الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(13) - (1091) - بَابُ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(29)
- 3023 - (1) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
===
(13)
- (1091) - (باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال القرطبي: حديث جابر المذكور في هذا الباب فيه أحكام كثيرة، وأبواب من الفقه غزيرة، وقد استخرجها الأئمة وصنفوها، وعددوها حتى بلغوا بها إلى نيف على مئة وخمسين حكمًا، وإذا تتبِّع .. وُجد فيه أكثرُ من ذلك، لكن أكثرها لا يخفى على فطن، فلنعمد إلى بيان ما يشكل؛ فمن ذلك: سُؤالُ جابر عن القوم حين دخلوا عليه إنما كان ذلك؛ لأنه كان قد عمي، وفعلُ جابر ذلك الفعل بمحمد الباقر إنما كان تأنيسًا له ومبالغة في إكرامه، على ما يفعل بالصغار، وعلى ذلك نبه بقوله: وأنا يومئذ غلام شاب. انتهى من "المفهم".
* * *
واستدل المؤلف على الترجمة بحديث جابر رضي الله تعالى عنه، فقال:
(29)
- 3023 - (1)(حدثنا هشام بن عمار) السلمي الدمشقي، صدوق، من العاشرة، مات سنة خمس وأربعين ومئتين (245 هـ). يروي عنه:(خ عم).
(حدثنا حاتم بن إسماعيل) العبدري مولاهم المدني، كوفي الأصل، صدوق يهم، من الثامنة، مات سنة ست أو سبع وثمانين ومئة. يروي عنه:(ع).
(حدثنا جعفر بن محمد) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، المعروف بالصادق، أبو عبد الله المدني، صدوق فقيه إمام، من
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ .. سَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ فَقُلْتُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن، فَأَهْوَى بيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَحَلَّ زِرِّي الْأَعْلَى،
===
السادسة، مات سنة ثمان وأربعين ومئة (148 هـ). يروي عنه:(م عم).
(عن أبيه) محمد الباقر ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبي جعفر المدني، ثقة، من الرابعة، مات سنة بضع عشرة ومئة (113 هـ). يروي عنه:(ع).
(قال) محمد بن علي بن الحسين: (دخلنا) ومن معنا؛ أي: أردنا الدخول (على جابر بن عبد الله) بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي رضي الله تعالى عنه؛ لنسأله عن أحاديث حج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(فلما انتهينا) ووصلنا (إليه) أي: إلى جابر وجلسنا معه .. (سأل) جابر (عن) أسماء (القوم) الداخلين عليه على التَّرتيب (حتى انتهى) ووصل سؤاله (إلي) وإنما سأل عن أسمائهم؛ لأنه إذ ذاك كان أعمى لا يرى شيئًا، وقد عمي في آخر عمره، قال عياض: وفي سؤاله عن أسمائهم اعتناء بالداخلين عليه والسؤال عنهم؛ لينزل كلًّا منهم منزلته. انتهى.
قال محمد: فدار سؤاله عن القوم حتى انتهى سؤاله إلي فسألني عن اسمي، فقال: ما اسمك؟ (فقلت) له: (أنا) أي: اسمي (محمد بن علي بن الحسين) بن أبي طالب (فـ) لما قلت له: أنا محمد بن علي .. (أهوى) أي: مد وبسط جابر (بيده إلى رأسي، فـ) مسح بيده رأسي، ثم جعل يده على صدري و (حل) أي: فك وخلع وأخرج (زري) أي: زر قميصي (الأعلى) أي: الذي تحت الذقن؛ أي: أخرجه من عروته؛ لِيَنْكَشِفَ القميصُ عن صدري
ثُمَّ حَلَّ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ،
===
(ثم) بعد إخراج الزر الأعلى من عروته (حل) وأخرج (زري الأسفل) من عروته، قال القاضي عياض: فيه إكرام الرجل بنزع ردائه منه. انتهى.
وفيه ملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه، وهذا سبب حل جابر بزري محمد بن علي ووضع يده بين ثدييه، قال النووي: وفيه إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما فعل جابر بمحمد بن علي، قال السندي: والزر - بكسر الزاي المعجمة وتشديد الراء المهملة -: واحد أزرار القميص، فعل جابر ذلك؛ إظهارًا للمحبة، وإعلامًا بالمودة؛ لأجل بيت النبوة.
(ثم) بعدما حل الزرين الأعلى والأسفل (وضع) جابر (كفه) على صدري (بين ثديي وأنا) أي: والحال أني (يومئذ) أي: يوم إذ وضع كفه على صدري (غلام) أي: ولد (شاب) أي: قوي لم يبلغ من الشباب، وسنه هو ما بين خمسة عشر إلى عشرين.
قال عياض: فيه: تنبيه على أن موجب فعل جابر به ذلك تأنيس له؛ لصغره وشفقة عليه؛ إذ لا يفعل هذا بالرجال الكبار من إدخال اليد في جيوبهم؛ إكبارًا لهم، وفيه أن لمس الغلمان الأجانب على وجه الشفقة ولغير التلذذ جائز، بخلاف شباب الجواري، وحكم لمسهم كالنظر إليهم، وإنما يحرم من لمس الغلمان والنظر إليهم ما كان من ذلك على وجه التلذذ والشهوة. انتهى منه.
(فقال) لي جابر: (مرحبًا بك) أي: أتيت مكانًا رحبًا واسعًا لك، أو رحبنا لك رحبًا ووسعنا لك، وهي كلمة إكرام وترحيب، وفيه استحباب قول الرجل للزائر والضيف ونحوهما: مرحبا بك، (يابن أخي) كما في "مسلم" نداء
سَلْ عَمَّا شِئْتَ، فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى، فَجَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَقَامَ فِي نِسَاجةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا، كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ .. رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا، وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَانِبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ،
===
شفقة؛ أراد به: أخوة الدين لا النسب (سل عما شئت) مما أشكل عليك من أمور الدين.
قال محمد بن علي: (فسألته) أي: سألت جابرًا عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو) أي: والحال أن جابرًا (أعمى) أي: مكفوف العين (فجاء وقت الصلاة، فقام) جابر للصلاة (في نساجة) - بكسر النون وتخفيف السين المهملة وبالجيم - قال النووي: هذا هو المشهور في ضبطه في نسخ بلادنا وروايتنا لصحيح مسلم وفي "سنن أبي داوود"، ووقع في بعض النسخ:(في ساجة) - بحذف النون - والساجة: هي الطيلسان. انتهى "سندي"، وكلاهما صحيح.
قال في "النهاية": هي ضرب من الملاحف منسوجة؛ كأنها سميت بالمصدر، يقال: نسجت أنسج نسجًا ونساجة؛ أي: فقام إلى الصلاة لابسًا نساجة (ملتحفًا بها) أي: مُتَلَفِّفًا بها؛ كهيئة الصبيان (كما وضعها) أي: كلما وضع طرفيها (على منكبيه) وفي رواية مسلم: (منكبه) بالإفراد .. (رجع طرفاها إليه) أي: سقطا عن منكبيه (من صغرها) أي: من أجل صغر تلك النساجة، وجملة قوله:(ورداؤه إلى جانبه) موضوع (على المشجب) حال من فاعل (فقام في نساجة) أي: فقام للصلاة في نساجة والحال أن رداءه موضوع على المشجب حالة كون ذلك المشجب موضوعًا إلى جانبه، أو المعنى: والحال أن رداءه كائن إلى جانبه حال كونه موضوعًا على المشجب.
فَصَلَّى بِنَا، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنَا عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
===
والمشجب - بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وجيم مفتوحة ثم جاء موحدة -: هو اسم لأعواد مجموعة؛ أي: مربوطة أعلاها بحبل مفرقة أسافلها لتقوم، يوضع عليها الثياب ومتاع البيت.
وعبارة السندي: والمشجب: أعواد يضم رؤوسها، ويفرج بين قوائمها، يوضع عليها الثياب، قال النووي: فيه جواز الصلاة في ثوب واحد مع التمكن من الزيادة عليه.
(فصلى بنا) جابر الصلاة، ولم أر من عين تلك الصلاة، وفيه جواز إمامة الأعمى للبصراء، وأن صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره.
قال محمد بن علي راوي الحديث عن جابر: (فـ) لما فرغ من الصلاة بنا .. (قلت) له: يا عم (أخبرنا عن) صفة (حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة القول مفسرة لقوله سابقًا: (فسألته) فهي معطوفة عليه؛ أي: فقلت في سؤاله: أخبرنا عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيفيتها، والمراد بها: حجة الوداع.
والوداع - بفتح الواو -: اسم مصدر لودَّع توديعًا؛ كسلَّم سلامًا، وكلَّم كلامًا، وقيل: بكسر الواو مصدر قياسي لوَادَع وداعًا وموادعةً، من باب فاعل الرباعي، سمي بذلك: إما لوداعه صلى الله عليه وسلم الناس، أو الحرم في تلك الحجة، وهي بفتح الحاء وكسرها.
قال الأبي: وحديث جابر هذا عظيم القدر، قد اشتمل على فوائد كثيرة من الدين، بينها النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الدنيا وانتقاله إلى ما أعبد الله له من الكرامة، ولم يبق النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجته هذه إلا قليلًا بعد أن أشرقت الأرض بنوره، وعلت كلمة الإيمان به. انتهى.
فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ،
===
(فـ) لما قلت لجابر: أخبرنا عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. (قال) جابر: أي: أشار (بيده) أي: بأصابعه إلى تسع سنوات مدة مكثه صلى الله عليه وسلم في المدينة (فعقد) جابر؛ أي: عد بيده (تسعًا) من السنوات، وطريقة هذا العقد: بأن تضم رؤوس الأنامل الثلاث الخنصر والبنصر والوسطى بوسط راحة كفه اليمنى وتضع رأس السبابة في أصل الإبهام، (وقال) جابر في عقده بيده:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث) أي: جلس في المدينة (تسع سنين) حالة كونه (لم يحج) فيها؛ يعني: في المدينة، وأما في مكة .. فحج واحدة باتفاق، واختلف في ثانية: هل حجها أم لا؟ انتهى من "المفهم".
وقوله: (مكث) - بضم الكاف وفتحها - أي: لبث في المدينة بعد الهجرة تسعًا، والفاء في قوله:(فأذن) بمعنى (ثم) للتراخي؛ كما في رواية مسلم؛ أي: ثم بعد تسع سنين (أذن) النبي صلى الله عليه وسلم (في الناس في) السنة (العاشرة).
وقوله: (أذن) - بفتح الهمزة وتشديد الذال - مبنيًا للفاعل، والفاعل هو النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه الأمر بالتأذين؛ أي: نادى؛ أي: أمر بالنداء بأن رسول الله حاج في هذه السنة، أو بالتخفيف ومد الهمزة؛ أي: أعلم وأظهر وأشاع في الناس في هذه السنة العاشرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج) أي: مريد الحج وقاصده في هذه السنة؛ ليتأهبوا للحج معه، ويتعلموا المناسك والأحكام، ويشهدوا أقواله وأفعاله ويوصيهم؛ ليبلغ الشاهد الغائب، وتَشِيعَ دعوةُ الإسلام، وتبلغ الرسالة البعيد والقريب.
فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَعْمَلَ بِمِثْلِ عَمَلِه، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَأَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَة، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ
===
وفيه أنه يستحب للإمام إيذان الناس بالأمور المهمة؛ ليتأهبوا لها، لا سيما في هذه الفريضة الكثيرة الأحكام المفروضة ابتداءً.
(فـ) لما سمعوا حج رسول الله صلى الله عليه وسلم .. (قدم المدينة) من أرجائها ونواحيها البعيدة والقريبة (بشر كثير) وجم غفير (كلهم يلتمس) ويقصد ويطلب (أن يأتم) ويقتدي (برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله (ويعمل بمثل عمله) صلى الله عليه وسلم في فريضة الحج وغيرها، وهو عطف تفسير لما قبله.
قال القاري: وقد بلغ جملة من حج معه صلى الله عليه وسلم من أصحابه في تلك الحجة تسعين ألفًا، وقيل: مئة وثلاثين ألفًا.
(فـ) بعدما اجتمعوا بالمدينة (خرج) رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قاصدًا الحج (وخرجنا) معاشر الصحابة (معه) صلى الله عليه وسلم من المدينة قاصدين الحج، لخمس بقين من ذي القعدة - كما رواه النسائي - بين الظهر والعصر.
وروى الترمذي وابن ماجه عن أنس والطبراني عن ابن عباس أن حجه صلى الله عليه وسلم كان على رحل رث يساوي أربعة دراهم.
(فـ) سرنا حتى (أتينا ذا الحليفة) بالتصغير (فـ) لما أتينا ذا الحليفة ..
(ولدت) أي: وضعت (أسماء بنت عميس) - بمهملتين مصغرًا - الخثعمية الصحابية الفاضلة، تزوجها أولًا جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر، ثم علي، وولدت لكل منهم، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها، ماتت بعد علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ: "اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ
===
أي: ولدت (محمد بن أبي بكر) الصديق، وهو من أصغر الصحابة، قتله أصحاب معاوية بمصر سنة ثمان وثلاثين (38 هـ)، (فـ) لما ولدت أسماء .. (أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، حالة كونها تسأله صلى الله عليه وسلم (كيف أصنع) في إحرامي وأنا نفساء؟
قال الزرقاني: والظاهر أنها أرسلت زوجها الصديق، ويدل له رواية "الموطأ": (أن أسماء ولدت محمد بن أبي بكر، فذكر ذلك أبو بكر الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فـ (قال) لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤالها بواسطة أبي بكر: (اغتسلي) أي: واغسلي عَنْكِ الدمَ، دل على أن الاغتسال للإحرام سنةٌ، كذا ذكره الطيبي، وهو للنظافة لا للطهارة، ولهذا لا ينوبه التيمم، وكذا في الحائض، وقد سبق بيانه في باب مستقل، قال الزرقاني: فيه صحة إحرام النفساء والحائض، وهو مجمع عليه، وصحة اغتسالهما للإحرام وإن كان الدم جاريًا حال الاغتسال، وإنما أمرها بذلك وإن كان اغتسالها لا يصح؛ للتشبه بالطاهرات؛ كما أمر من أكل يوم عاشوراء بإمساك بقية النهار، وقال غيره: للتنبيه على أن الغسل من سنن الإحرام.
(واستثفري) بمثلثة بعد الفوقية (بثوب) أي: اجعلي لنفسك ثفرة؛ كثفرة الدابة؛ لِتمنعَ سيلانَ الدم؛ أَمْرٌ من الاستثفار؛ وهو أن تشد في وسطها شيئًا؛ كالتِكَّة، وتأخذ خرقةً عريضةً تجعلها على محل الدم، وتشد طرفيها من أمامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفر الدابة - بفتح الفاء - الذي يجعل تحت ذنبها عند الحمل عليها أو الركوب؛ المعنى: اجعلي هناك
وَأَحْرِمِي"، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ
===
ما يمنع سيلان الدم؛ تنزهًا أن تظهر النجاسة على صاحب هذه العبادة؛ إذ لا يقدر على أكثر من ذلك، قال النووي: فيه أمر الحائض والنفساء والمستحاضة بالاستثفار.
قوله: (وأحرمي) معطوف على (اغتسلي) أي: أحرمي بالنية والتلبية.
(فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين سنة الإحرام (في المسجد) أي: في مسجد ذي الحليفة، قال ابن العجمي في "منسكه": ينبغي إن كان في الميقات مسجد .. أن يصليهما فيه، ولو صلاهما في غير المسجد .. فلا بأس، ولو أحرم بغير صلاة .. جاز، ولا يصلي في الأوقات المكروهة، وتجزئ المكتوبة عنهما؛ كتحية المسجد.
