بمعنى: مفعول، كـ (أسير)، أو بمعنى: فاعل كـ (عليم)، وإنما قال:(عسيفًا على هذا)، ولم يقل: لهذا؛ نظرًا إلى جانب العَسِيف؛ فإن له على المستأجر الأجرةَ المسماةَ من جهة الخدمة، ولو قال: لهذا؛ لَكانَ نظره إلى جانب المستأجِر؛ لِمَا يَلزَم له على العَسِيف [من] العمل المسمى المعلوم.
وفيه: دلالة على جواز إجارة الإنسان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر قوله.
"فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجمَ، فافتديت منه بمئةِ شاةٍ وجاريةٍ لي، ثم إنِّي سأَلتُ أهلَ العلم"، وفيه: دليل على أن الاستفتاءَ من المفضول مع وجود الفاضل جائزٌ.
"فأخبروني أن على ابني جلدَ مئةٍ وتغريبَ عامٍ"؛ أي: سَنةٍ.
"وإنما الرجمُ على امرأته، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أَمَا": حرف تنبيه.
"والذي نفسي بيده! لاقضيَنَّ بينكما بكتاب الله"؛ أي: بما فرضَه وأوجبَه، قيل: ذَكر الرجمَ وإن لم يكن منصوصًا عليه صريحًا، فإنَّه مذكورٌ في الكتاب على سبيل الإجمال، وهو قوله تعالى:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] والأذى ينطبق على الرجم وغيره من العقوبات.
"أمَّا غنمُك وجاريتُك فردٌّ عليك"؛ أي: مردودٌ إليك، يدلُّ على أن المأخوذَ بعقدٍ فاسدٍ مستحقُّ الردِّ على صاحبه، غيرُ مملوكٍ للآخر.
"وأمَّا ابنك فعليه جلدُ مئةٍ" على تقدير إن ثبتَ ذلك بإقراره، أو بشهادة أربعة.
"وتغريبُ عامٍ، وأما أنتَ يَا أُنيس": هو أُنيس الأسلمي.
"فاغْدُ"؛ أي: اذهبْ وقتَ الغداة.
"على امرأة هذا، فإن اعترفت"؛ أي: أقرَّتْ بالزنا "فارجُمْها، فاعترفتْ، فرجَمَها": وهذا يدل على إقامة الحد على المُقِرِّ على نفسه مرةً، وبه قال الشَّافعيّ، وعلى اشتراط عدم حضور الإِمام مجلسَ الرجم، وعلى جواز الوكالة في إقامة الحدود، وعلى أنها لو لم تعترفْ فلا حدَّ عليها، وعلى أن أحدَ الزانيَين لو كان مُحَصنا دونَ الآخر يُرجَم المُحصَنُ، ويُجلَد الآخرُ.
* * *
2678 -
عن زيدِ بن خالدٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يأمرُ فيمن زنىَ ولم يُحْصِنْ جلدَ مئةٍ وتَغريبَ عامٍ.
"عن زيد بن خالد أنَّه قال: سمعتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يأمر فيمَن زنى ولم يُحصن جلدَ مئةٍ وتغريبَ عام". مَن لم يَرَه من العلماء حدًّا يَحمل الأمرَ فيه على المصلحة، كما رُوي: أن رجلًا قَتلَ عبدَه عمدًا، فجلدَه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مئةَ ونفاه سنةً، ولم يكن ذلك بطريق الحدِّ، بل بطريق المصلحة التي رآها الإمام.
* * *
2679 -
وقال عمرُ رضي الله عنه: إنَّ الله تعالى بعثَ مُحمَّدًا بالحقّ وأنزلَ عليهِ الكتابَ، وكان ممَّا أَنزلَ الله: آيةَ الرَّجم، فرجَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورَجَمْنا بعدَه، والرَّجمُ في كتابِ الله حق على مَنْ زنىَ إذا أُحْصِنَ، مِن الرجالِ والنساءَ إذا قامَتْ البينة، أو كانَ الحَبَلُ، أو الاعترافُ.
"وقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتابَ، فكان مما أنزل آيةُ الرجم": وهو قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16].
"فرَجَمَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورَجَمْنَا بعدَه، والرجمُ في كتاب الله حقٌّ على مَن زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحَبَلُ" بفتح الباء؛ أي: الحَمْلُ.
"أو الاعترافُ"؛ أي: الإقرارُ.
* * *
2680 -
عن عُبادةَ بن الصَّامتِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "خُذُوا عنِّي، خُذُوا عنِّي، قد جعلَ الله لهنَّ سبيلًا، البكرُ بالبكرِ جلدُ مئةٍ وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مائةٍ والرَّجمُ".
