الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) بين التطير والتفاؤل
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله ورضي عن صحابته وأتباعهم إلى يوم الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (2).
أما بعد فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه في السِّر والعلن، وبتقوى الله تصلح الأمور، وتتلاشى الشرور، ويصلح للناس شؤون دينهم ودنياهم.
ألا وإن صلاح المعتقد سببٌ للصلاح والطمأنينة في الدنيا والفوز بالنعيم والسعادة في الآخرة.
وحين يكون الخللُ في العقيدة يبتدع الناس عوائد ما أنزل الله بها من سلطان، ويتلبسون بسلوكيات تنغص عليهم حياتهم وتجعلهم نهبًا لإيحاءات شياطين الجن والإنس.
لقد جاءنا الله بهذا الدين لتمتلئ قلوبنا بتعظيم الله، والتوكل عليه ولتقرَّ أعيننا
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 29/ 5/ 1417 هـ.
(2)
سورة آل عمران، آية:102.
(3)
سورة النساء، آية:1.
بتطبيق شرائع الإسلام وأخلاقه العالية، في وقت كانت ولا زالت الجاهليات تُضربُ أطنابها وتضلل أتباعها، ويظل الفرد في ظل هذه الجاهليات نهبًا للأهواء، قلقًا حائرًا تطارده الهموم، ويسيطر عليه التشاؤم، وربما بلغ به القلقُ مبلغه، والتشاؤم نهايته فأنهى حياته بنفسه، ظن ليستريح والحق أنها بداية للشهوة الأبدية.
لقد كان العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في ظلام وشقوة ليست الطيرة إلا واحدة من سلوكياتها الخاطئة.
والطيرة هي التشاؤم واشتقاقها من الطير، إذا كانوا يتطيرون من الغراب والأخيل ونحوهما، وكان الواحدُ منهم إذا خرج لأمر ورأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وكانوا يُسمون الطائر ذات اليمين بالسانح ويستبشرون به ويستدلون به على نجاح سفرهم وقضاء حوائجهم، كما يسمون الذي يأخذ بالشمال (البارح) فيتشاءمون به، وقد يرجعون عن السفر بسببه، أو يتوقفون عن عمل بدؤوه (1).
وإذا كانت الجاهليات قديمًا وحديثًا تلتقي في كثير من صور الانحراف فإن التطير وُجد عند الأمم السابقة كما قص الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من أخبارهم في القرآن، منكرًا لها ومُشنِّعًا على معتقداتها وإذا كان التطير كلُّه مرفوضًا .. فإنه يتعاظم حين يكون الأمر خيرًا واقعًا .. أو يكون المُتطير منه نبيًا مرسلًا.
أجل لقد تطير فرعون وقومه المجرمون بموسى ومن معه من المؤمنين {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا
(1) عالم السحر والشعوذة، الأشقر 298.
طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1). كما تطير أهل القرية برسلهم الناصحين وهددوهم بالرجم والعذاب الأليم {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2). وتطيرت ثمود بنبيها صالح عليه السلام وقد طلب إليهم ألا تستعجلوا للسيئة قبل الحسنة، وأوصاهم بالاستغفار لعلهم يرحمون:{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} (3).
عباد الله لم لا يكون التطير حرامًا وهو يصور لصاحبه الخير شرًا والحق باطلًا، وربما دفع بصاحبه إلى فعل المكروه أو الإحجام عن فعل المحبوب، وهو أولًا وآخرًا لا ينجي من المقدور، وليس بمقدور صاحبه أن يكتشف الغيب المستور ولذا رفضه بعض عقلاء الجاهلية وقال شاعرهم:
الزجر والطيب والكهانُ كلهم مُضللون ودون الغيب أقفال
وقال الرقشي:
ولقد غدوت وكنت لا
…
أغدو على واقٍ وحاتم
فإذا الأشائم كالأيامن
…
والأيامن كالأشائم
وكذلك لا خير ولا
…
شرَّ على أحدٍ بدائم
لا يمنعنك من بغاء
…
الخير تعقادُ التمائم (4)
أما المسلم فيمنعه من التشاؤم عدة أمور رضاه بقضاء الله وقدره وثقتُه بأن ما يقدره الله له فيه خير فإن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له.
(1) سورة الأعراف، آية:131.
(2)
سورة يس، آية:18.
(3)
سورة النمل، آية:47.
(4)
الطيرة والفأل في الكتاب والسنة، محمود الجاسم ص 13، 15.