وقيل: صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، وقد قال ابن القيم: ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلي للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، كذا في "المرقاة"، وقد سبق الكلام في استحباب ركعتي الإحرام مبسوطًا. انتهى "فتح الملهم".
(ثم) بعدما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الإحرام (ركب) ناقته (القصواء) - بفتح القاف وسكون الصاد وبالمد قال أبو عبيدة: القصواء: المقطوعة الأذن عرضًا، وقال محمد بن إبراهيم التيمي التابعي وغيره: إن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
(حتى إذا استوت) أي: علت وارتفعت (به) صلى الله عليه وسلم (ناقته) المذكورة وظهرت (على البيداء) بالمد؛ أي: على المكان العالي المرتفع قدام
قَالَ جَابِرٌ: نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بَيْنَ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِه مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ،
===
ذي الحليفة بقربها إلى جهةِ مكة، سميت بيداء؛ لأنها لا بناء فيها ولا أثر.
(قال جابر: نظرت إلى مد بصري) أي: إلى منتهى بصري، فرأيت (من بين يديه) أي: قدامه خلقًا كثيرًا لا يحصون (بين راكب وماشٍ و) رأيت (عن يمينه مثل ذلك) أي: مثل ما رأيته بين يديه (و) رأيت (عن يساره مثل ذلك و) رأيت (من خلفه) أي: ورائه (مثل ذلك) بنصب (مثل) في المواضع الثلاثة على أنه مفعول لمحذوف؛ كما قدرناه، أو لنظرت؛ أي: نظرت عن يمينه قدر مد بصري، ويجوز الرفع على الاستئناف؛ والمراد: أنه حضر معه خلق كثير، وقد قيل: إنهم أربعون ألفًا، كذا في "شرح المواهب".
وقد تقدم ما نقله القاري في عدد الحاضرين معه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
قال الزرقاني: وفي قوله: (من راكبٍ وماشيى) جواز الحج كذلك، وهو إجماع، وإنما الخلاف في الأفضل.
وقال الجمهور: الركوب أفضل؛ للاقتداء به صلى الله عليه وسلم، ولأنه أعون على القيام بالمناسك، ولأنه أكثر نفقةً، ولتعظيم شعائر الحج بأبهة الركوب؛ أي: بعظمته وهيبته، وفي "المختار": الأُبَّهَة - كسُكَّرة -: العظمة والكبر. انتهى.
وبه قال مالك في المشهور، وهو الأصح عند الشافعية، ورجح طائفة من المذهبين المشي. انتهى "فتح الملهم".
فقالوا: إن المشي أفضل من الركوب؛ لما فيه من المشقة على النفس، ولا خلاف في أن الركوب في عرفة أفضل، واختلفوا في الطواف والسعي، والركوب
وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يُنْزَلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، مَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِه، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ،
===
عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. انتهى من "المفهم".
قال جابر: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا) أي: في وسطنا (وعليه ينزل القرآن) - بضم أوله - كما في "شرح المواهب" ويجوز فتحه (وهو) صلى الله عليه وسلم (يعرف تأويله) أي: تفسيره على الحقيقة؛ ومعناه: الحث على التمسك بما يخبرهم به من فعله في تلك الحجة.
وعبارة القرطبي في "المفهم": يعني: أنه إنما كان يفعل من أفعال الحج بحسب ما ينزل عليه به الوحي، فيفهمه هو ويبينه للناس بفعله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم" رواه مسلم وأبو داوود والنسائي، فقالوا - كما قال جابر -: إذا عمل شيئًا .. اقتدوا به فيه، وعملوه على نحو ما عمل. انتهى من "المفهم".
و(ما عمل به) في الحج (من شيء) من مناسكه .. (عملنا به) اقتداء به صلى الله عليه وسلم، فيه زيادة في الحث على التمسك بما يخبرهم به (فأهل) أي: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته (بالتوحيد) يعني: تلبية التوحيد؛ وهي: البيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) وفيه: إشارة إلى مخالفة ما كانت الجاهلية تقوله في تلبيتها من لفظ الشرك من قولهم: (إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك)، وقد سبق ذكر تلبيتهم في باب التلبية.
قوله: (حتى إذا ستوت به ناقته) قال السندي: أي: علت به، أو قامت
إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ"، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِه،
===
مستويةً على قوائمها؛ والمراد: أنه أهل بعد تمام طلوع البيداء لا في أثناء طلوعها، والبيداء: المفازة؛ وهنا: اسم موضع قريب من مسجد ذي الحليفة.
وجواب إذا الشرطية قوله: (فأهل) والفاء زائدة.
وجملة (قال جابر: نظرت إلى
…
) إلى آخره، معترضة بين (إذا) وجوابها.
قوله: (فأهل بالتوحيد) قيل: بالإفراد؛ وهو غير صحيح، بل المراد بتوحيد الله لا بتلبية أهل الجاهلية المشتملة على الشرك.
وقوله: (لبيك اللهم
…
) إلى آخره، تفسير لما قبله بتقدير:(قال) أي: فأهل بالتوحيد، وقال: لبيك اللهم
…
إلى آخر قوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). انتهى من "السندي".
(وأهل الناس) الذين معه صلى الله عليه وسلم؛ أي: رفعوا أصواتهم (بهذا) اللفظ (الذي يهلون) أي: يرفعون (به) أصواتهم الآن؛ يعني: التلبية المشهورة بينهم؛ يعني: أنهم لم يلزموا هذه التلبية الخاصة التي لبى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ فهموا أنها ليست متعينة؛ فإنه قد ترك صلى الله عليه وسلم كل أحد على ما تيسر له من ألفاظها، ومع هذا؛ فلا بد أن يأتي الملبي بما يسمى تلبية لسانًا، ولا يجزئ منها التحميد والتكبير ولا غيرهما عند مالك. انتهى من "المفهم".
وقال عياض: قوله: (بهذا الذي يهلون به) يعني به: من زيادتهم في الثناء على الله تعالى؛ وذلك كزيادة عمر رضي الله تعالى عنه: (لبيك ذا النعماء
فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ، قَالَ جَابِرٌ: لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ
===
والفضل الحسن، لبيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك)، وكزيادة ابنه:(لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل)، وكقول من قال:(لبيك عدد الرمل والتراب)، وعن أنس رضي الله تعالى عنه: البيك حقًّا، تعبدًا ورقًا).
والمستحب عند العلماء؛ منهم: الشافعي ومالك: أن يأتي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ليقتصر عليها، إلا أن يزيد ألفاظًا رويت عنه صلى الله عليه وسلم؛ كقوله:"لبيك إله الحق" ونحوها. انتهى ما قال القاضي عياض.
(فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: لم ينكر (عليهم شيئًا منه) أي: مما أهلوا به من التلبية التي أتوا بها من عندهم ولم ينههم عنه (ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته) المذكورة في جميع أحواله وأوقاته، إلى أن يشرع في الطواف؛ أي: استمر عليها.
(قال جابر) رضي الله تعالى عنه: (لسنا) نحن معاشر الصحابة (ننوي إلا الحج) أي: ليست نيتنا إلا الحج (لسنا نعرف العمرة) في أشهر الحج ولا نعتقد صحتها فيها؛ كعادة الجاهلية، وهو تأكيد وتقرير لمعنى الحصر في قوله:(لسنا ننوي إلا الحج) أي: لسنا ننوي شيئًا من النيات إلا نية الحج، وكان محتملًا فأكده. انتهى "سندي".
قال القرطبي: هذا الكلام يحتمل أن يخبر به عن حالهم الأول قبل الإحرام؛ فإنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور - كما تقدم - فلما كان عند الإحرام .. بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "من أراد أن يهل
حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ .. اسْتَلَمَ الرُّكْنَ
===
بحج .. فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة .. فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة .. فليفعل"، فارتفع ذلك الوهم الواقع لهم، كما سيأتي هذا إن شاء الله تعالى. انتهى من "المفهم".
قال السندي: قوله: (لسنا ننوي إلا الحج) أي: غالبنا، وإلا .. ففيهم من اعتمر؛ كعائشة على ما جاء في حديث جابر نفسه في حال عائشة، أو قَارَنَ، وذهبنا إلى مكة (حتى إذا أتينا البيت) أي: الكعبة المشرفة (معه) صلى الله عليه وسلم في أربع أو خمس خلون من ذي الحجة .. (استلم) النبي صلى الله عليه وسلم (الركن) أي: لمس الحجر الأسود بيده وقبله بفيه، وسمى الحجر ركنًا؛ لأنه في الركن. انتهى من "المفهم".
والاستلام: افتعال من السلام بمعنى التحية، وأهل اليمن يسمون الركن بالمحيا؛ لأن الناس يحيونه بالسلام، وقيل: من السلام - بكسر السين - وهي الحجارة، يقال: استلم الحجر؛ إذا لثمه وتناوله.
والمعنى: وضع يديه عليه وقبله مع التكبير والتهليل إن أمكنه ذلك، بلا إيذاء أحد، ولا يستلم بالإشارة من بعيد، وقيل: وضع الجبهة عليه أيضًا.
وفي "المواهب وشرحه" للزرقاني:
واعلم: أن للبيت أربعة أركان:
الأول: له فضيلتان؛ كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم عليه السلام؛ أي: أساس بنائه.
وللثاني: وهو الركن اليماني؛ الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما.
ولذلك يقبل الأول؛ كما في "الصحيحين" عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحجر الأسود، وفي "البخاري" عن ابن عمر: رأيت رسول الله
فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ قَامَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
===
صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، ويستلم الثاني فقط؛ لما في "الصحيح" عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان؛ اتباعًا للفعل النبوي؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، هذا مذهب الجمهور؛ كما مر بسط الكلام فيه. انتهى.
(فرمل) رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: مشى بسرعة مع تقارب الخطا وهز كتفيه؛ ليري المشركين جلد الصحابة وقوتهم؛ لأنهم قالوا: أضعفتهم حمى يثرب (ثلاثًا) أي: في الأشواط الثلاثة الأول (ومشى) على عادته (أربعًا) أي: في الأربعة الأخيرة، والرمل إنما يستحب في طواف يعقبه سعي، وإلا .. فلا؛ كالاضطباع؛ كما في "البدائع".
وقال النووي: والاضطباع سنة في الطواف، وقد صح فيه الحديث في "سنن أبي داوود" و"الترمذي" وغيرهما؛ وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر، ويكون منكبه الأيمن مكشوفًا.
قالوا: وإنما يسن الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل على ما سبق تفصيله، والله أعلم. انتهى.
وفي هذا أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات .. يسن له طواف القدوم، وهو مجمع عليه، وفيه أن الطواف سبعة أشواط، وفيه أن السنة الرمل في الثلاثة الأول، والمشي على عادته في الأربعة الأخيرة.
(ثم) بعد فراغه من الطواف (قام إلى مقام إبراهيم) عليه السلام وذهب إليه، ووصله ماضيًا في زحام؛ أي: توجه إلى مقام إبراهيم.
وفي بعض نسخ "مسلم": (نفذ إلى مقام إبراهيم) - بالنون والفاء والذال - بمعنى: وصل إليه، وفي بعضها:(تقدم إلى مقام إبراهيم) أي: إلى الحجر
فَقَالَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْت، فَكَانَ أَبِي يَقُولُ - وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا ذَكَرَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)،
===
الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت (فـ) لما وصل إليه .. (قال) أي: قرأ قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (1).
(فجعل) النبي صلى الله عليه وسلم (المقام) أي: الحجر (بينه) صلى الله عليه وسلم (وبين البيت) مستقبلًا إليه، قال جعفر بن محمد:(فكان أبي) أي: والدي محمد الباقر، الراوي عن جابر (يقول) عندما حدثنا بهذا الحديث:(ولا أعلمه) أي: ولا أعلم جابرًا (إلا ذكره) أي: إلا ذكر ما ذكره من قراءة السورتين (عن النبي صلى الله عليه وسلم أي: إلا ذكر كونها من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لا من قراءة جابر نفسه، وجملة: (لا أعلمه
…
) معترضة بين المقول وقوله؛ والتقدير: فكان أبي محدثًا عن جابر يقول: (إنه) صلى الله عليه وسلم (كان يقرأ في الركعتين) من سنة الطواف: (قل يا أيها الكافرون) في الركعة الأولى بعد الفاتحة (و) يقرأ (قل هو الله أحد) في الركعة الثانية بعد الفاتحة.
ومعنى هذا الكلام: أن جعفر بن محمد روى عن أبيه محمد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال جعفر: ولا أعلم أبي ذكر تلك القراءة عن قراءة جابر نفسه في صلاة نفسه، بل ذكر عن جابر عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة هاتين الركعتين، كذا في "شرح مسلم"، وليس هذا شكًّا في ذلك؛ لأن العلم ينافي الشك، بل جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) سورة البقرة: (125).
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْتِ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الصَّفَا .. قَرَأَ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ،
===
(ثم) بعد صلاة ركعتين (رجع) النبي صلى الله عليه وسلم (إلى البيت) أي: إلى الحجر الأسود، من إطلاق الكل وإرادة الجزء (فاستلم الركن) أي: الحجر؛ أي: استلمه ثانيًا، قال النووي: فيه دلالة - كما قاله الشافعي وغيره من العلماء - على أنه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام .. أن يعود إلى الحجر الأسود، ثم يخرج من باب الصفا ليسعى، واتفقوا على أن هذا الاستلام ليس بواجب، وإنما هو سنة، لو تركه .. لم يلزمه دم.
وفي "الدر المختار": وعاد إلى الحجر إن أراد السعي، واستلم الحجر، قال ابن عابدين: أفاد أن العود إلى الحجر إنما يستحب لمن أراد السعي بعده، وإلا .. فلا؛ كما في "البحر" وغيره.
(ثم) بعد استلامه الحجر (خرج) من المسجد (من الباب) الذي يخرج (إلى الصفا) أي: من باب بني مخزوم؛ وهو الباب الذي يسمى: باب الصفا، وخروجه صلى الله عليه وسلم من هذا الباب؛ لأنه أقرب الأبواب إلى الصفا، لا أنه سنة فيخرج الحاج من أي باب شاء، ذكره الطحطاوي في "حاشية مراقي الفلاح".
(حتى إذا دنا) النبي صلى الله عليه وسلم وقرب (من الصفا .. قرأ) قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (1).
والصفا جمع صفاة؛ وهو الحجر الأملس؛ والمروة من الحجارة: ما لان وصغر، وهما هنا اسمان لصفحين معلومين، وقيل: سميا بذلك؛ لجلوس الصفي وامرأته عليهما. انتهى من "المفهم" على التلخيص.
(1) سورة البقرة: (158).
نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِه،
===
({مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ})(1)؛ أي: من أعلام دينه؛ جمع شعيرة؛ وهي العلامة التي جعلت للطاعات المأمور بها في الحج عندها؛ كالوقوف والمبيت والرمي والطواف والسعي، سميت شعيرة؛ لما تستشعر به تلك المواضع من أعمال الحج؛ أي: تعلم، أو لما يستشعر هناك من تعظيم الله تعالى والقيام بوظائفه.
والسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة عند جمهور العلماء ما خلا أبا حنيفة؛ فإنه لم يره فيهما واجبًا.
ثم قال: (نبدأ بما بدأ الله به) بصيغة المتكلم؛ أي: وقال: أبدأ بما بدأ الله به في كتابه؛ يعني: أبتدئ بالصفا؛ لأن الله تعالى بدأ بذكره في كتابه، فالترتيب الذكري له اعتبار في الأمور الشرعية؛ إما وجوبًا أو استحبابًا، وإن كانت الواو لمطلق الجمع في الآية.
