الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونتيجة هذين المذهبين الذهاب إلى التعميم، لكنه يختلف في إطلاق التعميم، فالقول بالعموم اللفظي أشمل من القول بالقياس؛ لأنه يُدخل جميع صور التقوى في معنى الآية، أما العموم من جهة القياس، فلا يدخل إلا الصورة التي نزلت لها الآية، وهي النفقة.
قال ابن كثير (ت:774) ـ معلقًا على القول بنُزولها في أبي بكر ـ: «ولا شك أنه داخل فيها، وأنه أولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم، وقوله تعالى:{وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 17 ـ 19]، ولكنه مقدم الأمة وسابق في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صِدِّيقًا تقيًا كريمًا جوادًا بذَّالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده مِنَّةٌ يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود ـ وهو سيد ثقيف ـ يوم صلح الحديبية: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ـ وكان الصِّدِّيق قد أغلظ له في المقالة ـ، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف بمن عداهم، ولهذا قال تعالى:{وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19 ـ 21]
…
» (1).
مسألة في أثر معرفة سبب النُّزول:
قال شيخ الإسلام: «ومعرفة سبب النُّزول يعين على فهم الآية
فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا
(1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: محمد إبراهيم البنا (8:3797).
لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيّجها وأثارها».
وما ذكره شيخ الإسلام هنا ذكره الشاطبي (ت:790) في الموافقات، وذكر له أمثلة، ومما قاله الشاطبي (ت:790): «معرفة أسباب التنْزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب = إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك؛ كالاستفهام، لفظه واحد، ويدخله معان أُخَرْ من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر، يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة = فات فَهْم الكلامِ جملةً، أو فَهْمُ شيءٍ منه، ومعرفة الأسباب رافعةٌ لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بُدٍّ، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال، وينشأ عن هذا الوجهِ:
الوجهُ الثاني: وهو أن الجهلَ بأسباب التنْزيل مُوقِعٌ في الشبه والإشكالات، ومُوردٌ للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النِّزاع» (1).
والمراد بسبب النُّزول هنا السببُ الصريح، ولا إشكال في أنَّ معرفته تُعِين على فهم الآية، هذا هو الأصلُ، لكن قد ترد بعض الآيات التي لها
(1) الموافقات، تحقيق: مشهور آل سلمان (4:146)، وفي تتمة كلامه أمثلة لوقوع الإشكال بسبب عدم معرفة سبب النُّزول.
سبب صريحٌ، ويكون معناها معروفًا بدونه، وهذه الآيات لا تكون حجة في عدم الحاجة إلى سبب النُّزول، ومن أمثلة تلك الأسباب التي تكون الآيات واضحة بدونها ما روي من سبب نزول أول سورة الممتحنة، وهو قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].
فقد ورد في سببها ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة وإرساله الخطاب لقريش يعلمهم بغزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، والآية واضحة، ولو لم يُعلَم هذا السبب، لكن ليست كل آية لها سبب تكون بهذه المثابة، لذا قد يقع الغلط في تفسير الآية بسبب جهل سبب النُّزول، ومن أمثلة ذلك:
ما وقع لعروة بن الزبير (ت:94) في فهمه لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة 158]، قال هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: «قلت لعائشة زوج النبي وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، فما أرى على أحد شيئًا أن لا يطوف بهما.
فقالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول كانت (فلا جناح عليه ألا يطوَّف بهما) إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} » (1).
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير.