الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليقظة ورقة القلب
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ..
وأشهد أن لا إله إلا الله
…
أيها المسلمون! التقوى وصية الله للأولين والآخرين، وهي سببُ النجاة والفلاح في الدارين:{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (2).
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم آت نفوسنا تقواها، اللهم زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
عباد الله! فرق كبيرٌ بين الغفلة واللهو وقسوة القلب وبين اليقظة ورقة القلب وخشوعه وإنابتهِ إلى الله. وتبلغ قسوة القلب عند بعض الناس إلى درجةٍ ينقلب فيها القلبُ إلى حجر صلد، لا يترشح منه شيء، ولا يتأثر بشيء، كما قال تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (4).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 28/ 7/ 1418 هـ.
(2)
سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.
(3)
سورة المائدة، آية:35.
(4)
سورة البقرة، آية:74.
وصاحب هذا القلب وإن تقلَّب بين الناس حيًا، فهو في عداد الموتى، تمر عليه الآيات والزواجر، ويبصر في الكون وفي ذات نفسه من آلاء اللهِ ما يهز القلوب الحيَّة، وتتصدع له الجبالُ الرواسي، ولكنها لا تحرك فيه ساكنًا، لا تؤثر فيه موعظةُ الموت، وإن شيع أكثر من جنازة، بل ربما حمل الجنازة بنفسه، وواراها بالتراب، ولم تتحرك منه عبرةٌ أو تنزل له دمعة، ولربما سار بين القبور كسيره بين الأحجار؟ !
ولو قُدر له أن يناجيَ أهلَ القبور قائلًا: ماذا عندكم؟ وما هي أمانيكم؟ لقالوا: تركنا كلَّ شيء، ولم نحزن على شيء من الدنيا، سوى ساعة مرت بنا لم نعمل بها صالحًا، وما من حسرة هي أشدُّ علينا من لحظة عصينا الله وبارزناه بالمعاصي إن سرًا أو جهرًا .. ولكنا نرجو رحمة الله فأنفسنا رهينة بما كسبت، ولو خرجنا إلى الدنيا لرأيتم كيف نعملُ للآخرة، ولكن هيهات، وحقٌ على الأحياء أن يتعظوا بالأموات، لقد تزوجت نساؤنا، وقسم ميراثُنا .. وما بقي لنا أنيسٌ في ظلمة القبر سوى أعمالُنا الصالحة .. وكم تمنينا أن بيننا وبين ما عملنا من سوءٍ أمدًا بعيدًا .. وحق على الأحياء أن يستدركوا ما فات الموتى؟
ترى أيُّ قسوة للقلب تجعل صاحبها غافلًا لاهيًا عما خلق له، منهمكًا في جمع ما ليس له، يُعلق قلبَه بغير خالقه، ويخشى فوات ما هو مقدور له ويزهد في عمل هو سُّر سعادته وأنسه- ألا إن قسوة القلب وغفلته عقوبةٌ معجلةٌ له، والويل له إن لم يتدارك نفسه {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (1).
قال مالك بن دينار: «ما ضرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم» (2).
(1) سورة الزمر، آية:22.
(2)
تفسير القرطبي 15/ 248.
أيها المسلمون! أما أهلُ الإيمان وأصحاب القلوب الحية الخاشعة فأولئك الذين أنعم الله عليهم وشرح صدورهم، وهم على نورٍ من ربهم، كما قال تعالى:{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (1).
ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله: كيف انشراحُ الصدر؟ قال: «إذا دخل النور القلبَ انشرح وانفتح» ، قلنا: يا رسول الله: وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابةُ إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» .
وفي الحديث الآخر من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا قال: «يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم له استعدادًا، وإذا دخل النورُ في القلب انفسح واستوسع» قالوا: فما آية ذلك؟ .» فذكر الخصال الثلاث.