قال السندي: قوله: "نبدأ بما بدأ الله به" يفيد: أن بداية الله تعالى ذكرًا تقتضي البداءة عملًا، والظاهر أنه يقتضي ندب البداءة عملًا لا وجوبًا، والوجوب فيما نحن فيه من دليل آخر. انتهى.
وقال النووي: في هذا اللفظ أنواع من المناسك؛ منها: أن السعي يشترط فيه أن يبدأ من الصفا، وبه قال الشافعي ومالك والجمهور، وقد ثبت في رواية النسائي في هذا الحديث بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ابدؤوا بما بدأ الله به" هكذا بصيغة الجمع، ومنها: أنه ينبغي أن يرقى على الصفا والمروة، وفي هذا الرقي خلاف؛ قال جمهور أصحابنا: هو سنة ليس بشرط ولا واجب؛ فلو تركه .. صح سعيه، لكن فاتته الفضيلة، وقال أبو حفص بن الوكيل من أصحابنا: لا يصح سعيه حتى يصعد على شيء من الصفا، والصواب: الأول.
(1) سورة البقرة: (158).
فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْه، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ
===
قال أصحابنا: لكن يشترط ألا يترك شيئًا من المسافة بين الصفا والمروة، فيلصق عقبيه بدرج الصفا، وإذا وصل إلى المروة .. ألصق أصابع رجليه بدرجها، وهكذا في المرات السبع يشترط في كل مرة أن يلصق عقبيه بما يبدأ منه وأصابعه بما ينتهي إليه.
(فبدأ بالصفا، فرقي) - بكسر القاف - من باب رضي؛ أي: صعد (عليه) أي: على الصفا (حتى رأى البيت) أي: الكعبة من باب الصفا، وهو باب بني مخزوم؛ كما مر.
واعلم: أن كثيرًا من درجات الصفا دفنت تحت الأرض بارتفاعها، حتى إن من وقف على أول درجة من درجاتها الموجودة .. أمكنه أن يرى البيت، فلا يحتاج إلى الصعود، وما يفعله بعض أهل البدعة والجهلة من الصعود حتى يلتصقوا بالجدار .. فخلاف طريق أهل السنة والجماعة.
واعلم أيضًا: أن الصعود كان في الزمان الأول، أما الآن .. فمن وقف على الدرجة الأولى، بل على أرضها .. يصدق أنه طلع عليها. انتهى من "شرح اللباب".
وفي رواية مسلم زيادة: (فاستقبل القبلة) معطوف على رأى؛ أي: حتى رأى الكعبة فاستقبلها، فيه وضع الظاهر موضع المضمر؛ تنصيصًا على أن البيت قبلة، وتنبيهًا على أن المقصود بالذات هو التوجه إلى القبلة، لا خصوص رؤية البيت، وهو الآن يرى بلا رقي في قدر يسير، وقيل: قدر القامة، وهذا بالنسبة إلى الماشي دون الراكب، كذا في "المرقاة". وهذا حكم الرجال، وأما النساء .. فيقفن أسفلها؛ للبعد عن الرجال، إلا أن يخلو المسعى من الرجال فيكن كالرجال. انتهى من "الأبي".
فَكَبَّرَ اللهَ وَهَلَّلَهُ وَحَمِدَهُ وَقَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ
===
(فكبر الله) أي: قال: الله أكبر؛ أي: أقر بكبرياء الله (وهلله) أي: قال: لا إله إلا الله (وحمده) أي: قال: الحمد الله (وقال) وهو تفسير لما ذكر قبله؛ من التكبير والتهليل والحمد؛ أي: قال: (لا إله إلا الله وحده) حال مؤكدة أو مفعول مطلق، ومثله:(لا شريك له). انتهى "سنوسي".
والتكبير وإن لم يكن ملفوظًا به، لكن معناه مستفاد من هذا القول؛ أي: لأن معنى التكبير: التعظيم؛ وهو حاصل بما ذكر. انتهى منه أيضًا.
(له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده) أي: وفى ما وعد لإعلاء كلمته (ونصر عبده) أي: عبده الخاص محمدًا صلى الله عليه وسلم على أعدائه نصرًا عزيزًا (وهزم الأحزاب وحده) أي: بدون قتال آدمي.
قال الطيبي: الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وكانت سنة ست، وقيل: سنة خمس، فهزمهم الله تعالى بغير قتال. انتهى.
ويمكن أن يراد بهم: أنواع الكفار الذي غلبوا بالهزيمة والفرار، كذا في "المرقاة" قال بعضهم: وإنما خص من الأذكار ما فيه توحيد وبيان لإنجاز الوعد، ونصره على أعدائه؛ تذكرًا لنعمته، وإظهارًا لبعض معجزاته، وقطعًا لدابر الشرك، وبيانًا أن كل ذلك موضوع تحت قدميه، وإعلانًا لكلمة الله ودينه في مثل ذلك الموضع. انتهى.
(ثم دعا) رسول الله صلى الله عليه وسلم (بين) مرات (ذلك) الذكر
وَقَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ فَمَشَى حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ .. رَمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا - يَعْنِي: قَدَمَاهُ - مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ،
===
المذكور المكرر ثلاثًا؛ كما صرحه بقوله: (وقال) أي: كرر (مثل هذا) الذكر المذكور (ثلاث مرات) قال بعضهم: (ثم) تقتضي التراخي، وأن يكون الدعاء بعد الذكر، و (بين) تقتضي العدد والتوسط بين الذكر؛ بأن يدعو بعد قوله:"على كل شيء قدير"، ويحتمل أن المعنى: لما فرغ من قوله: "وهزم الأحزاب" .. دعا بما شاء، ثم قال مرة أخرى هذا الذكر، ثم دعا حتى فعل ثلاث مرات، هذا هو المشهور عند أصحابنا، وقال بعضهم: يكرر ثلاثًا، والدعاء: مرتين، والصواب الأول انتهى "سنوسي".
(ثم) بعدما فرغ من هذا الذكر والدعاء المذكورين (نزل) النبي صلى الله عليه وسلم من الصفا ومشى (إلى المروة، فمشى) على عادته (حتى إذا انصبت) - بتشديد الموحدة - من الانصباب؛ وهو مجاز من قولهم: صب الماء فانصب؛ أي: حتى إذا انحدرت وانهبطت (قدماه .. رمل في بطن الوادي) أي: وادي المسعى؛ وهو ما بين الميلين الأخضرين، وفي رواية مسلم:(سعى) أي: رمل وعدا عَدْوًا وأسرع في مشيه؛ قيل: اقتداء بهاجر في سعيها تطلب الماء لولدها. انتهى من "الأبي".
(حتى إذا صعدتا؛ يعني): صعدت وارتفعت (قدماه) من بطن الوادي إلى جهة مروة .. (مشى) على عادته (حتى أتى المروة).
قال النووي: هكذا هو في النسخ، وكذا نقله القاضي عياض من جميع النسخ، وقال: فيه إسقاط لفظة لا بد منها؛ تقديرها: (حتى إذا انصبت قدماه .. رمل في بطن الوادي) ولا بد منها، وقد ثبتت هذه اللفظة في غير رواية مسلم،
فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا،
===
وكذا ذكر الحميدي في "الجمع بين الصحيحين"، وفي "الموطأ":(حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي .. سعى حتى خرج منه) وهو بمعنى رمل، هذا كلام القاضي عياض، وقد وقع في بعض نسخ "صحيح مسلم":(حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي .. سعى) كما وقع في "الموطأ" وغيره، وعلى هذه النسخة فلا إِسْقاطَ ولا إِشكالَ؛ كما هو ثابت في نسختنا هذه، والله أعلم.
وفي هذا الحديث: استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد، ثم يمشي باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه، وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع؛ في هذا الموضع، والمشي مستحب فيما قبل الوادي وبعده، ولو مشى في الجميع، أو سعى في الجميع .. أجزأه وفاتته الفضيلة، هذا مذهب الشافعي وموافقه، وعن مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه روايتان؛ إحداهما: كما ذكر، والثانية: تجب عليه إعادته انتهى "نووي".
وفي "الدر المختار" ناقلًا عن "اللباب": ويستحب أن يكون السعي بين ميلين فوق الرمل دون العدو، وهو في كل شوط؛ أي: بخلاف الرمل في الطواف؛ فإنه مختص بالثلاثة الأول، خلافًا لمن جعله مثله؛ فلو تركه أو هرول في جميع السعي .. فقد أساء، ولا شيء عليه، وإن عجز عنه .. صبر حتى يجد فرجة، وإلا .. تشبه بالساعي في حركته، وإن كان على دابةٍ .. حركها من غير أن يؤذي أحدًا. انتهى منه.
(ففعل) النبي صلى الله عليه وسلم (على المروة، كما فعل على الصفا) من الأذكار والدعاء، فيه أنه يسن عليها من الذكر والدعاء والرقي مثل ما يسن على الصفا، وهذا متفق عليه.
فَلَمَّا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ .. قَالَ: "لَوْ أَنِّي أسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً؛
===
(فلما كان آخر طوافه) وتمام سعيه (على المروة) .. رقي عليها، وذكر الله ودعا عليها، فجواب (لما) محذوف؛ كما قدرناه بقولنا: (رقي عليها
…
) إلى آخره.
قال النووي: وفي هذا دلالة لمذهب الشافعي والجمهور: أن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب مرة، والرجوع إلى الصفا مرة ثانية، والرجوع إلى المروة ثالثة، وهكذا إلى تمام السبع، فيكون ابتداء السبع من الصفا، وآخرها بالمروة، وقال ابن بنت الشافعي وأبو بكر الصيرفي من أصحابنا: يحسب الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا مرة واحدة، فيقع آخر السبع في الصفا.
وهذا الحديث الصحيح يرد عليهما، وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان، قال الطحاوي: يعد الذهاب والعود شوطًا واحدًا، كالطواف؛ فإنه من الحجر إلى الحجر شوط، وتمام كلامه في "الفتح" وغيره.
وقال القاضي عياض: كره الشافعي أن تسمى الأطواف أشواطًا وأدوارًا، إنما يقال: أطواف؛ كما هنا. انتهى "إكمال المعلم".
فلما فرغ من أذكاره ودعائه .. (قال): وفي بعض الرواية إسقاط الفاء في قوله: (فقال) وهي واضحة لا تحتاج إلى تقدير ما قدرناه؛ أي: فلما فرغ من أذكاره ودعائه .. قال: (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت) أي: لو كنت علمت قبل إحرامي ما علمته بعده من تردد الناس في تحللهم وانتظارهم تحللي .. (لم أسق الهدي) معي (وجعلتها) أي: جعلت حجتي وفسختها (عمرة)، وأتحلل منها بالحلق أو التقصير؛ يعني: لتمتعت من أول الأمر من غير سوق الهدي.
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ .. فَلْيَحْلِلْ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً"، فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ ألِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ؟
===
وفي "شرح المواهب": أي: لو عَنَّ لي هذا الرأي الذي رأيته آخرًا وأمرتكم به في أول أمري .. لما سقت الهدي معي؛ أي: لما جعلت عليَّ هديًا وأشعرته وقلدته وسقته بين يدي، وسوق الهدي منعني من التحلل معكم؛ لأن من لا هدي معه يجوز له فسخه، وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعًا.
(فمن كان منكم) أيها الناس اليس معه هدي .. فليحلل) من إحرامه بالتقصير (وليجعلها) أي: وليجعل حجته (عمرة، فحل الناس كلهم) من إحرامهم بالتقصير (وقصروا) شعورهم بنية التحلل (إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه الهدي، فقام سراقة) بضم السين وراء مخففة وقاف (ابن مالك بن جعشم) - بضم الجيم وسكون العين المهملة وضم الشين المعجمة، وفتحها لغة حكاها الجوهري وغيره - الكناني المدلجي الذي ساخت به فرسه في قصة الهجرة، وأسلم يوم الفتح.
(فقال يا رسول الله؛ ألعامنا هذا) أي: هل هذا الفسخ أو التمتع خاص لعامنا هذا الذي نحن فيه الآن (أم) هو باق في المسلمين (لأبد الأبد) أي: إلى أبد مؤبد؟ ولفظ: (الأبد) ظرف مستغرق لما يستقبل من الزمان، وإضافته إلى نفسه للتأكيد؛ أي: إلى أبد مؤبد وإلى آخر الدهر؛ والمعنى المراد عند الجمهور: هل التمتع لعامنا هذا؟ وعند أحمد والظاهرية: أي: هل الفسخ لعامنا؟
فعلى الأول: دخلت العمرة في الحج؛ أي: حلت في أشهر الحج، وصحت
قَالَ: فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابعَهُ فِي الْأُخْرَى وَقَالَ: "دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ - هكَذَا مَرَّتَيْنِ - لَا، بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ"،
===
فيه، وعلى الثاني: دخلت نية العمرة في نية الحج؛ بحيث أن من نوى الحج .. صح الفراغ منه بالعمرة. انتهى "سندي".
(قال) جابر: (فشبك) أي: أدخل (رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه) أي: أصابع إحدى يديه (في) أصابع اليد (الأخرى، وقال: دخلت العمرة) أي: أعمالها (في الحج) أي: في أعماله؛ أي: دخلت أعمال العمرة في أعمال الحج دخولأ كائنًا (هكذا مرتين) أي: كائنًا كدخول هذه الأصابع من اليدين بعضها في بعض، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف؛ كما قدرناه.
وقوله: (مرتين) إما معمول لشبك على أنه صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: فشبك أصابعه تشبيكًا مرتين، أو معمول لقال كذلك؛ والتقدير: وشبك أصابعه، وقال: دخلت العمرة في الحج قولًا مرتين.
قال الزرقاني: وإدخال الأصابع بعضها في بعض وتكريرها مرتين؛ إما بالفعل، وإما بالقول .. يستدعي إدخال أحد النسكين في الآخر، ويؤيده حديث ابن عباس:(فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب سؤال سراقة:(لا) أي: ليس لعامنا هذا فقط (بل) هو باق (لأبد أبد) أي: إلى الأبد، كرره للتأكيد؛ أي: إلى آخر الدهر؛ والأبد: الدهر.
وفي رواية: (لأبد الأبد) بالإضافة، وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة عند أحمد والظاهرية.
وقال الجمهور: معنى الحديث: جواز فعل العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة، وأن القصد: إبطال زعم الجاهلية منع ذلك.
قَالَ: وَقَدِمَ عَلِيٌّ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ
===
(قال: وقدم علي) بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه من اليمن (ببدن النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إليها؛ والبدن - بضم الموحدة وسكون الدال -: جمع بدنة، وأصله الضم؛ كخشب جمع خشبة، وقد قرئ به؛ كما في "تفسير البيضاوي" قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (1)، والبدنة: هي ما يتقرب بذبحه من الإبل، قال الزرقاني: وظاهر هذه الرواية أن البدن للمصطفى.
وفي "النسائي": قدم علي رضي الله تعالى عنه من اليمن بهدي، وساق صلى الله عليه وسلم من المدينة هديًا، فظاهره أن الهدي كان لعلي رضي الله عنه، فيحتمل أن عليًّا قدم من اليمن بهدي لنفسه، وهدي للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر كل راوٍ واحدًا منهما. انتهى، وسيأتي الكلام على عدد هذه البدن وتعيين ذابحها قريبًا إن شاء الله تعالى.
(فوجد) علي حين قدم زوجته (فاطمة) رضي الله تعالى عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: وجدها (ممن حل) بعمل عمرة؛ أي: وجدها متحللة من إحرامها (و) الحال أنها (لبست ثيابًا صبيغًا) أي: مصبوغًا بصبغ الزينة؛ أي: مصبوغة غير بيض؛ فعيل بمعنى مفعول، يستوي فيه المذكر والمؤنث (و) الحال أنها قد (اكتحلت) أي: استعملت الكحل في عينها (فأنكر ذلك) التحلل (عليها) أي: على فاطمة (علي)؛ لظنه أنها تابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في إحرامه، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه باق على إحرامه، زاد في رواية أبي داوود:(وقال) علي لفاطمة: (من أمركِ بهذا) التحلل؟
(1) سورة الحج: (36).
