الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: الوجه الثاني من سببي الخطأ في الاستدلال:
قوم فسَّروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه
، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنَزَّل عليه، والمخاطب به، وكان نظرهم إلى اللفظ أسبق.
يدخل في هذا المقام أصناف من المتأوِّلين للقرآن، يجتمعون فيه، وإن كانت الأسباب بينهم مختلفة، ومن هذه الأسباب:
1 -
عدم اعتبار المصطلحات الشرعية.
2 -
عدم الاعتماد على الملابسات التي تحدِّد المدلول العربي المراد، ولا على الوارد عن السلف في ذلك.
3 -
الدعوة إلى تفسير القرآن من قِبَلِ أي قارئ عربي كائنًا من كان لكون القرآن نصًا عربيًا أدبيًا.
وهؤلاء كلهم جرَّدوا القرآن عن ملابساته، وجعلوه لفظًا عربيًّا مجرَّدًا، فتأوَّلوه على هذا التأوُّل، فوقعوا في الخطأ من هذه الجهة.
وهنا ملحظ مهمٌّ جدًّا، وهو أن اللغة لا يمكن أن تستقل بفهم القرآن، وإن كانت من أكبر مصادره وأكثرِها؛ لكونه نزل قرآنًا عربيًّا.
كما أن هناك ملحظ دقيق آخر، وهو أنَّ هؤلاء الذين ذهبوا إلى هذا الفعل من الاعتماد على اللغة دون غيرها من المصادر يدخلون في زمرة من اعتقد معانٍ فأراد حمل القرآن عليها، حيث إنهم جعلوا اللغة التي وصلت إليها أفهامهم حكمًا على نصوص القرآن، وما من شكٍّ أن الأفهام ـ مهما بلغت ـ لا يمكن أن تستوعب المعاني، فالحكم على المعنى من خلال معلومهم من اللغة دون غيرها تحكُّمٌ ظاهرٌ، خصوصًا إذا ظهر في عباراتهم ما يدلُّ على ردِّ قول السلف أو ازدرائه.
كما يلاحظُ أيضًا أنَّ قومًا من المبتدعة ذهبوا إلى تقرير بدعِهم بمجازات جائزة في اللغة من حيث الورود، غير أن الخلاف معهم في جوازها في موضع الاختلاف، كما في تفسير اليد في مثل قول الله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] بأنها النعمة، وذلك وارد في اللغة من حيث إطلاق اليد على النعمة، وإنما الاختلاف معهم في عدم صحة هذا الإطلاق هنا، وأن الصحيح حمل اليد على ظاهرها حملاً يليق بذات الله وجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل.
وأعود للتمثيل للأسباب السابقة، فأقول:
أولاً: عدم اعتبار المصطلحات الشرعية:
إذا تنازع اللفظَ الحقيقةُ الشرعيةُ والحقيقة اللغويةُ؛ قدِّمتِ الحقيقةُ الشرعيةُ؛ لأنَّ الشارعَ مَعْنِيٌّ ببيان الشرع لا ببيان اللغة.
وتركُ المصطلح الشرعي ـ مع إرادته ـ يدخل في فعل من لم ينظر في الخطاب إلى المخاطب ولا إلى المنزَل عليه.
ويظهر في مثل هذا النوع أنَّ لاعتقاد المعاني السابقة أثرًا في اختيار المعنى اللغوي دون المعنى الذي ينازَع عليه أهل السنة، وبسط مثل الموضوعات محله كتب الاعتقاد.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما وقع من الاختلاف بين طوائف الأمة في مسمى الإيمان، فالإيمان في الشرع: قول وعمل واعتقاد، وذهبت المرجئة إلى أنه التصديق فقط دون غيره من المعاني؛ لأنَّه كذلك في اللغة.
وهؤلاء ـ وإن كانوا قد اعتقدوا ثمَّ قصروا المعنى على المدلول اللغوي ـ اعتمدوا على المعنى اللغوي دون نظر إلى مراد المتكلم على الحقيقة.