"عن عُبادة بن الصامت: أن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: خذوا عني"؛ أي: احفظوا عني هذا الحكمَ في حدِّ الزنا.
"خذوا عني"، كرَّر للتأكيد.
"قد جعل الله لهن سبيلًا"؛ أي: حدًّا واضحًا في حقِّ المحصن وغيره، وهو بيان قوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15].
وإنما قال صلى الله عليه وسلم: (قد جعل الله لهن)، ولم يقل: لهم؛ ليوافقَ نظمَ القرآن.
"البكْر"؛ أي: في زنا البكْر.
"بالبكْر جلد مئة وتغريب عام": بيانٌ لذلك السبيل.
"والثيب"؛ أي: في زنا الشيب.
"بالثيب جلد مئة والرجم"، وأكثر الصَّحَابَة والتابعين وعامة الفقهاء على أنَّه: لا جَلْدَ على المُحصَن مع الرجم، وقالوا: الجَلدُ منسوخٌ فيمَن وجب عليه الرجمُ.
* * *
2681 -
عن عبدِ الله بن عمرَ: أن اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فذكروا لهُ أن رجلًا مِنهم وامرأة زَنيَا، فقالَ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما تَجدونَ في التوراةِ؟، قالوا: نَفْضَحُهم ويُجْلَدُونَ، فقال عبدُ الله بن سَلَام: كذبْتم، إن فيها الرجمَ، فأتَوا بالتوراةِ فنَشَرُوها فوَضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرجم، فقرأَ ما قبلَها وما بعدَها، فقال له عبدُ الله بن سَلَام: ارفَعْ يدَكَ فرفَعَ يَدَه، فإذا فيها آيةُ الرجم - ويروى: فإذا فيها آيةُ الرَّجم تلوحُ - فأَمَر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرُجِما.
"عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: أن اليهودَ جاؤوا إلى النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأةً زَنيَا، فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما تجدون في التوراة؟ قالوا: نَفضحُهم ويُجلَدون": سؤاله صلى الله عليه وسلم ليس لتقليدهم، ولا لمعرفة الحكم منهم؛ وإنما هو لإلزامهم ما يعتقدونه في كتابهم، ولإظهار ما كَتَمُوه من حكم التوراة.
"قال عبد الله بن سلام: كذبتُم؛ إن فيها آيةَ الرجم، فَأَتَوا بالتوراة فنَشَرُوها"؛ أي: فتحوا التوراة.
"فوضعَ أحدُهم": قيل: هو ابن صوريا، أعورُ من اليهود.
"يدَه على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفعْ يدَك، فرفع، فإذا فيها آيةُ الرجم".
"ويروى: فإذا آيةُ الرجم تَلُوحُ"؛ أي: تَظهَر.
"فأَمرَ بهما رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرُجِمَا" فإن قيل: كيف رَجَمهما بقول اليهود: إنهما زَنيًا؛ إذ لا اعتبارَ بشهادتهم؟
قلنا: الظاهر أنهما أقرَّا بذلك، أو شَهِدَ عليهما أربعةٌ من المسلمين، والحديث يدل على أن أنكحتَهم توجب التحصينَ؛ إذ لا رجمَ إلَّا به، وعليه الشَّافعيّ.
قلنا: رجمُه صلى الله عليه وسلم كان بحكم التوراة قبلَ نزول آية الجلد، ثم نُسخ.
* * *
2682 -
عن أبي هريرةَ صلى الله عليه وسلم قال: أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ وهو في المسجدِ فناداهُ: يَا رسولَ الله! إنِّي زنيتُ، فأَعرضَ عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فتَنَحَّى لِشقِّ وجههِ الذي أَعرضَ قِبَلَه فقال: إنِّي زنيتُ فأَعرَضَ عنه، فلمَّا شَهِدَ أربعَ شهاداتٍ دعاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ:"أَبكَ جنون؟ " قال: لا، فقال:"أَحْصَنْتَ؟ " قال: نعم، يَا رسولَ الله، قال:"اذهبُوا بهِ فارجمُوه".
"عن أبي هريرة أنَّه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل وهو في المسجد، فناداه: يَا رسول الله! إنِّي زنيت، فأعرض عنه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فتنحى لشقِّ وجهه الذي أعرض قِبَلَه"؛ أي: قَصَدَ الجهة التي إليها وجهُه ونحا نحوها.
"فقال: إنِّي زنيت، فأعرض عنه، فلما شهد أربع شهادات"؛ أي: أقرَّ على نفسه أربع مرات، كأنه شهد عليها بإقراره بما يوجب الحد.
"دعاه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا"؛ أي: ليس بي جنون.
"فقال: أُحصنت"؛ أي: صرت محصنًا.