فَقَالَتْ: أَمَرَنِي أَبِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إِلَي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ فِي الَّذِي صَنَعَتْهُ، مُسْتَفْتِيًا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي ذَكَرَتْ عَنْهُ
===
(فقالت) فاطمة لعلي: (أمرني أبي بهذا) التحلل الذي نشأ عنه لُبْسُ الصبيغِ والاكتحالُ لا بهما؛ إذ هما من المباح، وهو غير مأمور به، أو أريد بالأمر: الإباحة.
قال جابر بالسند السابق: (فكان علي) رضي الله تعالى عنه (يقول) ويحدث لنا (بالعراق) زمن نزوله بالعراق بالكوفة: (فذهبت) أنا (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنكرتُ على فاطمةَ إحلالها حالة كوني (محرشًا) بصيغة اسم الفاعل؛ من التحريش بمعنى الإغراء؛ أي: مغريًا له صلى الله عليه وسلم (على فاطمة في الذي) أي: لأجل الإحلال الذي (صنعته) فاطمة؛ والتحريش: الإغراء؛ وهو في أصله: تهييج بعض البهائم؛ كالكلب على بعض؛ كالصيد؛ كما يفعل بين الجِمَالِ والأثوار والكبالش والدِّيَكةِ وغيرها، قال ابن الأثير: أراد بالتحريش هنا: ذكر ما يُوجب عِتابَه لها. انتهى.
وحالة كوني (مستفتيًا) أي: مريدًا لاستفتاء والسؤال لـ (رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي ذكرت) وأخبرت فاطمة (عنه) صلى الله عليه وسلم؛ من أنه أمرني بالإحلال.
قال الزرقاني: ولم يقنع علي بقولها: (أبي أمرني) وخبر الواحد مقبول؛ لجواز أنه فهم أنه أمرها بالإحلال، ولا يلزم منه لُبْسُ الصَّبْغِ والاكتحالُ؛ لِقُرْبِ زمنِ الإحرام الماضي، والَّذِي تُنْشِئُهُ، أو جوَّز أَمْرَهُ لعموم الصحابة، وأن لها أمرًا يَخُصُّها؛ لأنها بضعة منه صلى الله عليه وسلم؛ فلا تفعل إلا ما يَفْعَلُه، أو فَهِمَ
وَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ: "صَدَقَتْ صَدَقَتْ، مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟ "،
===
أنها ليست ممن لم يَسُقِ الهَدْيَ؛ لأن أباها وزوجَها ساقاه، فهي في حكمِ مَنْ سَاقَه.
وفيه جواز قول الشخص: (أبي) ولو كان معظمًا، وأنه ليس تنقيصًا له، فيؤخذ منه جواز قول الشريف:(جدي) يريد: النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الولي العراقي ملخصًا.
(وأنكرت) أنا (ذلك) الذي ذكرت عنه صلى الله عليه وسلم (عليها) والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة؛ أعني: قوله: (ذكرت عنه)، وفي رواية مسلم قال علي:(فأخبرته) صلى الله عليه وسلم (أني أنكرت ذلك) الإحلال (عليها) أي على فاطمة (فقال) لي النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقت) فاطمة فيما أخبرته لك من أمري لها بالإحلال، وقوله ثانيًا:(صدقت) توكيد لفظي لما قبله.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (ماذا قلت) في إحرامك (حين فرضت الحج) وأوجبته على نفسك بالنية والتلبية؟
قال القرطبي: وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بما أهل به يدل على أنه لم يكن عند علي خبر بما أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتقدم له فيه عهد منه، وأن عليًّا رضي الله تعالى عنه هو الذي ابتدأ إحرامه محالًا به على إحرام النبي صلى الله عليه وسلم من غير تعيين حج ولا عمرة، وأنه صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، فكان ذلك حجةً على جواز الحوالة على إحرام الغير مطلقًا إذا تحقق أنه أحرم ولا بد، وبه قال الشافعي، وأخذ منه جواز الإحرام من غير تعيين، ثم بعد ذلك يعين. انتهى من "المفهم".
قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ؛ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلَا تَحِلُّ"، قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ مِئَةً، ثُمَّ حَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا
===
(قال) علي: (قلت) لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب سؤاله: يا رسول الله؛ قلت في إحرامي: (اللهم؛ إني أهل) وأحرم (بما أهل به رسولك صلى الله عليه وسلم من النسكين إفرادًا أو قرانًا أو تمتعًا، فيه جواز الإحرام بما أحرم به غيره، ويسمى عند الفقهاء الإحرام التشبيهي.
(قال) النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: (فإن معي الهدي) فلا أقدر أن أخرج من الإحرام بعمل العمرة (فلا تحل) أنت أيضًا من إحرامك بعمل العمرة، نهي أو نفي؛ أي: لا تقدر أنت بالخروج من الإحرام بعمل العمرة؛ كما لا أقدر أنا بالخروج منه بذلك؛ فإحرامك كإحرامي، فلا يحل كل منا من إحرامه حتى يفرغ من الحج والعمرة جميعًا؛ وذلك بذبح الهدي يوم النحر.
(قال) جابر بسنده السابق: (فكان جماعة الهدي) أي: جملة الهدي (الذي جاء به علي من اليمن، والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة: مئة) بدنة.
قال جابر: (ثم حل الناس كلهم) أي: معظمهم وأكثرهم، فهو عام أريد به الخصوص؛ لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي (وقصروا) شعورهم، قال الطيبي: وإنما قصروا مع أن الحلق أفضل؛ لكي يبقى لهم بقية من الشعر حتى يحلق في الحج. انتهى.
وليكون شعرهم في ميزان حجتهم أيضًا سببًا لزيادة أجرهم، وليكونوا
إِلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَتَوَجَّهُوا إِلَى مِنىً .. أَهَلُّوا بِالْحَجِّ،
===
داخلين في المقصرين والمحلقين، جامعين بين العمل بالرخصة والعزيمة، كذا في "المرقاة".
(إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان) أي: جاء وحصل (يوم التروية) وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي به؛ لأنهم يروون إبلهم فيه؛ استعدادًا للوقوف يوم عرفة؛ إذ لم يكن في عرفات ماء جارٍ كزماننا. انتهى "شرح اللباب"، وقيل: لأن قريشًا كانت تحمل الماء من مكة إلى منىً للحجاج تسقيهم فيروون منه. انتهى من "المفهم".
وقال النووي في "مناسكه": يوم التروية: هو الثامن من ذي الحجة، واليوم التاسع منه: يوم عرفة، والعاشر: يوم النحر، والحادي عشر: القَرُّ - بفتح القاف وتشديد الراء - لأنهم يقرون فيه بمنىً، والثاني عشر: يوم النفر الأول، والثالث عشر: يوم النفر الثاني. انتهى منه.
(وتوجهوا إلى منىً) أي: قصدوا وأخذوا في الأهبة إلى منىً والاستعداد لها، لا أنهم توجهوا بمشيهم إلى منى، فأحرموا منها؛ فإن ذلك باطل بإجماع العلماء، على أنهم أحرموا من مكة (أهلوا) أي: أحرموا (بالحج) من مكة بعد استعدادهم للخروج إلى منىً، والمستحب عند أكثر العلماء فيمن أحرم من مكة بالحج: أن يكون إحرامه متصلًا بسيره إلى منىً يوم التروية؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث.
واستحب بعضهم: أن يكون ذلك أول هلال ذي الحجة؛ ليلحقهم من الشعث إلى وقت الحج ما لحق غيرهم، والقولان عن مالك. انتهى من "المفهم".
فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِمِنىً الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ،
===
(فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منىً (فصلى بمنىً لظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) يعني: أنه صلي كل صلاة في وقتها غير مجموعة؛ كما قد توهمه بعضهم ممن لا يعرف.
وإنما ذكر عدد الصلوات الخمس هنا؛ ليعلم الوقت الذي وصل فيه إلى منى والوقت الذي خرج فيه منها إلى عرفة، ولذلك قال مالك باستحباب دخوله إلى منىً وخروجه منها في ذينك الوقتين المذكورين، وقد استحب جميع العلماء الخروج إلى منىً يوم التروية، والمبيت بها ليلة عرفة، والغدو منها إلى عرفة، ولا حرج في ترك ذلك والخروج من مكة إلى عرفة ولا دم. انتهى من "المفهم".
قال النووي: وفيه ندب التوجه إلى منىً يوم التروية، وكره مالك التقدم إليها قبله، وقال الشافعي: إنه خلاف السنة.
وفيه أنه يبيت في هذه الليلة بمنىً؛ وهي ليلة التاسع من ذي الحجة، وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب؛ فلو تركه .. لا دم عليه بالإجماع. انتهى.
وقال بعضهم: والسر في نزول منىً أنها كانت سوقًا عظيمًا من أسواق الجاهلية؛ مثل عكاظ والمجنة وذي المجاز وغيرها.
وإنما اصطلحوا عليه؛ لأن الحج يجمع أقوامًا كثيرةً من أقطار متباعدة، ولا أحسن للتجارة ولا أوفق بها من أن يكون موسمها عند هذا الاجتماع؛ لأن مكة تضيق عن تلك الجنود المجندة، فلو لم يصطلح حاضرهم وباديهم، وخاملهم ونَبِيهُهُم على النزول في فضاء مثل منىً .. لحرجوا، وإن اختص بعضهم بالنزول .. لوجدوا في أنفسهم شيئًا من التباغض، ولما جرت العادة بنزولها .. اقتضى ديدن العرب وحميتهم أن يجتهد كل حي في التفاخر والتكاثر وذكر مآثر
ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ،
===
الآباء، وإراءة جلدهم، وكثرة أعوانهم؛ ليرى ذلك الأقاصي والأداني، ويشتد به الذكر في الأقطار، وكان للإسلام حاجة إلى اجتماع مثله؛ يظهر به شوكة المسلمين وعدتهم؛ ليظهر دين الله تعالى، ويبعد صيته، ويغلب على كل قطر من الأقطار، وأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم، وحث عليه وندب إليه، ونسخ التفاخر وذِكْرَ الآباء وأبدله بذكر الله، بمنزلة ما أبقى من ضيافتهم وولائمهم؛ وليمة النكاح وعقيقة المولود؛ لما رأى فيها من فوائد جليلة في تدبير المنازل. انتهى "فتح الملهم".
(ثم) بعدما صلى الفجر (مكث) النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: جلس وتأخر زمنًا (قليلًا) في منىً (حتى طلعت الشمس) على ثبير، فيه أن السنة ألا يخرجوا من منىً حتى تطلع الشمس، وهذا متفق عليه.
(وأمر) صلى الله عليه وسلم بعد طلوع الشمس (بـ) قلع (قبة) وخيمة له في منىً كائنة (من شعر) وهدمها (فضربت) وبنيت (له بنمرة) قبل قدومه؛ والمعنى: أمر بضرب قبة بنمرة قَبْلَ قُدُومِهِ إليها.
قال الأبي: لما أراد أن يظهر مخالفة الجاهلية .. أراد أن يظهر ذلك ابتداءً؛ ليتأهبوا لذلك.
قال النووي: في هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها، ولا خلاف في جوازه للنازل، واختلفوا في جوازه للراكب: فمذهبنا جوازه، وبه قال كثيرون، وكرهه مالك وأحمد وأهل المدينة، وستأتي المسألة مبسوطة في موضعها إن شاء الله تعالى، وفيه أيضًا جواز اتخاذ القباب، وجوازها من شعر. انتهى.
و(نمرة) بفتح النون وكسر الميم، هذا أصلها، ويجوز فيها ما يجوز في
فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
===
نظيرها؛ وهو إسكان الميم مع فتح النون وكسرها؛ وهي موضع بجنب عرفات، وليست من عرفات، وقال القرطبي: وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم، على يمين الخارج من مأزمي منىً إلى الموقف. انتهى.
(فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: ذهب من منىً إلى عرفة والحال أنه (لا تشك قريش) في مخالفته صلى الله عليه وسلم إياهم في المناسك (إلا أنه) صلى الله عليه وسلم (واقف عند المشعر الحرام) أي: إلا في وقوفه عند المشعر الحرام؛ فإنهم تيقنوا موافقته إياهم في الوقوف عند المشعر الحرام؛ أي: أنهم لا يشكون في أنه صلى الله عليه وسلم سيقف عند المشعر الحرام على ما كانت عادتهم من وقوفهم به ويقف سائر الناس بعرفة.
قال الأبي: الأظهر أن (لا) زائدة، وجملة (أن) في موضع نصب على إسقاط الخافض.
والمعنى: ولا تشك قريش في أنه واقف عند المشعر الحرام؛ لكونه منهم.
وقال الطيبي: أي: ولم يشكوا في أنه يخالفهم في المناسك، بل تيقنوا بها، إلا في الوقوف؛ فإنهم جزموا بأن يوافقهم فيه؛ فإن أهل الحرم كانوا يقفون عند المشعر الحرام؛ وهو جبل صغير في وسط مزدلفة، يقال له: قزح - بوزن زفر - وعليه جمهور المفسرين والمحدثين، وقيل: إنه كل المزدلفة، وهو بفتح العين، وقيل: بكسرها، ذكره النووي رحمه الله تعالى.
وقال السنوسي: ويحتمل أن يكون الاستثناء من محذوف؛ تقديره: ولا تشك قريش في أنه صلى الله عليه وسلم يخالفهم في جميع المناسك، إلا الوقوف
أَوِ الْمُزْدَلِفَةِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّة، فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ
===
عند المشعر الحرام؛ فإنهم تحققوا أنه لا يخالفهم فيه، وما قاله موافق لما قلناه في حلنا ولما قاله الطيبي، ولكن ما قاله الأبي أظهر وأوضح.
أي: ولا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام (أو) في سائر (المزدلفة؛ كلما كانت قريش) أي: موافقًا لما كانت قريش (تصنعـ) ـه (في الجاهلية) فإنهم يقفون عند المشعر الحرام، بدل وقوف الناس بعرفة، ويقولون: نحن أهل الحرم لا نخرج منه إلى الحل، وكان هذا من جملة ما ابتدعت وغيرت من شريعة إبراهيم عليه السلام وسننه في الحج. انتهى من "المفهم".
وقد يتوهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يوافقهم قبل البعثة، وليس كذلك؛ لما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أنه كان يقف مع عامة الناس قبل النبوة أيضًا. انتهى "فتح الملهم".
(فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات على خلاف ظنهم؛ فإنهم ظنوا وقوفه صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة مثلهم؛ لكونه قرشيًّا (حتى أتى عرفة) أي: حتى قارب عرفات؛ بقرينة حكاية نزوله صلى الله عليه وسلم في قبة له في نمرة؛ حيث قال: (فوجد) صلى الله عليه وسلم (القبة) والخيمة؛ أي: فلما قارب صلى الله عليه وسلم عرفة .. وجد القبة (قد ضربت) وبنيت (له) صلى الله عليه وسلم (بنمرة، فنزل بها) أي: بثمرة، وقد سبق أن نمرة ليست من عرفات، وقد قدمنا أن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جميعًا خلاف السنة (حتى إذا زاغت) وزالت (الشمس) عن كبد السماء ومالت من جانب
أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ
===
المشرق إلى جانب المغرب ففاء الفيء. انتهى "قاموس".