وليس المراد هنا ذكر التفصيل في الردِّ، وإنما الذي يتعلق بالأمر هنا التنبيه الجملي على خطأ حمل الإيمان على مجرد التصديق دون سائر
المعاني التي دلّ الشرع على دخولها فيه كما هو مبسوط في كتب الاعتقاد.
ثانيًا: عدم الاعتماد على الملابسات التي تحدِّد المدلول العربي المراد:
التعبير بالملابسات أوسع من التعبير بسبب النُّزول، فهو يشمله ويشمل قصص الآي، وغيرها من الملابسات المتعلقة بالنُّزول؛ كعادات العرب، وعقائدهم، وشرائعهم.
ومن ذلك ما وقع في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت:210): «
…
ومجازها: أي اطلبوا البر من أهله ووجهه، ولا تطلبوه عند الجهلة المشركين» (1).
وهذا الذي ذهب إليه أبو عبيدة يجعل الأمر على التمثيل لا الحقيقة، فالبيوت ليست البيوت المسكونة، وإنما هي تمثيل لمن يسأل من لا علم له، ولا يسأل من عنده علمٌ، فهو كمن يأتي البيت من ظهره دون بابه المعروف.
وهذا الذي قاله جائزٌ من جهة العربية، وهو محتملٌ لو كان الكلام مجرَّدًا عن سياقه، أما سياقه فيدلُّ على معنى آخر، وهو أن البيوت على الحقيقة، وهي البيوت المسكونة، وعلى هذا جاء تفسير السلف.
والآية تحكي عادة وشريعة جاهلية كانوا يعملون بها، فعن البراء رضي الله عنه، قال:«نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قِبَلِ أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قبل بابه فكأنه عُيِّرَ بذلك، فنَزلت {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}» (2).
(1) مجاز القرآن (1:68).
(2)
رواه البخاري، ويُنظر في تفسير السلف: تفسير الطبري، ط: الحلبي (2:186 ـ 188)، =
فالذي شهِد التنْزيل ـ وهو البراء ـ يبيِّن أن المراد بالبيوت البيوتُ المسكونةُ، ولا مجال مع تفسيره هذا إلى القول بهذا المجاز البعيد الذي قاله أبو عبيدة (ت:210).
وقد كان من آثار هذا الأسلوب أنه كلما ابتعد التفسير عن عصر السلف ظهر عند بعض المفسرين أو المشاركين في التفسير تكثير المحتملات من جهة العربية دون النظر إلى ملابسات النُّزول، ولا إلى الوارد عن السلف في ذلك.
ومن أراد أمثلة ظاهرة على وقوع مثل هذا الأمر في تفسير الآيات، فليطَّلع على مثل تفسير الماوردي (ت:450)، وغرائب التفسير وعجائب التأويل للكرماني (ت: بعد 500)، وتفسير ابن عادل الحنبلي (ت:880)، وغيرها ممن يُعنى بنقل الغرائب دون تمحيص لها وردٍّ عليها.
ومن الكتب التي لها باعٌ في باب تكثير المحتملات من جهة العربية دون النظر إلى ملابسات النُّزول، ولا إلى الوارد عن السلف = أمالي الشريف المرتضى (ت:436) (1)، فهو يُكثِر من ذكر المحتملات اللغوية، ولو كانت ضعيفة بل شاذَّة غير معتبرٍ بملابسات النُّزول، بل يكتفي بورود
= وفي تفسيرهم تفاصيل أخرى لهذه العادة الجاهلية.
(1)
هذه الأمالي من نفائس الكتب، وأحسنها في عرض المعلومات وتنوعها، لولا ما كان من مذهبٍ رديءٍ لمؤلفها، فهو معتزلي رافضيٌّ، واعتزالياته أشهر وأظهر من رافضياته في هذا الكتاب.
ولقد فُقِد اليوم جانب الإملاء والكتابة على هذه الطريقة الماتعة، فلا تكاد ترى إملاءً متنوعًا من عالم متنوع الفنون يتنقل بك من فائدة لغوية، إلى نكتة بلاغية، إلى حكم فقهي، إلى تفسير غريب لفظة، إلى ترجمة علمٍ، إلى بيان آية، إلى غير ذلك، حتى كأنَّك تسير في دوحةٍ غنَّاء مليئة بالطيور المغردة والزهور البهيجة والخضرة النضرة.
