الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء.
إخوة الإسلام يبقى بعد ذلك علاج عملي لدفع الطيرة والتشاؤم ألا وهو الفأل الحسن فحين نهى الشارع عن الطيرة والشؤم جعل الفأل البديل والعلاج، والسبب في ذلك أن الطيرة سوءُ ظن بالله تعالى، والفأل حسنُ ظن بالله، والمسلمُ مأمورٌ بحسن الظنِّ بربه، والفأل خلقٌ من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم تمثله في حياته ودعى الناسَ إليه، وفي الحديث: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويكره الطيرة» (1). والفأل هو الكلمة الحسنة يسمعُها الإنسان ويستبشر بها وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، ففي الحديث المتفق على صحته عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل» ، قالوا: وما الفأل: قال: «كلمة طيبة» ، وفي لفظ:«الكلمة الحسنة» (2).
والمتأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد فيها نماذج للفأل، والبعد عن التشاؤم والتطير، وعلى سبيل المثال لا الحصر قال عليه الصلاة والسلام عن جبل أحد «هذا جبلٌ يُحبنا ونحبه» (3)، ومن المعلوم أن وقعة أحدٍ الشهيرة كانت عند هذا الجبل، وبها أصيب المسلمون كما قال تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} (4)، فقد انجلت المعركة عن
(1) أخرجه ابن ماجه وحسنه ابن حجر في الفتح 10/ 214، 215.
(2)
انظر: جامع الأصول 7/ 631.
(3)
رواه البخاري (الفتح 7/ 377، باب: أحد جبل .. كتاب المغازي).
(4)
سورة آل عمران، آية:165.
سبعين شهيدًا من المسلمين (1)، ولم يسلم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين في هذه الغزوة إذ كُسرت رباعيته، وشُج في وجهه، وسال دمه، وكسرت البيضية على رأسه، كما ثبت ذلك في الأخبار الصحاح (2). ومع ذلك كلِّه فلم يتشاءم الرسول صلى الله عليه وسلم أو يتطير من هذا المكان- بل قال حين رجع من الحج، أو حين عاد من تبوك وأشرف على المدينة «هذا جبل يُحبنا ونُحبه» (3).
قال السهيلي يرحمه الله، كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن ولا اسم أحسن من اسم مُشتق من «الأحدية» قال: ومع كونه مشتقًا من الأحدية، فحركات حروفه الرفع أُحُد، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب من النبي صلى الله عليه وسلم به لفظًا ومعنى فخُصَّ من بين الجبال بذلك والله أعلم (4).
إخوة الإسلام، قد يسأل سائلٌ عن الفرق بين الفأل والتطير عن السرِّ في استحباب الأول وتحريم الثاني، وقد أجاب عن ذلك ابن الأثير يرحمه الله (5) فقال: الفألُ فيما يُرجي وقوعه من الخير، ويَحسُن ظاهره ويَسُر والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وإنما أحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم الفأل لأن الناس إذا أمَّلوا فائدة من الله ورجوا عائدته عند كلِّ سببٍ ضعيفٍ أو قوي، فهم على خير، وإن لم يدركوا ما أملوا فقد أصابوا في الرجاء من الله وطلب ما عنده، وفي الرجاء لهم خيرٌ مُعجَّل، ألا ترى أنهم إذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر؟
فأما الطيرة فإن فيها سوءَ الظنِّ، وقطعَ الرجاءِ، وتوقع البلاء، وقنوط النفسِ
(1) البخاري، ح 4043.
(2)
البخاري ومسلم، انظر: مهدي رزق الله 1/ 390، 397.
(3)
الفتح 7/ 378.
(4)
الفتح 7/ 378، وهو في الروض الأنف 5/ 449، 450 أطول من هذا.
(5)
جامع الأصول 7/ 631.
من الخير، وذلك مذموم بين العقلاء، منهي عنه من جهة الشرع. أهـ.
ألا فتفاءلوا معاشر المسلمين وأملوا خيرًا وأحسنوا الظنَّ بربكم، وقدموا بين يدي هذا الفأل عملًا صالحًا تتقربون به إلى بارئكم، ومهما أظلمت الدنيا في وجوهكم أو حاول الشيطان أن يُقنِّطَكم .. فثقوا أن فرجَ الله قريب، وأن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسرٌ يُسرين، وأن الله يبلو الناس بالشر والخير فتنة ليعلم الصابرين والشاكرين، وليميز الخبيث من الطيب ..
وإذا اغترَّ بعض الخلق برحمات الخلق وأعطياتهم، انفرد المؤمنون بالتعلق برحمة الله ووثقوا بحسن عطائه فالله هو المعطي وهو المانع، والله يقول وهو أصدق القائلين:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)، ويقول جل شأنه:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (2).
إخوة الإيمان بالفأل الحسن والعمل الصالح يُشرق وجهُ الحياة، وترفرف راياتُ السعادة على الأحياء، بهدف الفأل الصالح تنشرحُ الصدور، وتزول الكآبة عن النفوس، وبه ينجلي الضيق، وتنقشع سحبُ الوهم والتشاؤم، ويكون ذلك عونًا لحسنِ علاقة العبد مع ربه، وعلاقة الخلق مع بعضهم .. وكلُّ ذلك طرفٌ من هدي الإسلام، ولونٌ من ألوان خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولذا فالمسلمون أحقُّ بهذا الفأل من غيرهم من شعوب الأمم الأخرى، فهل يفقه المسلمون دينهم، وهل يتجنبون مواطن الخلل في عقائدهم وسلوكياتهم ذلك المرتجى- والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل- هذا وصلوا
…
(1) سورة فاطر، آية:2.
(2)
سورة يونس، آية:58.