وحتى غاية للنزول (أمر) رسول الله صلى الله عليه وسلم (بـ) شد الرحل وربطه على (القصواء) ليذهب إلى عرفة بعد جمع الصلاتين (فرحلت) القصواء (له) صلى الله عليه وسلم؛ أي: لركوبه إياها؛ أي: وضع عليها الرحل؛ والقصواء: ناقته صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكرها؛ وهو بضم الراء على بنائه للمجهول مخففًا؛ أي: شد عليها الرحل لركوب النبي صلى الله عليه وسلم (فركبـ) ـها (حتى أتى) النبي صلى الله عليه وسلم (بطن الوادي) أي: بطن عرنة - بضم العين وفتح الراء المهملتين بعدهما نون - قال القاري: موضع متسع جامع بعرفات يسمى عرنة، وليست من عرفات عند الشافعي والعلماء كافة إلا مالكًا؛ فإنه قال: هي من عرفات، ومنها بعض مسجد إبراهيم الموجود الآن، واختلف فيمن أحدثه؛ والصحيح: أنه منسوب لإبراهيم الخليل عليه السلام باعتبار أنه أول من اتخذه مصلىً. انتهى، وقيل: غير ذلك.
(فخطب) النبي صلى الله عليه وسلم (الناس) ووعظهم في عرنة قبل الصلاة، قال الزرقاني: فيه أنه يستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع، وبه قال الجمهور والمدنيون والمغاربة من المالكية، وهو المشهور.
قال النووي: ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة؛ إحداها: يوم السابع من ذي الحجة؛ يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر، والثانية: هذه التي ببطن عرنة يوم عرفات، والثالثة: يوم النحر بمنىً، والرابعة: يوم النفر الأول؛ وهو اليوم الثاني من أيام التشريق، قال أصحابنا: وكل هذه الخطب أفراد، وبعد صلاة الظهر إلا التي في يوم عرفات؛ فإنها خطبتان، وقبل الصلاة،
فَقَالَ: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ
===
قال أصحابنا: ويعلمهم في كل خطبة من هذه الخطب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى، والله أعلم. انتهى كلام النووي.
وعند الحنفية: في الحج ثلاث خطب؛ أولها وثانيها: ما ذكره النووي، وثالثها: بمنًى في اليوم الحادي عشر، فيفصل بين كل خطبتين بيوم، وكلها سنة.
(فقال) صلى الله عليه وسلم في خطبته تلك: (إن) سفك (دمائكم و) أخذ (أموالكم) بغير حق، والكلام على حذف مضاف في الأول "إذ الذوات لا توصف بتحريم ولا تحليل.
وزاد في بعض الطرق: (وأعراضكم) جمع عرض، وقد تقدم بسط الكلام على كل من الثلاثة (عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا) يعني: يوم عرفة (في شهركم هذا) يعني: ذا الحجة (في بلدكم هذا) يعني: مكة.
وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد؛ لأن حرمة البلد والشهر واليوم كان ثابتًا عندهم، مقررًا في نفوسهم، بخلاف الأنفس والأموال والعرض؛ لأنهم كانوا يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم.
(ألا) - بفتح الهمزة والتخفيف للتنبيه - أي: انتبهوا واستمعوا ما أقول لكم أيها المسلمون (و) ذلك القول: (إن كل شيء من أمر الجاهلية) أي: إن كل أمر من الأمور الجاهلية؛ أي: من الأمور التي أحدثتها الجاهلية والشرائع التي كانوا شرعوها في الحج وغيره؛ كتسييب السوائب وأكل الدم والميتة .. (موضوع تحت قدمي) - بالتشديد - على صيغة التثنية، مثنى قدم؛ أي: تحت
هَاتَيْنِ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَة، وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضَعًا
===
قدمي (هاتين) أي: مردود وباطل حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين؛ أي: لا اعتبار له؛ لأني قد أبطلته، أي: لا مؤاخذة بما فعله في الجاهلية ولا قصاص ولا دية ولا كفارة بما وقع في الجاهلية من القتل، ولا يؤخذ الزائد على رأس المال بما وقع في الجاهلية من عقد الربا (ودماء الجاهلية) أي: دماء أريقت في الجاهلية ظلمًا وعدوانًا (موضوعة) أي: مهدرة متروكة لا قصاص فيها ولا دية ولا كفارة.
قال القاري: أعادها مع دخولها فيما قبلها؛ للاهتمام بها، أو ليبني عليه ما بعده من الكلام، وقال الولي العراقي: يمكن أنه من عطف الخاص؛ لاندراج دمائها في أمرها، ويمكن أنه لا يندرج؛ لحمل أمورها على ما ابتدعوه وشرعوه من عند أنفسهم بلا سابقية له، وإيجاب القصاص على القاتل ليس مما ابتدعوه، وإنما أريد قطع النزاع بإبطال ذلك؛ لأن منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، ومنها ما يثبت ومنها ما لا يثبت. انتهى.
(وأول دم أضعه)؛ أي: أهدره وأبطله من دمائنا يا معشر الإسلام أو يا أهل بيتي؛ أي: إن أول دم أبدأ بإهداره من الدماء التي يستحقها المسلمون .. (دم) إياس (بن ربيعة بن الحارث) بن عبد المطلب ابن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي النسخ: (دم ربيعة بن الحارث)، وهو تصحيف ووهم من بعض الرواة؛ لأن ربيعة عاش حتى توفي زمن عمر بن الخطاب سنة ثلاث وعشرين، وأوله أبو عبيد بأنه نسب الدم إلى ربيعة؛ لأنه ولي دم ابنه إياس؛ كما سبق بسط الكلام في هذه المسألة.
(كان) إياس بن ربيعة (مسترضعًا) - بفتح الضاد المعجمة وكسرها على
فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ،
===
صيغتي اسم الفاعل واسم المفعول؛ أي: كان لهذا الابنِ ظئر ترضعه (في) نساء (بني سعد، فقتلته هذيل) - مصغرًا - ظاهره أنها تعمدت قتله، وذكر الزبير بن بكار أنه كان صغيرًا يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبين ليث بن بكر، كذا ذكره عياض والنووي وغيرهما ساكتين عليه، وهو مناف لقوله:"قتلته هذيل" لأنهم غير بني ليث؛ إذ هذيل هو ابن مدركة بن إلياس بن مضر، وليث هو ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة؛ كما بينه أبو عبيد القاسم بن سلام في "أنسابه". انتهى كذا في "شرح المواهب"، والله أعلم.
(وربا الجاهلية) أي: الزائد على رأس المال .. (موضوع) أي: متروك لا يؤخذ بعد اليوم دون رأس المال، قال الولي العراقي: ولا شك أن عطف هذا على أمر الجاهلية من عطف الخاص على العام؛ لأنه من إحداثاتهم الفاسدة.
(وأول ربًا أضعه) وأُبْطِلهُ، وهو مبتدأ، خبره (ربانا) أهل البيت، وقوله:(ربا العباس بن عبد المطلب) بدل منه، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو ربا العباس (فإنه) أي: فإن ربا العباس، أو ربانا أهل البيت (موضوع) أي: متروك أخذه مهدر، يحتمل عود ضمير (إنه) إلى ربا العباس تأكيدًا لوضعه، ويحتمل عوده لجميع الربا؛ أي: ربا العباس موضوع؛ لأن الربا (كله) موضوع، وإنما بدأ في وضع ربا الجاهلية باهل بيته؛ ليكون أمكن في قلوب السامعين، وأسدَّ لأبواب الطمع في الترخيص.
قال القرطبي: والربا لغةً: الزيادة والكثرة، ثم إنهم كانت لهم بيوعات يسمونها بيع الربا؛ منها: أنهم كانوا إذا حل الدين .. يقول الغريم لرب
فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛
===
الدين: أنظرني وأزيدك، فينظره إلى وقت آخر على زيادةٍ مقررةٍ، فإذا حل ذلك الوقت الآخر .. قال له أيضًا كذالك، فربما يؤدي ذلك إلى استئصال مال الغريم في نزرٍ يسيرٍ كان أخذه أول مرة، فأبطل الله سبحانه ذلك وحرمه، وتوعد عليه بقوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1)، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنًا وسنةً.
ووعظ الناس وذكرهم بذلك في ذلك الموطن؛ مبالغةً في التبليغ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بربا العباس؛ لخصوصيته بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقتدي الناس به قولًا وفعلًا، فيضعون عن غرمائهم ما كان من ذلك. انتهى من "المفهم".
(فاتقوا الله) تعالى؛ أي: خافوا عقوبة الله تعالى (في) ترك القيام بحقوق (النساء) والأزواج ومصالحهن الدينية والدنيوية.
قال الطيبي: هو عطف من حيث المعنى على (دمائكم وأموالكم) أي: فاتقوا الله في استباحة الدماء ونهب الأموال وفي النساء، وهو من عطف الإنشاء على الخبر بالتأويل؛ كما عطف {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (2) على قوله تعالى:{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} (3).
وقال العراقي: يحتمل أن تكون الفاء زائدة، لأنه في رواية بدونها، أو أنها للسببية؛ لأنه لما قرر إبطال أمر الجاهلية، وكان من جملتها منع النساء من
(1) سورة البقرة: (275).
(2)
سورة يس: (59).
(3)
سورة يس: (55).
فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ الله، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله،
===
حقوقهن، وترك إنصافهن .. أمرهم بمتابعة الشرع في إنصافهن، فكأنه قيل: فبسبب إبطال أمر الجاهلية اتقوا الله في النساء وأنصفوهن.
قال النووي: وفيه الحث على مراعاة حقوق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف، وقد جاءت أحاديث صحيحة كثيرة في الوصية بهن، وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك، وقد جمعتها أو معظمها في "رياض الصالحين" انتهى "نووي".
(فإنكم) أيها الرجالط (أخذتموهن) أي: أمسكتموهن في عصمتكم (بأمانة الله) تعالى؛ أي: بعهد الله تعالى؛ وهو ما عهد إليهم من الرفق بهن. انتهى "أبي"، وفي بعض النسخ:(بأمانة الله)، قال الزرقاني: أي: بأن الله ائتمنكم عليهن، فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية.
وفي كثير من أصول "مسلم": (بأمان الله) بلا هاء؛ كما قال النووي، وهو يقوي أن في قوله:"أخذتموهن" دلالة على أنها كالأسيرة المحبوسة تحت زوجها، وله التصرف فيها، والسلطنة عليها، ويوافقه قوله في رواية أخرى:"فإنهن عوان عندكم" جمع عانية؛ وهي الأسيرة، لكنها ليست أسيرةً خائفةً كغيرها، بل هي أسيرة آمنة.
(واستحللتم فروجهن) والاستمتاع بهن (بكلمة الله) تعالى التي أنزلها في كتابه بقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (1)؛ أو بكلمة الله المشتملة على الإيجاب والقبول؛ أي: استحللتم بالصيغة التي ينعقد بها النكاح من إيجاب وقبول، وقيل: كلمة الله: عبارة عن حكمه تعالى بحلية النكاح وجوازه وبيان
(1) سورة النساء: (3).
وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ؛
===
شروطه؛ فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاقتضاء أو التخيير، والأول هو الصحيح.
قال الأبي: والمعنى: أن استحلالكم فروجهن، وكونهن تحت أيديكم إنما كان بعهد الله وحكمه؛ فإن نقضتم عهد الله، وأبطلتم حكمه .. انتقم منكم. انتهى.
(وإن لكم) أيها الأزواج (عليهن) على سبيل الوجوب؛ أي: ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلال الزوج بكلمة الله، وعلم منه تأكيد الصحبة والرابطة بين الزوجين .. انتقل إلى بيان ما على كل واحد منهما من الحقوق، وبدأ بحق الأزواج؛ لأنهم المخاطبون، فقال: ولكم أيها الأزواج من الحقوق عليهن؛ أي: على زوجاتكم (ألا يوطئن فرشكم) أي: ألا يجلسن على فرشكم (أحدًا تكرهونه) أي: ألا يدخلن أحدًا تكرهون دخوله في بيوتكم، سواء كرهتم ذاته أم لا.
وعبر بفرشكم؛ لأن الداخل يطأ المنزل الذي يدخل فيه؛ أي: إنه ليس للزوجة أن تمكِّن أحدًا ولو امرأة أو محرمًا لها من دخول بيت زوجها، إلا إذا علمت عدم كراهية زوجها لذلك، هكذا حمله القرطبي والنووي على العموم.
وعبارة القرطبي هنا: معنى هذا الكلام: لا يدخلن منازلكم أحدًا ممن تكرهونه، ويدخل في ذلك الرجال والنساء الأقرباء والأجانب. انتهى من "المفهم".
وقال ابن الملك: يعني: ألا تأذن أحدًا ممن تكرهون دخوله عليهن.
وليس وطء الفراش كناية عن الزنا؛ لأنه حرام مع كل أحد تكرهونه أم لا،
فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ .. فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف،
===
ولأنه لو كان المراد ذلك .. لكان عقوبتهن الرجم دون الضرب، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فإن فعلن ذلك .. فاضربوهن
…
" إلى آخره.
وقال المازري: قيل: المراد: النهي عن الخلوة بالرجال لا عن الزنا؛ لأن الزنا يوجب الحد، وهو حرام مع من يحب ومع من يكره.
قال القاضي عياض: كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء، وليس عندهم في ذلك عيب ولا ريبة، حتى نزلت آية الحجاب، فنهوا عن ذلك.
قال النووي: والمختار أن معناه: أنه لا يحل للزوجة أن تأذن لأحد بدخول داره لا رجل ولا امرأةٍ ذات محرم منها إلا أن تظن أن الزوج لا يكره ذلك منها؛ فإن شكت في أنه يكرهه .. لم تأذن؛ لأن الأصل المنع حتى تظن. انتهى.
(فإن فعلن) الأزواج (ذلك) الإيطاء المذكور بدون رضاكم، بلفظ صريح أو بقرائن .. (فاضربوهن ضربًا غير مبرح) - بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء المشددة آخره حاء مهملة - من البرح - بفتح الباء وسكون الراء - وهو المشقة الشديدة؛ أي: غير شديدٍ ولا شاقٍّ، أو غير جارح لحم، ولا كاسر عظم، والأول أحسن؛ لأنه ليس بالحد، وإنما هو تأديب، وفيه إباحة تأديب الرجل زوجته، فإِن ضَربَها الضربَ المأذون فيه، فماتت منه .. وجبت ديتها على عاقلة الضارب، ووجبت الكفارة في ماله. انتهى "نووي".
(ولهن) أي: وللزوجات (عليكم) أيها الأزواج (رزقهن) أي: قوتهن من المأكول والمشروب وما يتبعه من الإدام ونحوه، وفي معناه سكناهن (و) عليكم أيضًا (كسوتهن بالمعروف) عادةً؛ أي: على قدر كفايتهن دون سرف ولا تقتير، أو باعتبار حالكم فقرًا ويسرًا.
وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللهِ
===
وعبارة القرطبي: أي: بما يعرف من حاله وحالها، وهو حجة لمالك؛ حيث قال: إن النفقات على الزوجات غير مقدرات، وإنما ذلك بالنظر إلى أحوالهم وأحوالهن. انتهى من "المفهم".
(و) لـ (قد تركت فيكم) أيتها الأمة (ما) أي: أصلًا وحجةً (لن تضلوا) بعده أي: معه أو بعد التمسك به (إن اعتصمتم) وتمسكتم (به) أي: بذلك الأصل وعملتم به؛ أو المعنى: لن تضلوا بعد تركي إياه فيكم، وفي هذا التركيب إبهام وتوضيح بعده؛ وذلك لبيان أن هذا الشيء الذي تركه فيهم شيء جليل عظيم فيه جميع المنافع الدينية والدنيوية، ثم لما حصل من هذا التشوف التام للسامع، وتوجه إلى استماع ما يرد بعده، واشتاقت نفسه إلى معرفته .. بينه بقوله:(كتاب الله) العزيز؛ يعني: القرآن الكريم، بالنصب بدل من مفعول (تركت) جزم به العراقي نظرًا إلى أنه الرواية، وإلا .. فيجوز رفعه على أنه خبر لمحذوف؛ أي: وهو كتاب الله تعالى.