"قال: نعم يَا رسول الله، قال: اذهبوا به فارجموه" وهذا يدل على أن
الإِمام ينبغي له أن لا يبادر إلى إمضاء الحد قبل تقرُّر مُوجِبه.
* * *
2683 -
وقال جابرٌ رضي الله عنه: فأَمَرَ بهِ فرُجِمَ بالمصلَّى، فلمَّا أَذْلَقَتْه الحجارةُ فرَّ فَأُدرِكَ فرُجِمَ حتَّى ماتَ، فقالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خيرًا، وصلَّى عليهِ.
"وقال جابر - رضي الله تعالى عنه - فأمر به فرُجم بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة"؛ أي: أصابته حِدَّتها وشدتها "فرّ"؛ أي: هرب.
"فأُدرك فرُجم حتَّى مات" وهذا يدل على أن المرجوم لا يُشد ولا يُربط، ولا يجعل في حفرة، إذ لو كان شيء من ذلك لم يمكنه الفرار.
"فقال له النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خيرًا"؛ أي: أثنى عليه بعد موته.
"وصلى عليه" صلاة الجنازة.
* * *
2684 -
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "لمَّا أتَى ماعِزُ بن مالكٍ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رسولَ الله! زنيتُ فطهِّرْني، فقال لهُ: "لعلَّكَ قبَّلْتَ أو غَمَزْتَ أو نظرْتَ" قال: لا يَا رسولَ الله، قال: "أَنِكْتَها؟ " - لا يَكْني - قال: نعم، فعند ذلك أمرَ بِرَجمِهِ.
"عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال: لما أتى ماعز بن مالك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له: لعلك قبلت أو غمزتُ من غمزتُ الشيء بيدي؛ أي: لمستُه بها، أو من غمزته بعيني: إذا أشرف بها إليه.
"أو نظرت" وهذا يدل على أن مَن أقرَّ بما يوجب عقوبة الله على نفسه فيجوز للإمام أن يلقِّنه ما يُسقط عنه الحد.
"قال: لا يَا رسول الله، قال: أنكتها" من النيك وهو الجماع.
"لا يَكْني" من الكناية، وهو قول الراوي؛ أي: قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم معه بالصريح لا بالكناية.
"قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه".
* * *
2685 -
عن بُريدَة قال: جاءَ ماعِزُ بن مالك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رسولَ الله! طهِّرني، فقال:"ويحَكَ، ارجعْ فاستغفر الله وتُبْ إليهِ"، قال: فرجعَ غيرَ بعيدٍ ثم جاءَ فقال: يَا رسولَ الله! طهِّرني، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلكَ، حتَّى إذا كانت الرابعةُ قالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فممَّ أُطهِّرُكَ؟ " قالَ: مِن الزنا، فسألَ رسولُ الله:"أَبهِ جنونٌ؟ " فأُخبرَ أنَّه ليسَ بمجنونٍ، فقال:"أشربَ خمراً؟ " فقامَ رجلٌ فاستَنْكَهَهُ فلم يجدْ منهُ ريحَ خمرٍ، فقال:"أَزَنيتَ؟ " قال: نعم، فأَمَرَ بهِ فرُجِمَ، فلَبثُوا يومينِ أو ثلاثةً ثم جاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"استغفُروا لِماعزِ ابن مالك، لقد تابَ توبةً لو قُسِمَتْ بينَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهم"، ثم جاءَتْه امرأةٌ مِن غامِدٍ من الأزْدِ فقالت: يَا رسولَ الله! طهِّرني، فقالَ:"ويحكِ! ارجِعِي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فقالت: تُريدُ أنْ تُرَدِّدَني كما رَدَّدْتَ ماعِزَ بن مالكٍ، إنَّها حُبْلى مِن الزنا! فقال:"أنتِ؟ " قالت: نعم، قالَ لها:"حتَّى تَضَعي ما في بطنِكِ"، قال: فكَفَلَها رجلٌ من الأنصارِ حتَّى وضعَتْ، فأَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعَتْ الغامِديةُ، فقال:"إذًا لا نرجُمُها وندع ولدَها صغيراً لَيسَ له مَن تُرضعُه"، فقامَ رجلٌ مِن الأنصارِ فقال: إليَّ رَضاعُه يَا نبيَّ الله، قال: فرجَمَها. ويروى أنَّه قالَ لها: "اذهبي حتَّى تَلِدي"، فلمَّا وَلَدَتْ قال:"اذهبي فأَرضعيهِ حتَّى تَفْطِميه"، فلمَّا فطمَتْه أتته بالصبيِّ في يدِه كِسْرةُ خبزٍ فقالت: هذا يَا نبيَّ الله! قد فطمْتُه وقد كلَ الطعامَ، فدفعَ الصبيَّ إلى رجلٍ من المسلمينَ، ثم أمرَ بها فحُفِرَ لها إلى صدرها وأمَرَ النَّاسَ فرجمُوها، فيُقبلُ خالدُ بن الوليدِ بحجرٍ فرَمَى رأسَها،
فتَنَضَّح الدمُ على وجهِ خالدٍ فَسَبَّها، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"مهلًا يَا خالدُ! فوَالذي نفسي بيدِه لقد تابَتْ توبةً لو تَابَها، صاحبُ مَكْسٍ لغُفِرَ لهُ"، ثم أَمَرَ بها فصلَّى عليها ودُفِنَت.