وقد رتَّب كتابه هذا على منهج لطيف، فيبدأ بتأويل آية، ثمَّ بشرح حديث، ثمَّ بشرح شعر، وسار على هذا في غالب كتابه.
الاحتمال على النصَّ، وانظر ما قاله في هذه الآية السابقة من احتمالات بعيدة عن سياق الآية وملابساتها.
أورد الشريف المرتضى خمسة احتمالات في معنى جملة {وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ، وهي:
1 -
أنها عادة في التطير عند الجاهليين وذلك أن الرجل منهم إذا قصد حاجة فلم تُقض له، ولم ينجح فيها رجع فدخل من مؤخر البيت ولم يدخل من بابه، فدلهم الله على أن هذا من فعلهم لا برَّ فيه، وأمرهم من التُّقَى بما ينفعهم ويقربهم إليه.
2 -
ذكر السبب المذكور عن البراء وغيره الذي يجعل البيوت حقيقة في البيوت المسكونة، وهو مذكور في الفقرة السابقة.
3 -
ذكر جواب أبي عبيدة، وهو مذكور في الفقرة السابقة.
4 -
جواب الجبائي المعتزلي، وهو أن الله ضرب المثل لمن أتى الأمر من غير جهته وأن هذا ليس من البر
…
وأمر إتيان الأمور من وجوهها
…
(1).
5 -
أن تكون البيوت كناية عن النساء، ويكون المعنى: وأتوا النساء من حيث أمركم الله، والعرب تسمي المرأة بيتًا
…
وإذا تأمَّلت هذه الأقوال التي ذكرها ـ سِوَى القول الثاني ـ ظهر لك جليًّا بُعدها عن الصواب، ونزعها الآية عن سياقها وملابساتها، والذهاب بها إلى معنى عربي غير مرادٍ، فما علاقة السياق ـ مثلاً ـ بإتيان النساء من حيث أمر الله، تأمَّل وانظر، هل تجدُ علاقة؟!
(1) أمالي الشريف المرتضى (1:376 ـ 378).
ثالثًا: الدعوة إلى تفسير العربي كائنًا من كان لكون القرآن نصًا عربيًا أدبيًا:
هذه الدعوة جاءت في هذا العصر، وهي وإن كانت متأخِّرة عن عصر شيخ الإسلام إلا أنها تدخل في هذا الباب، حيث يزعم أصحاب هذه الدعوة أنهم عرب يفهمون الخطاب العربي، ولا حاجة لهم بقول من تقدَّمهم، بل شطح أمين الخولي فزعم أنه يجوز للعربي من دون نظر إلى معتقده أن يدرس القرآن دراسة أدبية، لا لأنه يملك أدوات التفسير بل لأنه عربي يتذوَّق العربية فقط.
يقول أمين الخولي: «
…
وهذا الدرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى أي اعتبار ديني، هو ما نعتده وتعتده معنا الأمم العربية أصلاً، العربية اختلاطًا؛ مقصدًا أول
…
» (1).
ويدخل في هذه الدعوة كل من زعم اليوم أنه عربي يستطيع فهم القرآن بعربيته، ويرى أنه ليس بحاجة إلى قول فلان أو علان من المفسرين، فهم رجال كما أنه رجل.
وهذه دعوة متهافتة، فكم من قول شاعر ذهب إدراك مراده على وجهه بسبب جهل ملابسات قوله، فما بالك بكتاب الله الذي له أكثر من مصدرٍ في تفسيره، واللغة أحدها، وهي لا تستقلُّ بفهمه.
وأولئك الذين يزعمون ـ اليوم ـ أنهم يفسرون القرآن أو يتذوقونه بعربيتهم يُخفون أو يَخفى عليهم ـ مقدمات وآراء يعتقدونها؛ يحملون ألفاظ القرآن عليها، ويحرفونها إليها.
وقبل أن أختم الحديث هنا عن هذا الموضوع أُشير إلى جملة علوم العربية ومنْزلتها من التفسير، فأقول:
(1) التفسير: نشأته .. تدرجه .. تطوره (ص:78).