ولم يذكر السنة مع أن بعض الأحكام يستفاد منها؛ لاندراجها تحته؛ فإن الكتاب هو المبين للكل؛ بعضها بواسطة، وبعضها بلا واسطة، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1).
وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2)، كذا في "شرح المواهب"، قال القاري: وإنما اقتصر على الكتاب؛ لأنه مشتمل على العمل بالسنة؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (3).
(1) سورة النحل: (89).
(2)
سورة النحل: (44).
(3)
سورة المائدة: (92).
وَأَنْتُمْ مَسْؤُولُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ "، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ إِلَى السَّمَاءِ
===
وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1)، فيلزم من العمل بالكتاب العمل بالسنة، وفيه إيماء إلى أن الأصل الأصيل هو الكتاب.
(وأنتم) أيتها الأمة (مسؤولون عني) يوم القيامة، قال الطيبي: عطف على مقدر؛ أي: قد بلغت ما أرسلت به إليكم جميعًا غير تارك لشيء مما بعثت به (وأنتم تسألون عني) يوم القيامة؛ هل بلغكم؟ فبأي شيء تجيبون؟ دل على هذا المحذوف (الفاء) في قوله: (فما أنتم قائلون) في جواب ذلك السؤال؟ أي: إذا كان الأمر هكذا .. فبأي شيء تجيبونه؟
(قالوا) أي: قال الحاضرون عنده: إذا سئلنا .. نقول: (نشهد أنك قد بلغت (الرسالة (وأديت) الأمانة (ونصحت) الأمة.
وقال العراقي: تسألون عني في يوم القيامة، أو في البرزخ، فما أنتم قائلون حين سؤالكم؟ على الأظهر، أو الآن في جوابي، ويترتب عليهما قولهم:(نشهد) أي: في القيامة، أو الآن، قال: وحَذْفُ المعمول في الثلاثة يدل على تبليغ جميع ما أمر به، ونصحه لجميع الناس الموجودين والذين يوجدون إلى يوم القيامة. انتهى.
(فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: أشار (بإصبعه السبابة) وهي التي تلي الإبهام، وتسمى بالمسبحة (إلى السماء) وإلى الناس، حالة كونه يرفعها إلى السماء؛ أي: رافعًا إياها إلى السماء، فالحال من فاعل (قال)، أو حالة كونها مرفوعة إلى السماء، فالحال من السبابة.
(1) سورة الحشر: (7).
وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: "اللَّهُمَّ؛ اشْهَد، اللَّهُمَّ؛ اشْهَدْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،
===
قال القرطبي: والإشارة إما إلى السماء؛ لأنها قبلة الدعاء، وإما لعلوِّ الله المعنويِّ؛ لأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يختصُّ بجهة.
(وينكتها إلى الناس) أي: وحالة كونه يرفعها إلى السماء أولًا، ثم ينكتها؛ أي: يقلبها ويوجهها إلى الناس؛ إشارةً إلى إشهاد الله على شهادتهم بالتبليغ.
قوله: (وينكتها إلى الناس) أيضًا - بفتح التحتية وسكون النون وضم الكاف بعدها فوقية - قال عياض: كذا في رواية مسلم، وهو بعيد المعنى؛ لأنه من نكت الأرض بعود؛ إذا ضربها به، قيل: صوابه: (ينكبها) - بموحدة في آخره بدل التاء - من نكب كنانته؛ إذا قلبها، ومعناه: يقلبها ويرددها ويوجهها إلى الناس مشيرًا إليهم. انتهى "ع".
قائلًا بلسانه: (اللهم؛ اشهد) أي: على عبادك بأنهم قد أقروا بأني قد بلغت إليهم؛ والمعنى: اللهم؛ اشهد أنت؛ إذ كفى بك شهيدًا، وقوله:(اللهم؛ اشهد) ثانيًا تأكيد للأول؛ لأنه كرره (ثلاث مرات).
وفي "شرح المواهب" للزرقاني: فإن قيل: ليس في هذه الخطبة شيء من المناسك فيرد على قول الفقهاء: (يعلمهم الخطيب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى) .. أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بفعله المناسك عن بيانه بالقول؛ لأنه أوضح، واعتنى بما أهمه في الخطبة التي قالها، والخطباء بعد ليست أفعالهم قدوةً، ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها، فاستحب لهم البيان بالقول.
وفيه حجة للمالكيَّةِ وغيرِهم أنَّ خطبة عرفة فردةٌ؛ إذ ليس فيه أنه خَطَبَ خطبتين، وما روي في بعض الطرق أنه خطب خطبتين .. فضعيف؛ كما قاله
ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا،
===
البيهقي وغيره. انتهى، وقد تكلم عليه الشوكاني في "شرح المنتقى"، فراجعه.
(ثم) بعد فراغه من الخطبة (أَذَّن بلال) رضي الله تعالى عنه (ثم أقام) بلال للصلاة (فصلى) رسول الله صلى الله عليه وسلم (الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل) النبي صلى الله عليه وسلم (بينهما) أي: بين الظهر والعصر (شيئًا) من النوافل ولا غيرها؛ أي: جمع بينهما في وقت الظهر، وهذا الجمع كجمع مزدلفة؛ جمع نسك عند الأحناف ومالك والأوزاعي، وجمع سفر عند الشافعي، خلافًا لبعض أصحابه.
قال النووي: في الحديث أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه.
واختلفوا في سببه: فقيل: بسبب النسك، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحاب الشافعي: هو بسبب السفر، فمن كان حاضرًا أو مسافرًا دون مرحلتين؛ كأهل مكة .. لم يجز له الجمع؛ كما لا يجوز له القصر.
وفيه أن الجامع بين الصلاتين يصلي الأولى أولًا، وأنه يؤذن للأولى، وأنه يقيم لكل واحدة منهما، وأنه لا يفرق بينهما، وهذا كله متفق عليه عندنا. انتهى منه، وفي "الدر المختار": وبعد الخطبة صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، قال ابن عابدين: قوله: بأذان؛ أي: واحد؛ لأنه للإعلام بدخول الوقت، وهو واحد.
وقوله: (وإقامتين) أي: يقيم للظهر ثم يصليها، ثم يقيم للعصر فيصليها؛ لأن الإقامة لبيان الشروع في الصلاة، بخلاف الجمع في مزدلفة؛
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ،
===
لأن الصلاة الثانية هناك تؤدى في وقتها، فتستغني عن تجديد الإعلام، أما الثانية هنا .. ففي غير وقتها، فتحتاج إلى إقامة أخرى؛ للإعلام بالشروع فيها.
وإنما جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء في مزدلفة؛ لأن للناس يومئذ اجتماعًا لم يعهد في غير هذا الموطن، والجماعة الواحدة مطلوبة، ولا بد من إقامتها في مثل هذا الجمع؛ ليراه من هنالك، ولا يتيسر اجتماعهم في وقتين، وأيضًا فلأن للناس اشتغالًا بالذكر والدعاء، وهما وظيفة هذا اليوم، ورعاية الأوقات وظيفة جميع السنة، وإنما يرجح في مثل هذا الشيء البديع النادر، فيقدم رعايته.
(ثم) بعدما فرغ من الصلاتين (ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء (حتى أتى الموقف) أي: أرض عرفات، واللام فيه للعهد الذهني؛ والمراد: موقفه الخاص.
قال بعضهم: والحكمة في الوقوف بعرفة أن اجتماع المسلمين في زمان واحد ومكان واحد راغبين في رحمة الله تعالى داعين له متضرعين إليه .. له تأثير عظيم في نزول البركات، وانتشار الروحانية، ولذلك كان الشيطان يومئذ أدحر وأحقر ما يكون.
وأيضًا فاجتماعهم ذلك تحقيق لمعنى العرضة، وخصوص هذا اليوم وهذا المكان متوارث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على ما يذكر في الأخبار عن آدم فمن بعده، والأخذ بما جرت به سنة السلف الصالح أصل أصيل في باب التوقيت. انتهى "فتح الملهم".
وقيل: إن إبراهيم عليه السلام حين أمر بالتأذين بالحج .. وقف على جبل الرحمة فنادى عليه، فلذلك اجتمعوا هناك؛ تلبيةً لندائه، والله أعلم.
فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ إِلَى الصَّخَرَات، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ،
===
(فجعل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (بطن ناقته) القصواء موجهًا (إلى الصخرات) الكبار المفروشة تحت جبل الرحمة محاذيًا لها؛ وهو الجبل الذي في وسط أرض عرفات.
والصخرات - بفتحتين -: الأحجار الكبار؛ أي: المفروشات في أسفل جبل الرحمة.
(وجعل حبل المشاة) أي: طريق المشاة ومجتمعهم (بين يديه) أي: قدامه.
فالمعنى: أنه جعل الطريق التي يسلكها المشاة بين يديه. انتهى "أبي"، والحبل - بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة وبلام في آخره - هو في اللغة: ما طال من الرمل، وقيل: الضخم منه، والمشاة - جمع ماشٍ - ففيه تشبيههم بالرمل المجتمع؛ والمراد: جعل صف المشاة ومجتمعهم بين يديه.
(واستقبل القبلة) فيستحب استقبالها في الوقوف بعرفة للاتباع (فلم يزل) رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: لم يبرح (واقفًا حتى غربت الشمس) قال القاري: أي: حتى غرب أكثرها أو كادت أن تغرب.
وقوله: (وذهبت الصفرة قليلًا) أي: ذهابًا قليلًا، معطوف على (غربت).
وقوله: (حتى غاب القرص) أي: قرص الشمس وجرمها كلها، بدل من قوله:(حتى غربت الشمس) أي: لم يزل واقفًا حتى غاب القرص كله وذهب بعض الصفرة، هذا ما ظهر للفهم السقيم، ويؤيده قول القاري:(حتى غاب القرص) أي: جميعه.
وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ، فَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ الْقَصْوَاءَ بِالزِّمَامِ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ
===
وقول النووي: وهذا بيان لقوله: (غربت الشمس) فإن هذه تطلق مجازًا على مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال بقوله:(حتى غاب القرص) كله، والله أعلم.
(وأردف) رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: أركب (أسامة بن زيد) بن حارثة، حبه ومولاه رضي الله تعالى عنه (خلفه) أي: وراءه على ناقته القصواء (فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك؛ أي: ذهب من عرفة إلى مزدلفة (و) الحال أنه (قد شنق) - بفتح الشين المعجمة والنون الخفيفة فقاف - يقال: شنقت البعير شنقًا؛ من باب قتل؛ إذا كففته ورفعت رأسه بزمامه وأنت رافعه؛ كما يفعل الفارس بفرسه. انتهى "مصباح" أي: ضم وضيق (القصواء بالزمام) أي: الحبل الذي يجعل في رأسها؛ أي: ضمه وضيقه عليها وكفها؛ لئلا تسرع في سيرها؛ لوجود الزحام.
والزمام وكذا الخطام: ما يشد برؤوس الإبل؛ من حبل أو سير أو نحوه؛ لتقاد وتساق به، قال عياض في "المشارق": وقد فسره بقوله: (حتى إن رأسها) أي: ضيق عليها الزمام حتى إن رأسها (ليصيب مورك رحله) - بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراء فكاف -: قطعة من أديم محشوة شبه مخدة تجعل على مقدم الرحل يضع الراكب رجليه عليها متوركًا؛ ليستريح من وضعهما في الركاب؛ والمراد بذلك: أنه بالغ في جذب رأسها إليه؛ ليكفها عن الإسراع.
و(رحله) - بفتح الراء وحاء مهملة ساكنة - قال القسطلاني: وفي نسخة من "مسلم": (رجله) - بكسر الراء وجيم ساكنة بعدها - قال النووي: وفي هذا استحباب الرفق في السبر من الراكب بالمشاة، وبأصحاب الدواب الضعيفة.
وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: "أَيُّهَا النَّاسُ؛ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ"، كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ .. أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ
===
(و) أي: والحالُ أنه (يقول) أي: يشير (بيده اليمنى) إلى الناس بالتمهل وعدم العجلة في السير قائلًا بلسانه: (أيها الناس) الزموا (السكينة السكينة) مرتين؛ يعني: الرفق والوقار والطمأنينة وعدم الزحمة، بالنصب على الإغراء بعامل محذوف وجوبًا؛ كما قدرناه (كلما أتى) وجاء (حبلًا من الحبال) أي: رملًا من الرمال المجتمعة، والحبال - بحاء مهملة مكسورة - جمع حبل؛ وهو التل اللطيف من الرمل الضخم، وفي "النهاية": الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل.
(أرخى) أي: أرسل الزمام (لها) أي: للقصواء إرخاء (قليلًا) أو زمانًا قليلًا (حتى تصعد) روي بضم التاء المثناة فوق رباعيًا، وفتحها ثلاثيًّا؛ من باب فرح؛ كما قال عياض والنووي؛ أي: أرخى لها الزمام إلى صعودها رملًا من الرمال.
وفي أمره بالسكينة: الرفق بالناس وبالدواب؛ لئلا يجتمع عليها مشقة الصعود ومشقة الشنق صلوات الله وسلامه عليه ما أرأفه وأرحمه!
وقوله: (ثم أتى المزدلفة) غاية لقوله: (ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات، وفي "شرح المواهب": هي موضع بين عرفة ومنىً، كلها من الحرم؛ وهي المسماة بجمع - بفتح الجيم وسكون الميم وعين مهملة - وسميت جمعًا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء، فأزلف إليها ودنا منها؛ أي: قرب إليها.
وعن قتادة: إنما سميت جمعًا؛ لأنه يجمع فيه بين صلاتي المغرب والعشاء، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها، فسميت جمعًا، ويزدلفون فيها إلى الله تعالى؛
فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ
===
أي: يتقربون إليه بالوقوف بها، فسميت مزدلفة، إلى غير ذلك.
والسر في المبيت بمزدلفة أنه كان سنة قديمة فيهم، ولعلهم اصطلحوا عليها "لما رأوا من أن للناس اجتماعًا لم يعهد مثله في غير هذا الموطن، ومثل هذا مظنة أن يزاحم بعضهم بعضًا، ويحطم بعضهم بعضًا، وإنما تزاحمهم بعد المغرب، وكانوا طول النهار في تعبٍ، يأتون من كل فج عميق؛ فلو تجشموا أن يأتوا منىً والحال هذه .. لتعبوا. انتهى.
(فصلى) رسول الله صلى الله عليه وسلم (بها) أي: بمزدلفة (المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين) أي: جمع بينهما في وقت العشاء، قال المحب الطبري: وهذا الجمع سنة بإجماع من العلماء، وإن اختلفوا فيما لو صلى كل صلاة في وقتها؛ فعند أكثر العلماء يجوز، وقال الثوري وأصحاب الرأي: إن صلى المغرب دون المزدلفة .. فعليه الإعادة، وجوزوا في الظهر والعصر أن يصلي كل واحدة في وقتها مع كراهية. انتهى.
وقوله: (بأذان واحد وإقامتين) هو قول أحمد، وأصح قولي الشافعي وغيرهما، وبه قال زفر والطحاوي من الأحناف، ورجحه ابن الهمام، واستدلوا بحديث جابر هذا، وبحديث أسامة بن زيد في "الصحيحين" وفيه:(فلما جاء مزدلفة .. نزل فتوضأ، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة، فصلى العشاء، ولم يصل بينهما شيئًا).