"عن بريدة أنَّه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رسول الله! طهّرني، فقال: ويحك" كلمة ترحُّمٍ وتوجُّعٍ.
"ارجع واستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يَا رسول الله! طهرني، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتَّى إذا كانت الرابعة فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ممَّ أطهرِّك؟ قال: من الزنا"؛ أي: طهرني من ذنب الزنا بإقامة الحد عليَّ.
"قال"؛ أي: الراوي: "فسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أبهِ جنون؟ فأُخبر أنَّه ليس بمجنون، فقال: أشربَ خمرًا؟ فقام رجل فاستنكهه"؛ أي: طلب نكهته وهي الرائحة "فلم يجد منه ريح خمر، فقال: أزَنيَت؟ قال: نعم، فأمر به فرجم، فلبثوا يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسولَ الله فقال: استغفروا لماعز بن مالك" والفائدة منه طلبُ مزيد الغفران له من الترقِّي.
"لقد تاب توبة لو قُسِمَت بين أمة محمَّد لوسعتهم"؛ يعني: تاب توبةً تستوجب مغفرةً ورحمة تستوعبان جماعة كثيرة من الخلق.
"ثم جاءته امرأة من غامد": حي من اليمن.
"من الأَزدِ": أبو حي، وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ.
"فقالت: يَا رسول الله! طهِّرني، فقال: ويحكِ ارجعي واستغفري الله وتوبي إليه، فقالت: تريد" - خطاب إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم "إن تردِّدني كما ردَّدْتَ ماعز ابن مالك، إنها حبلى من الزنا" أرادت نفسَها، ولم تقل: إنِّي، حياءً.
"فقال: أَنْتَ؟ قالت: نعم، قال لها: حتَّى تضعي ما في بطنك، قال: فكفلها"؛ أي: تقبل حفظها والقيام بمصالحها "رجل من الْأَنصار حتَّى وضعت" وفيه دليل على أن الحامل لا يقام عليها الحدُّ ما لم تضع الحمل؛ لئلا يلزم إهلاكُ البريء بسبب المذنب، سواءٌ كانت العقوبةُ لله تعالى، أو للعباد.
"فأتَى"؛ أي: ذلك الرَّجل "النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية"؛ أي: المرأة الغامدية.
"فقال"؛ أي: النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له مَن يرضعه، فقام رجل من الْأَنصار فقال: إلى رَضَاعه يَا نبي الله، قال: فرجمها".
"وروي: أنَّه قال لها: اذهبي حتَّى تلدي، فلما ولدت قال: اذهبي فأرضعيه حتَّى تفطميه" فِطام الصبي: فِصاله عن أمه، وهذا يدل على أن رجم الحامل يؤخَّر إلى أن يستغني ولدها عنها إذا لم يوجد من يقوم بتربيته، وبه قال أبو حنيفة في رواية.
"فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يَا نبي الله قد فطمتُه وقد كل الطعام، فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحُفِر لها إلى صدرها" يدل على أنَّه يحفر للمرأة في الرجم.
"وأمر النَّاس فرجموها" وهذه الرواية صريحةٌ في أن رجمها كان بعد الفطام، والرواية الأولى ظاهرةٌ في أن رجمها عقيب الولادة، والروايتان صحيحتان، تأويله: أن قوله: (إلى رضاعه) إنما كان بعد الفطام، وأراد بالرضاع: كفايتَه ومؤونته، سماه رضاعا مجازًا.
"فيُقبل" بصيغة المضارعة من الإقبال.
"خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها فتنضَّح الدم"؛ أي: وقع رشاشُ دمٍ المرجومة "على وجه خالد، فسبها"؛ أي: شتمها خالد.
"فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: مهلًا يَا خالد"؛ أي: امهل مهلًا؛ أي: رفقًا، ولا تَغْتَبْ عليها؛ فإنَّها مغفورةٌ مرحومة.
"فوالذي نفسي بيده لقد ثابت توبة لو تابها صاحبُ مَكْسٍ"، وهو ما يأخذه الماكس، وهو العشَّار الذي يأخذ العشر، وأصله: الخيانة.
