الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه- اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء.
أيها المؤمنون ربما تساءل البعض وبماذا يقع التطير وما أكثر ما يتطير منه قديمًا وحديثًا؟ ولئن كانت الطيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، فمما يقع من التطير:
1 -
الطيور كالغراب والأخيل، والبومة بشكل أخص، وهي التي جاء ذكرها في الحديث باسم (الهامة) قال عليه الصلاة والسلام:«لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» (1).
قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول نعت إليَّ نفسي أو أحدًا من أهل داري، ومعنى الحديث السابق لا شؤم بالبومة ونحوها (2).
2 -
الشهور: وخاصة صفر .. إذ كان أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر ويقولون إنه شهرٌ مشؤوم، وربما امتنعوا عن النكاح فيه، قاله ابن رجب: وكثيرٌ من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينتهي عن السفر فيه، والتشاؤم فيه هو من جنس الطيرة المنهي عنها (3).
(1) متفق عليه.
(2)
(الفتح 10/ 241، الطيرة والفأل .. الجاسم ص 20).
(3)
تيسير العزيز الحميد ص 380، الطيرة والفأل في الكتاب والسنة ص 21.
3 -
الأيام: فهناك من يتشاءم ببعض الأيام وينسب إليها النحس والشؤم، كمن يتشاءم بيوم الأربعاء، وذلك من تلاعب الشيطان بالجهال (1).
4 -
وهناك من يتشاءم بالأعداد، كما تكره الرافضة لفظ العشرة، أو فعل شيء يكون فيه عشرة فلا يبنون بعشرة أعمد مثلًا، قال ابن تيمية وذلك لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة (2). وكثيرٌ من الناس في الغرب يتشاءمون برقم ثلاثة عشر، وربما حذفته بعض شركات الطيران في ترقيم المقاعد (3).
5 -
التشاؤم في المركب والمسكن والمرأة .. وربما تعلق هؤلاء بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس» (4). وقد أجاب العلماءُ على هذا الحديث بأجوبةٍ عدة، ومن أجملها ما قاله ابن القيم: أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاث ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعيانًا منها مشؤومة على من قاربها وساكنها، وأعيانًا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤون ولا شر، والله خلق الخير والشر والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودًا مباركة يسعد بها من قاربها، ويخلق بوضعها نحوسًا ينحس بها من قاربها، وكل ذلك بقضاء الله وقدره .. والفرق بين النوعين مدركٌ بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل، فهذا لونٌ والطيرة لون .. أهـ (5).
(1) تيسير العزيز الحميد ص 380.
(2)
منهاج السنة 1/ 10.
(3)
عالم السحر والشعوذة، الأشقر ص 229.
(4)
الحديث متفق عليه (جامع الأصول 7/ 631).
(5)
تيسير العزيز ص 377.
فإن قيل هذا جارٍ في كل مشؤوم فما وجهُ خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ فجوابه: أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة فخصَّت بالذكر (1).
6 -
الاستقسام بالأزلام، وهي القداح، كان الرجل في الجاهلية إذا أراد سفرًا أو زواجًا أو أمرًا مهمًا أدخل يده في وعاء يضع فيها القدح، فأخرج منه (زلمًا) فإن خرج الأمر مضى لشأنه وإن خرج النهي كف ولم يفعل (2).
وذلك نوعٌ من التطير المنهي عنه، كما في قوله تعالى:{وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} ، وفي الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يلج الدرجات العلى من تكهن، أو استسقم، أو رجع من سفرٍ تطيرًا» (3).
إخوة الإسلام: ومن الاستسقام بالأزلام في هذا العصر: ضربُ الرمل والودع (4)، وفتح الكتاب والكوتشينة، وقراءة الفنجال، وكلُّ ما كان من هذا القبيل حرام منكر في الإسلام (5).
إخوة الإيمان احذروا التطير والتشاؤم في أمور حياتكم كلِّها فإنه مفسدة للدين والدنيا، ولما لم يكن في ترك التطير إلا تحقيق التوحيد لكان هذا كافيًا، ودونكم هذا الحديث العظيم فتأملوه، واحرصوا على العمل به، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حُصين بن عبد الرحمن قال: «كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم
(1) تيسير العزيز الحميد ص 377.
(2)
النهاية 1/ 311
(3)
أخرجه الطبراني وجود إسناده الألباني (الصحيحة 2161، وانظر: الطيرة والفأل؛ محمود الجاسم ص 32.
(4)
الودع: خرز بيض تخرج من البحر تتفاوت في الصغر والكبر، الواحدة منها (ودعة) مختصر الصحاح ص 714، ولا أدري أهي المقصود بذلك أم لا؟ .
(5)
الحلال والحرام ص 230، عن الطيرة والفأل؟ الجاسم ص 33.
رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلتُ: أنا، ثم قلت أما إني لم أكن في صلاة ولكن لُدغت، قال: فماذا صنعت؟ قلتُ: استرقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلتُ: حديثٌ حدثناه الشعبي فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلتُ: حدثنا عن بُريدة بن حصيب الأسلمي أنه قال: «لا رقية إلا من عَيْنٍ أو حُمةٍ» فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبيَّ ومعه الرهط (دون العشرة)، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيمٌ فظننت أنهم أمتي، فقيل لي هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومُه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي هذه أمتُك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب» ، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يُشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ما الذي تخوضون فيه؟ » فأخبروه، فقال:«هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:«أنت منهم» ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:«سبقك بها عكاشة» (1).
وهكذا يحققُ التوحيد من لا يتطيرون .. ويكونون ضمن من يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب .. جعلنا الله منهم والمسلمين ..
على أن شيخ الإسلام ابن تيميه يرحمه الله ضعف قوله في الحديث «لا
(1) صحيح مسلم 1/ 199، 200 ح 220.
يرقون» وقال إنها وهمٌ من الراوي ولم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم لأن الراقي محسنٌ إلى أخيه، وكذلك ضعفها تلميذه ابن القيم رحمهما الله، ومما يؤيد ذلك أنها لم ترد في رواية البخاري، بل ولا في الروايات الأخرى عند مسلم، وإنما الثابتة في الصحيحين «لا يسترقون» فقط والله أعلم (1).
أيها المؤمنون ويبقى بعد ذلك حديث عن دفع التطير، ووسائل الخلاص منه، وحديث عن الفألِ ومعناه وأثره في حياة المسلم، وهذه وتلك مجال الحديث في الجمعة القادمة بإذن الله.
(1) تيسير العزيز الحميد ص 84.