وقال أبو حنيفة: بأذان واحد وإقامة واحدة؛ لما أخرجه أبو داوود عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه قال: (أقبلت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة، فأمر إنسانًا فأذن وأقام، فصلى بنا المغرب ثلاث ركعات، ثم التفت إلينا، فقال: الصلاة، فصلى بنا العشاء ركعتين، ثم دعا بعشائه، فقيل له في
وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ،
===
ذلك، فقال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا)، ففي هذا الحديث معارضة لحديث جابر وحديث أسامة، فيرجحان بأن الأصل: تعدد الإقامة بتعدد الصلاة. انتهى من "فتح الملهم" بتصرف.
(ولم يصل) صلى الله عليه وسلم (بينهما) أي: بين المغرب والعشاء (شيئًا) من النوافل؛ ففيه الموالاة بين الصلاتين المجموعتين (ثم) بعدما فرغ من الصلاتين (اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم للنوم؛ تقويةً للبدن، ورحمةً للأمة، ولأن في نهاره عبادات كثيرة يحتاج إلى النشاط فيها (حتى طلع الفجر) الصادق.
وفي "المواهب وشرحه": وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل، ونام حتى أصبح؛ لما تقدم له من الأعمال بعرفة؛ من الوقوف من الزوال إلى ما بعد الغروب، واجتهاده صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرًا لها وجمعًا لهما جمع تأخير، ورقد بقية ليلته، مع كونه عليه الصلاة والسلام كان يقوم الليل حتى تورَّمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة من التعب، وقد قال:"إن لجسدك عليك حقًّا".
(فصلى الفجر) أي: صلى الصبح (حين تبين له الصبح) أي: حين ظهر له الفجر (بأذان وإقامة) قال النووي: فيه أنه يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموطن، ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم أكثر من تأكده في سائر السنة؛ للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن وظائف هذا اليوم كثيرة، فسن المبالغة بالتبكير للصبح؛ ليتسع الوقت للوظائف.
قال القرطبي: فيه سنية المبيت بمزدلفة، وصلاة الصبح بغلس، وفيه الأذان
ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَرَقِيَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعَرِ
===
في السفر، خلافًا لمن قال: يقتصر المسافر على الإقامة. انتهى من "المفهم".
(ثم ركب) رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته (القصواء حتى أتى المشعر الحرام) بفتح الميم والعين؛ كما في القرآن الكريم، وقيل: بكسر الميم، سمي (المشعر) لأنه مَعْلَمٌ للعبادة، وسمي (الحرام): لأنه من الحرم، أو لحرمته.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم وقف بالمزدلفة، وقال:"وقفت ها هنا، ومزدلفة كلها موقف"، وأخرج أبو داوود والترمذي عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح بجمع .. أتى قزح، فوقف عليه، وقال:"هذا قزح؛ وهو الموقف، وجمع كلها موقف"، قال الترمذي: حسن صحيح.
(فـ) لما أتى المشعر الحرام .. (رقي) من باب رضي؛ أي: رقي وصعد (عليه) أي: على المشعر الحرام، واستقبل القبلة (فحمد الله) تعالى بما يليق به من أوصاف الكمال، أو قال: الحمد لله (وكبره) تعالى؛ أي: قال: الله أكبر (وهلله) تعالى؛ أي: قال: لا إله إلا الله (فلم يزل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (واقفًا) عليه، ذاكرأ لله تعالى بلسانه (حتى أسفر) النهار وأضاء إسفارًا (جدًّا) أي: مبالغًا الغاية (ثم) بعدما أسفر النهار جدًّا (دفع) رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب إلى منىً (قبل أن تطلع الشمس، وأردف) أي: أركب الآن وراءه على ناقته (الفضل بن العباس) بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنهما، وكان الفضل أكبر أولاد العباس.
قال جابر: (وكلان) الفضل (رجلًا) جميلًا وضيئًا (حسن الشعر) أي:
أَبْيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم .. مَرَّ الظُّعُنُ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ فَصَرَفَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ،
===
شعر الرأس (أبيض) الجسم (وسيمًا) - بفتح الواو وكسر المهملة - أي: حسنًا وضيئًا، فوصفه بوصف من يفتتن به النساء (فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: ذهب إلى منىً .. (مر) به صلى الله عليه وسلم (الظعن) أي: نساء راكبات الإبل (يجرين) أي: يسرعن الإبل في سيرها.
والظعن - بضم الظاء المشالة والعين المهملة؛ ويجوز إسكان العين - جمع ظعينة؛ كسفينة وسفن، وأصل الظعينة: البعير الذي عليه المرأة، ثم سميت به المرأة الراكبة له مجازًا؛ لملابستها البعير؛ كما أن الراوية في أصلها: الجمل الذي يحمل الماء، ثم سميت به القربة؛ لما ذكرنا.
وقوله: (يجرين) قال القسطلاني: بفتح الياء وسكون الجيم؛ أي: نساء راكبات يمشين بالإبل، وبضمها مع سكونها؛ من أجرى الرباعي؛ أي: يسرعن الإبل في سيره راكبات (فطفق) الفضل؛ أي: شرع (ينظر إليهن) أي: إلى الظعينات (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده) الشريفة على وجه الفضل ليمنعه من النظر إليهن، وخوفًا عليه وعليهن من الفتنة، قاله الزرقاني.
قال النووي: فيه الحث على غض البصر عن الأجنبيات، وغضهن عن الرجال الأجانب، وهذا معنى قوله:(وكان أبيض وسيمًا حسن الشعر) يعني: أنه بصفة من تفتتن النساء به؛ لحسنه وجماله.
وقولُ المؤلِّفِ هنا: (مِن الشق الآخر) زيادة محرفة من بعض النساخ، والصواب إسقاطه.
(فصرف الفضل) أي: حول (وجهه من الشق الآخر) أي: إلى الجانب الآخر، حالة كونه (ينظر) إليهن؛ أي: إلى النساء الظعن؛ لغلبة الطبع عليه.
حَتَّى أَتَى مُحَسِّرًا حَرَّكَ قَلِيلًا،
===
ولفظ رواية "مسلم مع الكوكب": (فطفق الفضل ينظر إليهن) أي: إلى الظعينات (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل) ليمنعه من النظر إليهن (فحول الفضل) أي: صرف (وجهه إلى الشق الآخر) أي: إلى الجانب الآخر، حالة كونه (ينظر) إليهن؛ لغلبة الطبع (فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من) الشق الأول إلى (الشق الآخر) واضعًا يده (على وجه الفضل) حالة كونه (يصرف) أي: يحول (وجهه) أي: وجه الفضل (من الشق الآخر) الذي (ينظر فيه) إلى الشق الأول، هذا آخر لفظ مسلم.
وقوله: (حتى أتى) غاية لدفع؛ أي: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مزدلفة إلى منىً حتى أتى (محسرًا) أي: حتى أتى وادي فيل محسر صاحبه من المضي إلى مكة لهدم الكعبة.
و(محسر) - بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين - أو وادي مُحسِّرٍ أصحابَ الفيل من المرور فيه، قيل: هو واد بين مزدلفة ومنىً، ويصح فتح السين؛ أي: وادي فيل محسر فيه من المرور إلى مكة؛ أي: حسره الله وأعياه من المرور إلى مكة.
فلما أتى رسول الله محسرًا .. (حرك) وأسرع ناقته القصواء تحريكًا (قليلًا) أي: إسراعًا قليلًا، وفي "الدر المختار": فإذا بلغ بطن محسر .. أسرع قدر رمية حجر.
وقال الشافعي في "الأم": تحريكه صلى الله عليه وسلم الراحلة فيه .. يجوز؛ أي: يحتمل أن يكون ذلك لسعة الموضع، ويجوز أن يكون فعله؛ لأنه مأوى الشياطين.
وقيل: لأنه كان موقفًا للنصارى، فاستحب الإسراع فيه، وأهل مكة يسمون
ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تُخْرِجُكَ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ
===
هذا الوادي: وادي النار، يقال: إن رجلًا اصطاد فيه، فنزلت نار فأحرقته.
وقال الإسنوي: وظهر لي معنىً آخر في حكمة الإسراع؛ وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، فاستحب فيه الإسراع؛ لما ثبت في "الصحيح" من أمره صلى الله عليه وسلم المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك.
وقال غيره: وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه، والله أعلم. انتهى "فتح الملهم".
(ثم) بعدما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من وادي محسر (سلك) أي: دخل (الطريق الوسطى) لا اليمنى ولا اليسرى.
قال النووي: فيه أن سلوك هذا الطريقى في الرجوع من عرفات سنة، وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات، وهذا معنى قول أصحابنا: يذهب إلى عرفات في طريق ضب، ويرجع في طريقِ المَأْزَمَيْنِ؛ لِيُخالِفَ الطريقَ تفاؤُلًا بتغيُّرِ الحالِ؛ كما فعل صلى الله عليه وسلم في دخول مكة حين دخلها من الثنية العليا، وخرج منها من الثنية السفلى، وخرج إلى العيد في طريق، ورجع منه في طريق آخر، وحول رداءه في الاستسقاء.
(التي) صفة ثانية للطريق؛ أي: التي (تخرجك) وتوقفك (على الجمرة الكبرى) وتوصلك إليها؛ والجمرة الكبرى: هي جمرة العقبة؛ وهي التي عند الشجرة.
وقوله: (حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة) غاية لقوله: (سلك) وهذا يدل على أنه كان هناك أولًا شجرة؛ كما في "الفتح"، وقد أدركنا ورأينا الشجرة
فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْف، وَرَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي،
===
في تاريخ ألف وثلاث مئة وبضع وسبعين (1373 هـ) زمن الملك سعود بن عبد العزيز، فلله الحمد على هذا التعمير.
وفي هذا الحديث رمى جمرة العقبة راكبًا، وفي "اللباب": الأفضل أن يرمي جمرة العقبة راكبًا، وغيرها ماشيًا في جميع أيام الرمي، وفي "الكنز": وكل رمي بعده رمي فارمه ماشيًا.
(فرما) ها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: رمى تلك الجمرة التي هي جمرة العقبة عقب وصوله إليها (بسبع حصيات) حالة كونه (يكبر مع كل حصاة منها) أي: من تلك السبع.
وقوله: (مثل حصى الخذف) بالجر صفة لسبع حصيات؛ أي: بسبع حصيات مماثلة لحصى الخذف في القدر والكبر، وبالنصب حال منها؛ أي: حالة كون كل من تلك السبع مثل حصى الخذف؛ أي: قدر حصى الخذف؛ أي: قدر حصىً يخذف ويرمى به بين السبابتين.
وقال الطيبي: بالجر بدل من الحصيات؛ وهي بقدر حبة الباقلاء؛ والخذف في الأصل مصدر خذف يخذف؛ من باب ضرب، فهو مصدر سمي به، وهو رميك حصاةً أو نواةً تأخذها بين سبابتيك وترمي بها؛ كما في "النهاية".
قال بعضهم: وإنما شرع مثل حصى الحذف؛ لأن ما دونها غير محسوس، وما فوقها ربما يؤذي في مثل هذا الموضع. انتهى.
وجملة قوله: (ورمى من بطن الوادي) حال من فاعل (رمى بسبع حصيات) على تقدير: (قد) أي: فرمى بسبع حصيات، حالة كونه يكبر مع كل حصاة، وحالة كونه قد رمى بها من بطن الوادي؛ أي: من أسفل الوادي، وهو المستحب؛
ثمَّ انصَرَفَ إِلى المَنحَرِ
===
فلو رمى من أي مكان كان .. صح رميه إذا وقع في موضع الرمي. انتهى من "المفهم".
قال النووي وفيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي؛ بحيث تكون منىً وعرفات ومزدلفة عن يمينه، ومكة عن يساره، والعزيزية وراء ظهره، والجمرة قدامه، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، وقيل: يقف مستقبل القبلة، وكيفما رمى .. أجزأه. انتهى.
وفي "الدر المختار": ورمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ويكره تنزيهًا من فوق. انتهى، وهذا في الزمان الأول، والآن يكون الرمي من كل الجهات.
(ثم) بعدما رمى؛ أي: ثم بعدما فرغ من رمي جمرة العقبة (انصرف) النبي صلى الله عليه وسلم وذهب (إلى المنحر) أي: إلى مجزرة منىً؛ أي: إلى موضع النحر والذبح، قال الزرقاني: هو موضع معروف بمنىً، وكلها منحر؛ كما في الحديث.
قال ابن التين: منحر النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، فللنحر فيه فضيلة على غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"هذا المنحر، وكل منىً منحر"، قال مالك: إلا ما خلف العقبة وقديد.
والنحر بمنىً عند مالك له ثلاثة شروط؛ الأول: أن يوقف بالهدي بعرفة، والثاني: أن يكون النحر في أيام منىً، والثالث: أن يكون النحر في الحج لا في عمرة.
فإذا اجتمعت هذه الشروط .. فلا يجوز النحر إلا بمنىً لا بغيرها. انتهى من "المفهم"، وقال القاضي إسماعيل: إنه يجوز أن ينحر بمكة أيام منىً، وقد حكي أنه مذهب مالك، فأما العمرة .. فالنحر فيها بمكة في بيوتها وطرقها وفجاجها.
فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِه، وَأَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِه، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ
===
ويجزئ عند مالك النحر في العمرة بمنىً، فإن نحر بغير منىً ومكة في الحج والعمرة .. لم يجز عنده، وجاز عند أبي حنيفة والشافعي بأي موضع كان من الحرم، قالا: والمقصود: مساكين الحرم لا الموضع منه، وأجمعوا على أنه لا يجوز فيما عدا الحرم، ولا يجوز في البيت والمسجد نحر ولا ذبح.
(فنحر) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثًا وستين بدنة بيده) الشريفة، وفيه دلالة على أن للمهدي أو المضحي أن يتولى ذلك بيده (وأعطى عليًّا) السكين، وفي رواية مسلم: ثم أعطى عليًّا (فنحر) علي (ما غبر) وبقي من الهدي؛ وهو سبع وثلاثون بدنة، وكانت جملة الهدي: مئة بدنة (وأشركه) أي: أشرك عليًّا (في هديه) أي: في نفس الهدي.
ويحتمل أنه أشركه في نحره، وإعطاؤه ما بقي لعلي رضي الله تعالى عنه لينحرها دليل على صحة النيابة في ذلك، غير أنه روي في غير "كتاب مسلم" أنه إنما أعطاه إياه؛ ليهديها عن نفسه، ويدل عليه قوله:(وأشركه في هديه) وعلى هذا؛ فلا يكون فيه حجة على الاستنابة، وقيل: إنما نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين بدنة؛ لأنها هي التي أتى بها من المدينة؛ كما ذكره الترمذي، وقيل: إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العدد؛ لأنها منتهى عمره، على ما هو الأصح في ذلك، فكأنه أهدى عن كل سنة من عمره بدنة. انتهى من "المفهم".
(ثم) بعدما نحرت البدن (أمر) النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ (من كل بدنة) من المئة (ببضعة) -بفتح الموحدة الثانية وسكون الضاد المعجمة- أي: بقطعة من لحمها (فجعلت) تلك البضعات (في قدر) اسم لآلة الطبخ
فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ أَفَاضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبَيْتِ
===
(فطبخت) تلك البضعات (فأكلا) أي: أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي (من لحمها) أي: من لحم القدر (وشربا من مرقها) أي: من مرق القدر، قال المطرزي: الضمير المؤنث يعود إلى القدر؛ لأنها مؤنث سماعي، وقال الطيبي: يحتمل عوده إلى الهدايا.