"لغُفِر له، ثم أَمُر بها فصُلِّي عليها ودُفِنت".
* * *
2686 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال، سَمِعْتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"إذا زنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُم فتبيَّنَ زناها فلْيَجْلِدْها الحد ولا يُثرِّبْ عليها، ثم إنْ زَنَتْ فلْيجلِدْها الحدَّ ولا يثرِّبْ، ثم إنْ زنَت الثَّالثةَ فتبيَّنَ رناها فليَبعْها ولو بحبْلٍ من شَعرٍ".
"عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إذا زنت أمَةُ أحدكم فتبيَّن زناها فليجلدها الحد" نصب مفعول مطلق.
وفي ذكر الأمة على الإطلاق إشعارٌ بأن حدَّها منكوحةً كانت أو غيرَها الجلدُ، إلَّا أنَّه نصفُ جَلْدِ الحرائر؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] أريد بالعذاب: الجلد لا الرجم؛ لأنه لا يتنصَّف.
استدل بالحديث الشَّافعيّ على أن للمولى إقامةَ الحد على مملوكه، والحنفيون حملوا قوله:(فليجلدها) على التسبيب؛ يعني: ليكن سببًا لجلدها بالمرافعة إلى الإِمام.
"ولا يثرِّب عليها؛ أي: لا يعيرها أحد بعد الحد فإنَّه كفارة لذنبها.
ثم إن زنت فليجلدها الحدَّ ولا يثرِّب عليها، ثم إن رنت الثالثة فتبيَّن
زناها فليبعها ولو بحبلٍ من شعرٍ"؛ أي: وإن كان ثمنها قليلًا، وهذا الأمر للاستحباب، وهذا يدل على أن الزنا عيب يردُّ به المبيع، ولذا حطَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم به من قيمتها.
فإن قيل: إنما يبيعها لأنه يكرهها، فكيف يرتضيها لأخيه المسلم؟!.
قلنا: يبيعها على قصد أن تستعفَّ عند المشتري بهيبته، أو بالإحسان إليها، أو بغير ذلك.
* * *
2687 -
عن عليٍّ رضي الله عنه قال: يَاأيُّها النَّاسُ! أقيموا على أَرِقَّائِكُم الحدَّ، مَن أَحْصَنَ منهم ومَن لم يُحْصِنْ، فإنَّ أَمَةً لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم زنَتْ، فأَمَرَني أنْ أجلِدَها فإذا هيَ حديثُ عهدٍ بنفاسٍ، فخشيتُ إنْ أنا جلدتُها أنْ أقتُلَها، فذكرتُ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ:"أحسنتَ".
وفي روايةٍ قال: "دعْها حتَّى ينقطعَ دمُها ثم أَقِمْ عليها الحدَّ، وأقيمُوا الحدودَ على ما ملكَتْ أيمانُكم".
"عن علي - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: يَا أيها النَّاس أقيموا على أرقَّائكم" - جمع رقيق -.
"الحد" والمراد منه: الجلد.
"من أُحصن منهم ومَن لم يُحصن، فإن أمةً لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زنت": وإنما صدر منها ذلك؛ لكونها قريبة العهد من الجاهلية.
"فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثُ عهدٍ بنفاسٍ، فخشيت إن أنا جلدتُها أن أقتلها، فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: أحسنت"؛ أي: فعلت فعلًا حسنًا، وهذا يدل على أن جَلْدَ ذات النفاس يؤخَّر حتَّى تخرج من نفاسها؛ لأن نفاسها نوعُ مرضٍ فيؤخَّر إلى زمان البرُء.
"وفي رواية: دعها"؛ أي: اتركها "حتَّى ينقطع دمها، ثم أقم عليها الحدَّ، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم".
* * *
مِنَ الحِسَان:
2688 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: جاءَ ماعِز الأسلَميُّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّه قد رنى - فذكر الحديثَ وقال - فلما وجدَ مسَّ الحجارةِ فرَّ يشتدُّ حتَّى مرَّ برجلٍ معه لَحْيُ جملٍ فضَربَهُ بهِ وضَربَهُ النَّاسُ حتَّى ماتَ، فذَكرُوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه فرَّ فقال:"هلاً تركتُموه".
وفي رواية: "هلاً تركتُموه لعلَّه أنْ يتوبَ فيتوبَ الله عليهِ".
"من الحسان":
" عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: جاء ماعز الأسلمي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إنه قد زنى فذكر الحديث.
"وقال"؛ أي: الراوي: "فلما وجد"؛ أي: ماعز "مسَّ الحجارة فر"؛ أي هرب "يشتد"؛ أي: يعدو.