1 -
إنَّ القرآن نزل بلسان عربيٍّ مبينٍ، ففهمه لا يمكن أن يكون خارج إطار هذه اللغة الشريفة.
2 -
إنَّ هذه اللغة الشريفة مصدرٌ من مصادرِ التفسير، وهي من أوسع مصادر التفسير المعتمدة، وقد اعتمد عليها في تفسير القرآن مفسرو السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، كما اعتمد عليها اللغويون المعاصرون لأتباع التابعين، واعتمد عليها كل من جاء بعدهم من المفسرين واللغويين، ولم يخرج عن هؤلاء الذين تعرضوا لكتاب الله سوى قوم من الباطنية نحوا بكلامهم في كتاب الله إلى الرمز والإلغاز الذي ليس من صفة هذه الشريعة السمحة الميسرة للعالمين.
3 -
أن علوم العربية (النحو والصرف واللغة والبلاغة) تختلف الحاجة إليها من علم إلى علم في بيان كلام الله سبحانه، وأعظمها شأنًا في ذلك علم مفردات اللغة الذي لا يمكن أن تخلو آية من الحاجة إليه بخلاف غيره من العلوم العربية.
4 -
يلاحظ في علم النحو أمور؛ منها:
الأول: إن علم النحو من العلوم التي دخلها ريحُ اعتقادِ المعنى وحمل ألفاظ القرآن عليه، ذلك أنَّ النحويين قعَّدوا قواعد جعلوها أصولاً، صاروا يحتكمون إليها، ويحكمون بها على قراءات القرآن، وعلى تفسيرات السلف، فصاروا ـ بهذا العمل ـ أشبه بطريقة المعتزلة وغيرهم من المتكلمين الذين قعَّدوا قواعد عقلية يحتكمون إليها، ويحكمون بها على القرآن.
الثاني: كثرة المحتملات النحوية التي يوردها المعربون لآيات القرآن، حتى إنهم ليذكرون ـ في بعض الأحيان ـ أعاريب شاذة وضعيفة؛ إما للتكثُّرِ بها، وإما لنُصرة المذهب، وإما لغير ذلك من الأسباب.
وقد سجَّل بعض العلماء ملاحظتهم على ذلك؛ فمن ذلك ما قاله
وقال ابن القيم (ت:751): «لا يجوزُ أن يُحمل كلامُ الله عز وجل ويفسَّرَ بمجرَّدِ الاحتمالِ النَّحويِّ الإعرابيِّ الذي يحتملُه تركيبُ الكلام، ويكونُ الكلامُ به له معنى ما، فإنَّ هذا المقامَ غلط فيه أكثرُ المعربين للقرآنِ، فإنَّهم يفسِّرون الآية ويعربونها بما يحتملُه تركيب تلك الجملةِ، ويُفهمُ من ذلك التَّركيبِ أيُّ معنًى اتَّفقَ، وهذا غلطٌ عظيمٌ يقطعُ السَّامعُ بأنَّ مرادَ القرآنِ غيرُه.
وإن احتملَ ذلك التَّركيبُ هذا المعنى في سياقٍ آخرَ وكلامٍ آخرَ، فإنَّه لا يلزمُ أن يحتملَه القرآنُ؛ مثلُ قولِ بعضهم في قراءة من قرأ {وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، بالجرِّ: إنَّه قَسَمٌ.
ومثلُ قول بعضِهم ـ في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]ـ: إنَّ المسجد مجرورٌ بالعطفِ على الضميرِ المجرورِ في «به» .
ومثل قول بعضهم ـ في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]ـ: أنَّ المقيمين مجرورٌ بواو القسم، ونظائرُ ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وأوهى بكثيرٍ.
بل للقرآنِ عُرْفٌ خاصٌّ، ومعانٍ معهودةٌ، لا يُناسِبُه تفسيرُه بغيرِها، ولا يجوزُ تفسيرُه بغيرِ عرفِه والمعهودِ من معانيه، فإنَّ نسبة معانيه إلى المعاني، كنسبةِ ألفاظه إلى الألفاظِ، بل أعظمُ.
(1) ينظر: البحر المحيط، لأبي حيان، بعناية: عرفات العشا حسونة (1:12، 207).