قال النووي: قالوا: لما كان الأكل من كل واحدة سنةً، وفي الأكل من جميعها كلفةٌ ومشقةٌ .. جعلت في قدر؛ ليكون تناوله من المرق؛ كالأكل من جميعها، وأجمعوا: على أن الأكل من الهدي والضحية ليس بواجب، وفي "المرقاة": والصحيح أنه مستحب، وقيل: واجب؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} (1).
قال القرطبي: إنما فعل هذا؛ ليمتثل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} ، وهما وإن لم يأكلا من كل بضعة .. فقد شربا من مرق كل ذلك، وخصوصية علي بالمؤاكلة دليل على أنه أشركه في الهدي.
وفيه دليل على أن من حلف على ألا يأكل لحمًا، فشرب مرقه أنه يحنث، وفيه دليل على استحباب أكل الأقل من الهدايا والضحايا، والتصدق بالأكثر، وفيه دليل على جواز أكل المهدي من هدي القران، وقد قدمنا أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا. انتهى من "المفهم".
(ثم) بعدما نحر هديه (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: ذهب وأسرع ورجع (إلى البيت) لطواف الإفاضة طواف الفرض والركن، ويسمى طواف الإفاضة، وأكثر العلماء ومنهم: أبو حنيفة أنه لا يجوز طواف الإفاضة بنية
(1) سورة الحج: (28).
فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ،
===
غيره، خلافًا للشافعي؛ حيث قال: لو نوى غيره؛ كنذر أو وداع .. وقع عن الإفاضة، كذا في "المرقاة".
قال في "الدر المختار": وطواف الزيارة أول وقته بعد طلوع الفجر يوم النحر، وهو في اليوم الأول أفضل، ويمتد وقته إلى آخر العمر؛ فإن أخره عن أيام النحر .. كره تحريمًا، ووجب دم؛ لترك الواجب، وهذا عند الإمكان. انتهى.
والفاء في قوله: (فصلى بمكة الظهر) حرف عطف وتعقيب على (أفاض) أي: صلى ظهر يوم النحر، وفي "المواهب وشرحه": واختلف أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يومئذ؛ أي: يوم النحر: ففي رواية مسلم عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم صلى بمكة، ولفظه:(فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر)، وكذا قالت عائشة عند أبي داوود وغيره.
وفي حديث ابن عمر في "الصحيحين": (أنه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنىً)، فهذا يعارض حديث جابر وعائشة.
فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر، وتبعه على ذلك جماعة، بأربعة أوجه:
أولها: لأنهما اثنان، وهما أولى من الواحد.
وثانيها: لأن عائشة أخص الناس به صلى الله عليه وسلم ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها.
وثالثها: لأن سياق جابر رضي الله عنه من أولها إلى آخرها .. أتم سياق، وهو أحفظ للقصة وضبطها حتى ضبط جزئياتها حتى أقر منها ما لا يتعلق بالمناسك؛ وهو نزوله في الطريق فبال عند الشعب، وتوضأ وضوءًا خفيفًا، فمن ضبط هذا النادر .. فهو بضبط صلاته الظهر يوم النحر أولى.
فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ: "انْزِعُوا
===
ورابعها: أيضًا فإن حجة الوداع كانت في (آذار) بهمزتين فذال معجمة فألف فراء وقال في "القاموس": هو الشهر السادس من الشهور الرومية.
فدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منىً، وخطب بها الناس، ونحر بها بدنه المئة، وقسمها، وطبخ له من لحمها، وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه وتطيب، ثم أفاض وشرب من ماء زمزم، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منىً بحيث يدرك الظهر فيها، وكانت في شهر آذار. انتهى "فتح الملهم".
وقال الأبي: يجمع بين حديثيهما وحديث ابن عمر بأنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال، وصلى الظهر بمكة أول وقتها، ثم رجع إلى منىً، وصلى بها الظهر مرةً أخرى بأصحابه، حين سألوه ذلك، فيكون متنفلًا للظهر الثانية. انتهى منه.
(فأتى) أي: فلما فرغ من الصلاة أتى (بني عبد المطلب) حالة كونهم (وهم يسقون) الناس من ماء زمزم، وقوله:(على زمزم) متعلق بـ (أتى)، ويحتمل: أن تكون (على) بمعنى (من) متعلقًا بـ (يسقون) أي: يغترفون منها بالدلاء، ويصبونه في الحياض، ويسقونه الناس.
قال النووي: وأما زمزم .. فهو البئر المشهورة في المسجد الحرام، بينها وبين الكعبة: ثمان وثلاثون ذراعًا، قيل: سميت زمزم؛ لكثرة مائها، يقال: ماء زمزوم، وزمزم، وزمازم؛ إذا كان كثيرًا، وقيل: لضم هاجر لمائها حين انفجرت وزمها إياه، وقيل: لزمزمة جبرائيل عليه السلام وكلامه عند فجره إياها، وقيل: إنها غير مشتقة، ولها أسماء أخر ذكرتها في "تهذيب اللغات". انتهى.
(فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انزعوا) بكسر الزاي يقال:
بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب، لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ.
===
نزع - بالفتح - ينزع - بالكسر - من باب ضرب، والقياس في فعل المفتوح الذي عينه أو لامه حرف حلق .. فتح مضارعه، ولم يأت الكسر إلا في نزع ينزع ونحوها.
والنزع: الاستقاء؛ أي: استقوا الماء للناس يا (بني عبد المطلب) فـ (لولا) خوفي (أن يغلبكم الناس) ويزدحموا (على سقايتكم) أي: على استقائكم بسبب نزعي معكم .. (لنزعت) أي: لنزحت (معكم) لاستسقاء الناس معكم (فناولوه) صلى الله عليه وسلم؛ أي: أعطوه (دلوًا) من مائها (فشرب منه) أي: من مائها.
والمعنى والله أعلم: فلولا خوفي أن يغلبكم الناس؛ بأن يزدحموا على النزع؛ بحيث يغلبونكم ويدفعونكم؛ لاعتقادهم أن النزع والاستقاء من مناسك الحج .. لنزعت معكم؛ لكثرة فضيلة ذلك، وقيل: قال ذلك شفقة على أمته من الحرج والمشقة، والأول أظهر.
وفيه بقاء هذه التكرمة لبني العباس؛ كبقاء الحجابة لبني شيبة؛ إذ لو استعمله الناس معهم .. لخرج عن اختصاصه بهم.
قوله: (فناولوه فشرب منه) فيه: استحباب الشرب من زمزم، والإكثار منه، وقد صح مرفوعًا:"ماء زمزم لما شرب له"، وشربه جماعة من العلماء لمآرب فوجدوها.
قال ابن العربي: شربناه للعلم، فليتنا شربناه للورع، وأولى ما يشرب له لتحقيق التوحيد، والموت عليه، والعزة بطاعة الله تعالى، والله أعلم.
وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث: مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو داوود في كتاب المناسك، باب صفة حجة
(30)
- 3024 - (2) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَجِّ عَلَي أَنْوَاعٍ
===
النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي في كتاب الحج، باب الكراهية في الثياب المصبغة للمحرم، وابن خزيمة وأحمد في "المسند"، والطحاوي.
فدرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستدلال به على الترجمة.
* * *
ثم استشهد المؤلف لحديث جابر بن عبد الله بحديث عائشة رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(30)
- 3024 - (2)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر) بن الفرافصة (العبدي) الكوفي، ثقة حافظ، من التاسعة، مات سنة ثلاث ومئتين (203 هـ). يروي عنه:(ع).
(عن محمد بن عمرو) بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، صدوق له أوهام، من السادسة، مات سنة خمس وأربعين ومئة (145 هـ). يروي عنه:(ع).
(حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب) بن أبي بلتعة أبي محمد المدني، ثقة، من الثالثة، مات سنة أربع ومئة (104 هـ). يروي عنه:(م عم).
(عن عائشة) رضي الله تعالى عنها.
وهذا السند من خماسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
(قالت) عائشة: (خرجنا) معاشر الصحابة من المدينة المنورة (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (للحج) ونحن (على أنواع
ثَلَاثَةٍ؛ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مَعًا، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ؛ فَمَنْ كَانَ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مَعًا .. لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيءٍ؛ مِمَّا حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَمَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا .. لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوةِ .. حَلَّ مِمَّا حَرُمَ عَنْهُ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ حَجًّا".
===
ثلاثة) من حيث الإحرام (فمنا من أهل) وأحرم (بحج وعمرة معًا) أي: جميعًا قارنًا بينهما؛ كالنبي صلى الله عليه وسلم على الأصح (ومنا من أهل بحج مفرد) عن العمرة، ولم يحل من إحرامه بالفسخ، لكنه أي: الفسخ ثابت بالأدلة التي لم يمكن إنكارها، فلا بد من تاويل هذا الحديث بحمله على من ساق الهدي، والفسخ إنما كان لمن لم يسق الهدي، والله أعلم. انتهى "سندي".
(ومنا من أهل بعمرة مفردة) كأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكل من لم يسق الهدي (فمن كان أهل بحج وعمرة معًا .. لم يحلل) من إحرامه (من شيء مما حرم منه) أي: حرم عليه بالإحرام (حتى يقضي مناسك الحج) وهم الذين ساقوا الهدي (ومن أهل بالحج مفردًا .. لم يحلل من شيء مما حرم منه) أي: عليه (حتى يقضي مناسك الحج) كلها (ومن أهل بعمرة مفردة فطاف بالبيت) طواف العمرة (و) سعى (بين الصفا والمروة .. حل مما حرم عنه) أي: عليه (حتى يستقبل) ويستأنف (حجًّا) وهم المتمتعون.
والحاصل من الأحاديث: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا ثلاثة أقسام:
1 -
قسم أحرموا بحج وعمرة، أو بحج ومعهم الهدي.
2 -
وقسم أحرموا بعمرة ففرغوا منها، ثم أحرموا بالحج.
3 -
وقسم أحرموا بحج ولا هدي معهم.
(31)
- 3025 - (3) حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دَاوُودَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ حَجَّاتٍ؛
===
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقلبوه عمرة، وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة، وأما عائشة .. فكانت أهلت بعمرة ولم تسق هديًا، ثم أدخلت عليها الحج. انتهى "قسطلاني".
وهذا الحديث انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده، وغرضه: الاستشهاد به للحديث المذكور قبله.
* * *
ثم استشهد المؤلف ثانيًا لحديث جابر الأول بحديث آخر له ولابن عباس رضي الله تعالى عنهم، فقال:
(31)
- 3025 - (3)(حدثنا القاسم بن محمد بن عباد) بن عباد (المهلبي) أبو محمد البصري نزيل بغداد، ثقة، من الحادية عشرة. يروي عنه:(ق).
(حدثنا عبد الله بن داوود) بن عامر الهمداني أبو عبد الرحمن الخُرَيْبِيُّ بمعجمة وموحدة مصغرًا كوفي الأصل، ثقة عابد، من التاسعة، مات سنة ثلاث عشرة ومئتين (213 هـ)، أمسك عن الرواية قبل موته، فلذلك لم يسمع البخاري منه؛ يعني: بل روى عنه بواسطة. يروي عنه: (خ عم).
(حدثنا سفيان) بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، ثقة حجة إمام، من السابعة، مات سنة إحدى وستين ومئة (161 هـ). يروي عنه:(ع).
(قال) سفيان الثوري بسندَيْهِ اللذين بيَّنَّاهما آنفًا: قال كل من جابر وابن عباس: (حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في عُمْرِه (ثلاث حجات؛
حِجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَحَجَّةً بَعْدَمَا هَاجَرَ مِنَ الْمَدِينَة، وَقَرَنَ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةً، وَاجْتَمَعَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَاءَ بِهِ عَلِيٌّ مِئَةَ بَدَنَةٍ؛ مِنْهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَنَحَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَنَحَرَ عَلِيٌّ مَا غَبَرَ، قِيلَ لَهُ: مَنْ ذَكَرَهُ؟ قَالَ: جَعْفَرٌ
===
حجتين قبل أن يهاجر) إلى المدينة (وحجة بعدما هاجر) أحرمها (من المدينة) أي: من ميقاتها ذي الحليفة (وقرن) في هذه الحجة (مع حجته عمرة) أي: جمع بينهما، وساق الهدي من المدينة؛ لكونه قارنًا، جُمْلَتُهُ ثلاثٌ وستون بدنة.
(واجتمع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وساقه من المدينة (وما جاء به علي) من اليمن؛ وهو سبع وثلاثون بدنة فكمُلَتْ (مئة بدنة منها) أي: من تلك الهدايا التي ساقها النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة (جَمَلٌ) كان أوَّلًا (لأبي جهل) اللعينِ عَمرو بن هشام القرشي، أسر منه يوم بدر (في أنفه برة) أي: حلقة (من فضة) يربط بها مقود يساق به (فنحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده) الشريفة (ثلاثًا وستين) بدنة التي جاء بها من المدينة (ونحر علي) بن أبي طالب (ما غبر) وبقي من المئة؛ وهي سبع وثلاثون بدنة.
(قيل له) أي: لسفيان (من ذكره؟ ) أي: من ذكر هذا الحديث؟ يعني: حديث جابر، وحدثه لك، ولم أر من ذكر اسم السائل له (قال) سفيان: ذكر لي هذا الحديث (جعفر) الصادق ابن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني، صدوق فقيه إمام، من السادسة، مات سنة ثمان وأربعين ومئة (148 هـ). يروي عنه:(م عم).
عَنْ أَبِيه، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَم، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
===
(عن أبيه) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني، ثقة فاضل، من الرابعة. يروي عنه:(ع)، مات سنة بضع عشرة ومئة (113 هـ).
(عن جابر) بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.
وهذا السند من سداسياته، وحكمه: الصحة؛ لأن رجاله ثقات.
وقوله: (وابن أبي ليلى) معطوف على جعفر؛ أي: وقال سفيان الثوري أيضًا: حدثني محمد بن عبد الرحمن (بن أبي ليلى) الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن، صدوق سيئ الحفظ جدًّا، من السابعة، مات سنة ثمان وأربعين ومئة (148 هـ). يروي عنه:(عم).
(عن الحكم) بن عتيبة -مصغرًا- الكندي أبي محمد الكوفي، ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس، من الخامسة، مات سنة ثلاث عشرة ومئة (113 هـ)، أو بعدها. يروي عنه:(ع).
(عن مقسم) بكسر أوله ابن بُجْرةَ بضم الموحدة وسكون الجيم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى ابن عباس؛ للزومه له، صدوق، من الرابعة، وكان يرسل، مات سنة إحدى ومئة (101 هـ). يروي عنه:(خ عم)، وما له في "البخاري" إلا حديث واحد.
(عن ابن عباس) رضي الله تعالى عنهما.
وهذا السند من سباعياته، وحكمه: الضعف؛ لأن فيه ابن أبي ليلى، وهو ضعيف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وقوله: (بُرَةٌ من فضة) بضم الباء وتخفيف الراء الحلقة تكون في أنف البعير.
وقوله: (من فضة) وفي رواية البيهقي: (من ذهب). انتهى من "التحفة".
وشارك المؤلف في رواية حديث جابر: الترمذي في الجامع، في كتاب الحج، باب كم حج النبي صلى الله عليه وسلم.
ودرجته: أنه صحيح؛ لصحة سنده وللمشاركة فيه، وغرضه: الاستشهاد به.
وحديث ابن عباس انفرد به ابن ماجه، ودرجته: أنه ضعيف؛ لضعف سنده؛ لما مر آنفًا، ولانفراد ابن ماجه به.
وقول المؤلف: (قيل له: من ذكره؟ ) في آخر الباب، قدمناه على محله؛ لتكميل السندين فردًا فردًا.
* * *
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب: ثلاثة أحاديث:
الأول للاستدلال، والأخيران للاستشهاد.
والله سبحانه وتعالى أعلم