"حتَّى مر برجل معه لحْيُ جمل"(اللحي) بفتح اللام وسكون الحاء المهملة: منبتُ اللحية من الإنسان وغيره.
"فضربه به وضربه النَّاس حتَّى مات، فذكروا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّه فر فقال: هلا تركتموه" يدل على أن المقِرَّ على نفسه بالزنا لو قال: ما زنيت، أو: كذبت، أو: رجعت، سقط عنه الحد، وإن رجع في أثناء إقامته عليه سقط الباقي.
وقال جمع: لا يسقط، إذ لو سقط لصار ماعز مقتولًا خطأ، فتجب الدية
على عواقل القاتلين.
قلنا: بأنه لم يرجع صريحًا؛ لأنه هرب، وبالهرب لا يسقط الحد، وتأويل قوله:(هلا تركتموه)؛ أي: لننظر في أمره ونفتِّش عن المعنى الذي هرب من أجله؛ ليُعلم أهَرَبَ مِن ألم الحجارة، أو رجع عن إقراره بالزنا؟.
"وفي رواية: هلا تركتموه لعله أن يتوب"؛ أي: عساه أن يرجع عن فعله.
"فيتوب الله عليه"؛ أي: رجع بقبول توبته.
* * *
2689 -
عن ابن عباسٍ: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لماعزٍ: "أَحَقٌّ ما بَلَغني عنكَ؟ " قال: وما بلنَكَ عني؟ قال: "بلغَني أنكَ وقعْتَ على جاربةِ آلِ فلانٍ"، قال: نعم، فشهدَ أربعَ شهاداتٍ فأَمَرَ به فرُجِمَ".
"عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال لماعز: أحق"؛ أي: أثابتٌ "ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني أنك وقعت على جارية آل فلان" وهو هَزَال مولى تلك الجارية، واسمها فاطمة؛ أي: زنيتَ بها.
"قال: نعم، فشهد أربع شهادات"؛ أي: أقرَّ أربع مرات.
"فأمر به برجمه فرُجم".
* * *
2690 -
عن ابن المُنكَدِر: أن هزَّالًا أَمَرَ ماعزًا أنْ يأتيَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فيُخبرَهُ.
"عن ابن المنكدر أن هزالًا" بفتح الهاء وتخفيف الزاي المعجمة.
"أمر ماعزًا أن يأتي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لي الله تعالى عليه وسلم فيخبره" يريد به السوء والهوان قصاصًا لفعله بمولاته.
* * *
2691 -
وعن يزيدَ بن نُعيم، عن أَبيه: أن ماعزًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأقرَّ عندَه أربعَ مراتٍ، فأمرَ برجمِهِ وقال لهزَّالٍ:"لو ستَرْتَه بثوبكَ كانَ خيرًا لك".
"عن يزيد بن نعيم عن أَبيه: أن ماعزًا أتى النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه وقال"؛ أي: النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم "لهزال: لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك" وفيه تعريض بالتوبيخ على صنيعه في هتك ستره.
* * *
2692 -
عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أَبيه، عن عبد الله بن عمرِو بن العاعرِ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "تَعافَوا الحُدودَ فيما بينَكم فما بَلغني مِن حدِّ فقد وَجب".
"عن عمرو بن شعيب عن أَبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: تعافَوا الحدود فيما بينكم"؛ أي: ينبغي أن يعفو بعضُكم عن بعض قبل أن يبلغني عن حدود الله إذا رفع إليكم.
"فما بلغني من حدٍّ فقد وجب"؛ أي: وجب عليَّ إقامتُها عليكم، يدل على أن الإِمام لا يجوز له العفو عن حدود الله إذا رفع [الأمر] إليه.
* * *
2693 -
وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَقِيلُوا
ذَوي الهَيْئاتِ عَثَراتِهم إلَّا الحُدودَ".
"وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها -: أن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أقيلوا": من الإقالة بمعنى العفو.
"ذوي الهيئات" جمع هيئة، وهي صورة الشيء وشكلهُ وحالته، والمراد هنا: الحالة التي يكون الإنسان عليها ونحوها، والمراد بذوي الهيئات هنا: ذوو المروءات وأصحاب الوجوه. وقيل: هم أهل الصلاح والورع.
"عثراتهم": جمع عشرة وهي الزلة؛ يعني: اعفوا عن زلاتهم فيما يوجب التعزير.
"إلَّا الحدود" قيل: استثناء الحدود دليلٌ على أن الخَطَّاب للأئمة الذين إليهم إقامة الحدود؛ فإنهم إذا بلغهم الحدود لا يقدرون على عفوها، وقيل: الخَطَّاب لذوي الحقوق، وقيل: لهما، والمراد بالعثرات. صغائر الذنوب وما يندر عنهم من الخطايا فيكون الاستثناء منقطعًا، أو الذنوب مطلقًا وبالحدود ما يوجبها من الذنوب فيكون متصلًا.
