الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَاّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22].
فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعّف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته، إذ لو كان باطلاً لردَّه كما ردَّهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عِدَّتِهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا:{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه فلهذا قال: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَاّ مِرَاءً ظَاهِرًا} ؛ أي: لا تُجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب.
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تُستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنَبَّه على الصحيح منها، ويُبطل الباطل، وتُذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النِّزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم، فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكى الخلاف ويطلقه، ولا يُنَبِّه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضًا، فإن صَحَّح غير الصحيح عامدًا فقد تعمَّد الكذب أو جاهلاً فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالاً متعددة لفظًا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنًى فقد ضيَّع الزمان، وتكثَّر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثَوبَي زور، والله الموفق للصواب».
تلخيص أفكار شيخ الإسلام في الإسرائيليات:
يتلخص من هذين الموضعين ما يأتي:
أولاً: أن بعض أخبار بني إسرائيل منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً صحيحًا، ولا ريب في قبول هذه الأخبار، حتى لو كانت فيما لا يقوم عليه علم أو عمل، كاسم صاحب موسى أنه الخَضِرُ.
ثانيًا: أنَّ أخبار بني إسرائيل على ثلاثة أحوال:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والضابط في القبول والردِّ في هذا هو الشرع، فما كان موافقًا قُبِلَ، وما كان مخالفًا لم يُقبل.
ويدل لذلك أمثلة، منها ما رواه الطبري (ت:310) عن سعيد بن المسيب، قال: «قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟
فقال: البحر.
فقال: ما أراه إلا صادقًا، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] مخففة» (1).
فصدَّقه أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه لوجود ما يشهد له من القرآن.
وما رواه البخاري (ت:256)، قال: وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال:«إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا ـ مع ذلك ـ لنبلو عليه الكذب» (2).
وقد يقع الردُّ من بعض الناس لبعض الإسرائيليات بدعوى مخالفة الشرع، ولا يكون ذلك صحيحًا في الحقيقة؛ لأنَّ ما ينسبه للشرع قد لا يكون صحيحًا أنه منه، بل هو رأي عقلي محضٌ وقع فيه شبه عنده أنه من الشرع، ويظهر ذلك جليًا فيما يتعلق بعصمة الأنبياء، إذ معرفة حدود هذه العصمة قد دخله التخريج العقلي، والتأويل المنحرف بدعوى تنْزيه الأنبياء، فظهر بذلك مخالفة ظاهر القرآن.
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:18)، وقوله:«مخفّفة» على قراءة (سجِرت) بكسر الجيم بلا تشديد.
(2)
سيأتي التعليق عليه (ص:160).
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وهذا لا يكون ردُّه أو قبوله إلا بحجَّة، كما قال شيخ الإسلام:«فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحًا، عن النبي؛ كاسم صاحب موسى أنه الخضر، فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب؛ كالمنقول عن كعب، ووهب، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب، فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة، كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه» .
ويلاحظ في هذا القسم أنه تجوز حكايته، ويُستدلُّ لجواز حكايته بأمور:
الأول: استدل شيخ الإسلام بالاختلاف الواقع في عِدَّة أصحاب الكهف، فقال: «
…
ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَاّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]». ثمَّ نبَّه على الأدب في مقام نقل الأقوال.
الثاني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» .
وقوله: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم
…
». فقد أجاز صلى الله عليه وسلم التحديث عنهم، ولم ينكر ذلك أو يذكر له شرطًا، بل أمر بالتوقف فيما يحكون.
الثالث: أن هذا عمل جمهور من السلف في التفسير وغيره، وعملهم هذا موافق لجواز التحديث الذي بيّنته الأحاديث النبوية.
أما ما وقع من النكير من بعض السلف، فإنه يُحمل على أمور:
الأول: بسبب الإكثار من الرجوع إليهم.
الثاني: بسبب تصديقهم فيما يقولون.
الثالث: بسبب طلب الاهتداء بما عندهم.
كما يلاحظ أنَّ غالب هذا القسم مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني.
وهذه الأخبار قد تكون منقولة عن الصحابة، وما كان كذلك فالنفس إليه أسكن، وقد تكون منقولة عن التابعين، وهذا النقل أقلُّ في القبول من المنقول عن الصحابي لاعتبارات، منها:
1 -
أنَّ المنقول عن الصحابة أقل من المنقول عن التابعين.
2 -
أن ما نُقِل عن الصحابة فالقلب إليه أسكن لاحتمال أن يكون رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عمن أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
3 -
أن جزم الصحابي بما يقوله لا يُتصوَّر معه أنه نقله عن بني إسرائيل.
ويتبع هذا الكلام فائدة نفيسة، وهي:
تعليق الأمر بالإسرائيلية دون راوي الإسرائيلية، فإذا توقفت وجعلت الرواية محتملة للصدق أو الكذب، أو جزمت بردِّها فإنك لا تردَّها لأن الراوي ممن عُرِف بالأخذ من بني إسرائيل، بل لأنَّ في الخبر شبهة الإسرائيليات فحسب، وإلا جاز التوقف في كثيرٍ من الأخبار الغيبية التي رواها بعض الصحابة لأجل أنه يروي عن بني إسرائيل، وليس ذلك بحقٍّ، فابن عباس (ت:68) قد اشتهر أخذه عن بني إسرائيل، وصحَّ عنه بعض الأمور الغيبية، فلو عُمِلَ بهذه القاعدة لما قُبِلَ قوله فيها، ولكنَّ الأمر على خلاف ذلك، فقد قُبِلَ قوله، وأُخِذَ به، ومن ذلك ما ورد عنه في الكرسي من قوله تعالى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255].
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: «حدثني أبي، نا ابن مهدي، عن