الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خير القرون
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه.
اتقوا الله عباد الله- ومن يتق الله يجعل له مخرجًا.
واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفسه بما كسبت وهم لا يظلمون.
إخوة الإسلام وما أحوج الأمة إلى مُثُلٍ ونماذج صادقةٍ تحذو حذوها، ورجالاتٍ ذات هممٍ صادقةٍ وعاليةٍ يقتدى بها، ويُستضاء بتاريخها.
وفي أمةِ الإسلام نجومٌ ومصابيحُ دجى أشرق نورها فترة من الزمن في هذا الوجود، ولئن ماتوا بأجسادهم فلا زال تاريخُهم ولن يزال غضًا طريًا يستنهض الهمم ويجلو الريب، ويبعث على الجهاد والتضحية في سبيل الله، إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون، وأولئك القومُ الذين اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخصهم بفضل الصحبة- دون سواهم- وما كان اختيارهم على غيرهم فُرُطًا، بل كان قدرًا- من عند الله- مقدورًا.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 4/ 1418 هـ.
(2)
سورة الحج، الآيتان: 9، 2.
قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: إن الله نظرَ في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوبِ العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء» (1).
هم القوم أعلى شأنهم القرآن، وأثنى الله على المهاجرين والأنصار، ورضي الله عن أصحاب البيعة تحت الشجرة، وتاب على الذين اتبعوه في جيش العسرة من بعد ما كاد يزيغُ قلوبُ فريق منهم، ولئن فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على من أسلم بعدهم، فكلًا وعد الله الحسنى وكفاهم فخرًا- أن يقول الله فيهم ومن اتبعهم بإحسان- {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2).
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنةٌ للأمةِ، وبذهابهم أتى الأمةَ ما كانوا يوعدون، قال عليه الصلاة والسلام:«النجوُم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» (3).
قال صاحب النهاية: والأمنة في الحديث جمعُ أمين وهو الحافظ، وفي الحديث إشارةٌ بالجملة إلى مجيء الشر عند ذهاب أهل الخير (4).
(1) رواه أحمد، 1/ 379 (3599).
(2)
سورة التوبة، أية:100.
(3)
رواه مسلم 4/ 1961.
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 70، 71.
أمةَ الإسلام، لقد أخبر الصادقُ المصدوقُ عن فضلهم وحكم بعلو منزلتهم فقال:«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» . قال عمران بن حصين رضي الله عنه الراوي- فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- «ثم إن بعدَهم قومًا يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» (1).
ونهى عليه الصلاة والسلام وكرر النهي عن سبهم حين قال: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثلَ أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفه» (2).
وأجمع أهل السنة والجماعة على عدالتهم، حتى قال الخطيب في الكفاية: «والأخبار في هذا المعنى تتسعُ، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميعُ ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحدٌ منهم مع تعديل الله تعالى لهم، المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحدٍ من الخلقِ لهم، فهم على هذه الصفة إلى أن يثبتَ على أحدٍ ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصدَ المعصية، والخروج من باب التأويل، فيُحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم عنده- إلى أن قال الخطيب:
على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرنا لأوجبتِ الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد والمناصحةِ في الدين، وقوة الإيمانِ واليقين، القطعَ على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتِهم، وأنهم أفضلُ من المعُدِّلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبدُ الآبدين» (3).
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما (جامع الأصول 8/ 547).
(2)
أخرجه مسلم (2340)(جامع الأصول 8/ 553).
(3)
الكفاية في علم الرواية ص 93 - 96.
أيها المسلمون! ولفضل الصحابة يُفتح للمسلمين إذا كانوا فيهم، ويفتح لمن صحبهم، أو صحب من صحبهم، وتلك كانت هي فترات القوة للبعوثِ الإسلامية، والجهاد إلى بلاد الكفار، أخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمانٌ يغزو فيه فئامٌ من الناس، فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئامٌ من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمانٌ فيغزو فئامٌ من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحبَ من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم» (1).
وفي لفظ: «هل من فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
وهذا الحديث يستفاد منه عدةُ أمور ومنها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكمَ بصحبته وعلق برؤيته، وجعل فتحَ اللهِ على المسلمين بسبب من رآه مؤمنًا به، وهذه الخاصيةُ لا تثبت لأحدٍ غير الصحابة، ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم (2).
2 -
قال الحافظ ابن حجر: ويستفاد من الحديث بطلان قول من ادعى في هذه الأعصار المتأخرة الصحبةَ، لأن الخبرَ يتضمن استمرارَ الجهاد والبعوث إلى بلاد الكفار، وأنهم يسألون: هل فيكم أحدٌ من أصحابه؟ .. وكذلك في التابعين، وفي أتباع التابعين. وقد وقع كلُّ ذلك فيما مضى، وانقطعت البعوث عن بلاد الكفار في هذه الأعصار، بل انعكس الحال في ذلك على ما هو معلومٌ
(1) جامع الأصول 8/ 551.
(2)
نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى 4/ 465).
مشاهدٌ من مدةٍ متطاولة ولا سيما في بلاد الأندلس» (1).
وإذا كان هذا في زمن ابن حجر، فكيف لو أبصر حال المسلمين اليوم؟ وقد أصبحت بعوثهم التنصيرية تغزو بلاد المسلمين، وتدرس في السياسات الخارجية للدول الكبرى مشروعات تنصير المسلمين، ومحاولة الضغط عليهم بالمنح والقروض، ولكن {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2).
اللهم انفعنا بالقرآن، وهدي محمد عليه الصلاة والسلام
…
(1) الفتح 7/ 5.
(2)
سورة التوبة، الآيتان: 32، 33.