* * *
2694 -
وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ادرَؤوا الحدودَ عن المسلمينَ ما اسْتَطَعْتُمْ، فإنْ كانَ لهُ مَخْرَجٌ فخلُّوا سبيلَهُ، فإنَّ الإمامَ أنْ يُخطِيءَ في العفوِ خيرٌ مِن أن يُخطِيءَ في العقوبةِ" ولم يرفعْهُ بعضُهم وهو الأصحُ.
"وعنها: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ادرؤوا الحدود"؛ أي: ادفعوها.
"عن المسلمين ما استطعتم" بإظهار المحامل "فإن كان له"؛ أي: للحد
المدلول عليه بالحدود "مخرج"؛ أي: عذرٌ في دفعه "فخلوا سبيله فإن الإمام": الفاء للتعليل؛ يعني: ادفعوها ما استطعتم. قبل أن تصل إلى الإِمام، فإن الإِمام "أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"؛ يعني: إن يسلك سبيل الخطأ في عفو الذنب الذي صدر منكم خير من أن يسلك سبيل الخطأ في الحدود، فإن الحد إذا وصل إلى الإمام وجب عليه الإنفاذ.
"ولم يرفع بعضهم"؛ أي: هذا الحديث إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم "وهو الأصح".
* * *
2695 -
عن وائلِ بن حُجْرٍ رضي الله عنه قال: استُكْرِهَتْ امرأةٌ على عهدِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فدَرَأَ عنها الحَدَّ وأقامَهُ على الذي أصابَها، ولم يذكر أنَّه هل جعلَ لها مهرًا.
"وعن وائل بن حجر أنَّه قال: استُكرهت امرأة"؛ أي: جامعها رجل بالإكراه.
"على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: في زمانه.
"فدرأ"؛ أي: دفع.
"عنها الحد" لكونها مكرهةً.
"وأقامه"؛ أي: الحد.
"على الذي أصابها"؛ يعني: أمر بحدِّ الرَّجل فحُدَّ.
"ولم يذكر"؛ أي: الراوي.
"أنَّه هل جعل لها مهرًا" فعدم ذكره لا يدل على عدم وجوبه؛ لثبوت وجوبه بأحاديث أخرى.
* * *
2696 -
عن علقمةَ بن وائلٍ، عن أَبيه: أن امرأة خرجَتْ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تريدُ الصلاةَ، فتلقَّاها رَجُل فتَجَلَّلَها فقَضَى حاجتَه منها، فصاحَتْ وانطلقَ، ومرَّتْ عِصابةٌ مِن المُهاجرينَ فقالَت: إنَّ ذلكَ فعلَ بي كذا وكذا، فأخذوا الرجلَ فأتَوا بهِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها:"اذهبي فقد غفرَ الله لكِ" وقالَ للرَّجُل الذي وقعَ عليها: "ارجمُوه"، وقال:"لقد تابَ توبة لو تابَها أهلُ المدينةِ لَقُبلَ منهم".
"عن علقمة بن وائل عن أَبيه: أن امرأة خرجت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تريد الصلاة فتلقاها"؛ أي: استقبلها؛ رجل فتجللها"؛ أي: غَشِيَها وعلاها، يقال: تجلَّلت بالثوب؛ أي: لبسته.
"فقضى حاجته منها، فصاحت وانطلق، ومرت عصابة"؛ أي: جماعة "من المهاجرين فقالت: إن ذاك فعل بي كذا وكذا، فأخذوا الرَّجل فأتوا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال لها: اذهبي فقد غفر الله لك"؟ يعني: ما أمر بحدها؛ لكونها مكرهة.
"وقال للرجل" الذي وقع عليها: "ارجموه" معناه: أقر بالزنا، ثم أمر برجمه فرجموه لكونه محصنًا.
"وقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقُبل منهم".
* * *
2697 -
عن جابرٍ رضي الله عنه: أن رَجُلًا زَنَى بامرأةٍ فأَمَرَ بهِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فجُلِدَ الحدَّ، ثم أُخبرَ أنَّه مُحْصَنٌ فأمرَ به فرُجِمَ.
"عن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن رجلًا زنى بامرأة، فأمر به النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فجلد الحد، ثم أُخبر أنَّه محصَن فأمر به فرجم"
وهذا يدل على أن أحد الأمرين لا يقوم مقام الآخر، وعلى أن الحاكم إذا حكم بشيء، ثم بأن أن الواجب غيره، وجب عليه الرجوع عنه إليه.