قال القرطبي- معلقًا على الخصال التي بها يُستحصل على انشراح الصدر-: ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان، فإن الإنابة إنما هي أعمال البر، لأن دار الخلود إنما وضعت جراءً لأعمال البر .. فإذا جدَّ العبدُ في أعمال البر فهو إنابتُه إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصُه عن الدنيا ولها عن طلبها وأقبل على ما نعنيه منها فاكتفى به وقنع فقد تجافى عن دار الغرور، وإذا أحكم أموره بالتقوى، فكان ناظرًا في كل أمر واقفًا متأدبًا متثبتًا حذرًا، يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه فقد استعد للموت، فهذه علامتهم في الظاهر (2).
عباد الله إذا كان للقسوة مظاهرها وآثارها على أصحابها، فللرقة والخشوع
(1) سورة الزمر، آية:22.
(2)
تفسير القرطبي 15/ 247.
آثارُها، فهي من علائم الإيمان. وسيما أولي الألباب {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (1).
وهي أمارة العلم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} .
وبالخشية والخشوع والرقة تتحات الخطايا وقد ورد «إذا اقشعر جلدُ المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحاتُّ عن الشجرة البالية ورقها» .
وبه يحرمه الله على النار، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما اقشعر جلدُ عبدٍ من خشية الله إلا حرمه الله على النار» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلجُ النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعودَ اللبن في الضرع
…
» الحديث (3).
وبالخشية والبكاء الصادق أمانٌ- بإذن الله من عذاب يوم القيامة قال عليه الصلاة والسلام: «من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيبَ الأرض من دموعه لم يعذبه الله تعالى يوم القيامة» (4).
(1) سورة الرعد، الآيات: 19 - 21.
(2)
سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109.
(3)
المستدرك 4/ 260، الترمذي 1633، 2311. وقال حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(4)
رواه الحاكم (4/ 260) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
والخاشع الباكي خاليًا لذكر الله أحدُ السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» .
وما من شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من دموع من خشية الله، وقطرةُ دمٍ تُهراق في سبيل الله، وأما الأثران، فأثرٌ في سبيل الله، وأثر فريضة من فرائض الله» (1).
ومن آثار الخشية والرقة والخشوع قبولُ الدعاء، ذلكم لأن قلبَ الخاشع هنا حاضرٌ مع الله مستشعرٌ عظمته وضعفَ نفسه، عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: إنما الوجلُ في قلب الرجل كاحتراق السعفة أما تجد إلا قشعريرة؟ قلتُ: بلى، قالت: فادع فإن الدعاءَ عند ذلك مستجاب. وكان أحدُهم يعلم استجابة دعوته من وجل قلبه ودموع عينيه.
وعن ثابت البناني قال: قال لي فلان: إني لأعلم متى يُستجابُ لي، قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي وفاضت عيناي فذلك حين يستجاب لي (2).
إخوة الإيمان ما أحوجنا إلى طول الخشية والرقة والبكاء في الدنيا .. حتى نأمن ونفرح بلقاء الله، يوم التلاق.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يومًا فقال: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضعٌ جبهته ساجدًا لله! والله لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا،
(1) رواه الترمذي وحسنه ووافقه على تحسينه غيره. صحيح سنن الترمذي 2/ 133.
(2)
تفسير القرطبي 15/ 250.
وما تلذذتم بالنساء على الفرشِ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله .. » (1).
وفي صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين (2).
عباد الله يا من تبحثون عن النجاة تأملوا في أنفسكم وابكوا على خطاياكم، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتُك، وابك على خطيئتك» (3).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (4). نفعني الله وإياكم.
(1) رواه الترمذي وحسنه، وحسنه غيره (صحيح سنن الترمذي 2/ 268)، وصححه ابن العربي (عارضة الأحوذي 9/ 194، الأربعون حديثًافي الرقة والبكاء ص 29).
(2)
كتاب التفسير. سورة المائدة 5/ 190، الأربعون في الرقة؛ محمد خير يوسف ص 27.
(3)
رواه الترمذي حسنه (صحيح سنن الترمذي 2/ 287).
(4)
سورة المؤمنون، الآيات: 57 - ا 6.