* * *
2698 -
عن سعيدِ بن سعدِ بن عُبادةَ: أن سعدَ بن عُبادة أبي النبيَّ صلى الله عليه وسلم برجل كانَ في الحيِّ مُخْدَجٍ سقيمٍ، فوُجِدَ على أَمةٍ مِن إمائِهم يَخْبُثُ بها فقال:"خُذُوا لهُ عِثْكالًا فيه مئةُ شِمْراخٍ فاضرِبُوهُ بهِ ضربةً".
"عن سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما: أن سعد بن عبادة أتى النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم برجل كان في الحي"؛ أي: في القبيلة.
"مخدج"؛ أي: ناقص الخلق.
"سقيم" صفة ثانية لـ (رجل).
"فوُجد على أمة من إمائهم يخبث"؛ أي: يزني بها.
"فقال"؛ أي: النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: "خذوا له عِثكالًا" بكسر العين: العِذْق، وهو العود الذي عليه البُسْرُ، وهو في النخل بمنزلة العنقود للعنب، وعيدان العثكال شماريخ، واحدها: شمراخ.
"فيه مئة شمراخ فاضربوه به ضربة" قال الشَّافعيّ رحمه الله تعالى: هذا في المخدج، أو مريض لا يرجى بُرؤُه، فيضرب بما ذكر بحيث يتثاقل عليه الضرب بجميع الشماريخ، فإن كان على العثكال خمسون شمراخًا ضُرب به مرتين فيحصل الحد، قال الله تعالى:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] وإن رُجي زوال مرضه أُخِّر الضرب حتَّى يبرأ.
وهو يدل على أن للإمام المراقبة في الحدود، ولم هي كثيرٌ من العلماء العمل به لمخالفته النص وهو قوله تعالى:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]،
والضرب على هذا الوجه من جملة الرأفة.
* * *
2699 -
عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وجدتُموه يعملُ عملَ قومِ لُوطٍ فاقُتلوه، الفاعِلَ والمفعولَ بهِ".
"عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" وهذا أحد قولي الشَّافعيّ.
قيل في كيفية قتلهما: يهدم بناء عليهما، وقيل: يرميهما من شاهق الجبل كما فُعل بقوم لوط، وقيل: يقتل بالضرب، وفي أظهر قولي الشَّافعيّ وهو قول أبي يوسف ومحمَّد: إن كان محصنًا يُرجم، وإلا فيجلد مدّة جلدة، ويحمل الحديث على مجرد التهديد من غير قصد إيقاع الفعل، ولأن الضرب الأليم قد يسمَّى قتلًا مجازًا.
* * *
2700 -
وقال: "مَن أتَى بهيمةَ فاقتُلُوهُ واقتلوها مَعَه".
"وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" عمل إسحاق بظاهر الحديث وقال: يقتل من أتى بها إن تعمَّد بذلك مع العلم بالنهي، قيل: إنما أمر بقتلهما لئلا يتولَّد منهما حيوان على صورة إنسان، أو كراهة أن يؤكل لحمها وقد فُعل بها ذلك الفِعل، وأن يلحق صاحبها خزي بإبقائها.
وقيل: تقتل البهيمة وتحرق.
ذهب أبو حنيفة والشافعي ومالك وأَحمد إلى أن من أتى بهيمة يعزَّر ولا تقتل البهيمة، والحديث محمول على الزجر والوعيد.
* * *
2701 -
وعن جابرٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَخوَفَ ما أَخافُ على أمَّتي عملُ قومِ لُوْطٍ".
"وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخوف" أفعل تفضيل للمفعول.
"ما أخاف على أمتي عمل قوم لوطًا"؛ يعني: إتيان المذكور، وإنما أضاف إليهم هذا العمل؛ لأنهم هم الفاعلون ابتداء، كما قال الله تعالى:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 28].
* * *
2702 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رَجُلًا من بني بكرِ بن ليثٍ، أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأَقَرَّ أنَّه زَنَى بامرأةٍ أربعَ مرَّات فجلدَه مِئَةً، وكانَ بِكرًا، ثم سألَهُ البينَةَ على المرأةِ فقالت: كذبَ فجُلِدَ حدَ الفِرْيَةِ ثمانينَ.
"عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا من بني بكر بن ليث أتى النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأقر أنَّه زنى بامرأة أربع مرات، فجلده مئةً وكان بكرًا، ثم سأله"؛ أي: النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الرجلَ.
"البينةَ على المرأة فقالت: كذب، فجُلد حدَّ الفِرْية"؛ أي: القذف؛ يعني: جلد ذلك الرَّجل الذي أقر بالزنا حدَّ القذف "ثمانين" جلدة لقذفه إياها بالزنا.
* * *