واعتقاده الجازم بأن المستقبل غيبٌ لا يعلمه إلا علام الغيوب {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ} ، ومعرفته بأن الطيرة والتشاؤم نوعٌ من السحر، كما قال صلى الله عليه وسلم:«العيافة والطرق والطيرة من الجبت» (1).
والجبت هو السحر عند جمع من أهل العلم، ووجه كون العيادة والطرق والطيرة سحرًا، لما فيها من دعوى علم الغيب، ومنازعة الله تعالى في ربوبيته .. إضافة إلى أن بعضهم يعتقد أن تلك الأشياء تنفعُ أو تضر بغير إذن الله تعالى (2).
ومن أعظم ما يدعو المسلم للبعد عن التشاؤم والتطير خوفه من الشرك إذ هي بابٌ من أبوابه وطريقٌ موصلٌ إليه، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام:«الطيرة شرك، الطيرة شرك» الحديث (3).
وورد في حديث آخر: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا فما كفارة ذلك قال: «أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا خيرك ولا إله غيرك» (4).
يقول ابن القيم رحمه الله: فالطيرة بابٌ من الشرك وإلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته يكبر ويعظم شأنها على من أتبعها نفسه واشتغل بها وأكثر العناية بها،
(1) رواه أحمد وأبو داود، وحسن النووي وابن تيميه إسناده (رياض الصالحين ح 1672، الفتاوى 35/ 192، وانظر: نواقض الإيمان؛ العبد اللطيف 522).
رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه معلقًا ووصله ابن جرير، وقال ابن حجر وإسناده قوي (الفتح 8/ 252، النص اقض 523).
(2)
نواقض الإيمان القولية والفعلية، العبد اللطيف 523.
(3)
رواه أبو داود والترمذي وصححه، ورواه غيرهم (تيسير العزيز الحميد 383).
(4)
تيسير العزيز الحميد 385، وصحح إسناده الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/ 295.
وتذهب وتضمحل عمن لم يلتفت إليها ولا ألقى إليها باله ولا شغل بها نفسه وفكره ..
أيها المسلمون يدعو المسلم كذلك للبعد عن التطير والتشاؤم قطعُ وساوس الشيطان، وبعده عما يُفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه وتأمل هذا الوصف الرائع من عالمٍ فقيه، لحال المتطير المتشائم يقول ابن القيم رحمه الله:«واعلم أن من كان معتنيًا بها- يعني الطيرة- قائلًا بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبوابُ الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يُفسد عليه دينه، وينكدُ عليه عيشه .. إلى أن يقول: وحال من تطير وتشاءم كحال من غلبته الوساوس في الطهارة فلا يلتفت إلى علمٍ ولا إلى ناصح، وهذه حالُ من تقطعت به أسباب التوكل وتقلص عنه لباسه، بل تعدى منه، ومن كان هكذا فالبلايا إليه أسرع، والمصائب به أعلق، والمحنُ له ألزم، ثم ينتهي إلى توصيفه بقوله والمتطيرُ مُتْعبُ القلب، منكرُ الصدر، كاسف البال، سيءُ الخلق يتخيل من كل ما يراه أو يسمعه، أشد الناس خوفًا، وأنكدهم عيشًا وأضيق الناس صدرًا وأحزنهم قلبًا، كثيرُ الاحتراز والمراعاة لما لا يضره ولا ينفعه، وكم قد حرم نفسه بذلك من حظٍ، ومنعها من رزقٍ، وقطع عليها من فائدة» (1).
أيها المسلمُ ربما ندم المتطير مما تطير منه، واعتذر استحياءً ممن تطير به، ومن طريف ما يُروى عن بعض الولاة أنه خرج في بعض الأيام لبعض مهماته، فاستقبله رجل أعور، فتطير به وأمر به إلى الحبس، فلما رجع من مهمته ولم يلق شرًا أمر بإطلاقه، فقال له (المحبوس) سألتك بالله ما كان جرمي الذي حبستني
(1) مفتاح دار السعادة 2/ 230، 231.
لأجله؟ فقالت له الوالي: لم يكن لك عندنا جرمٌ، ولكن تطيرتُ بك لما رأيتك، فقال: ما أصبت في يومك برؤيتي؟ فقال الوالي: لم ألق إلا خيرًا، فقال الرجل، أيها الأمير: أنا خرجت من منزلي فرأيتك فلقيت في يومي الشرَّ والحبس، وأنت رأيتني فلقيت في يومك الخير والسرور فمن أشأمُنا، والطيرة بمن كانت؟ فاستحيا منه الوالي ووصله (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (2).
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب.
(1) مفتاح دار السعادة 2/ 231.
(2)
سورة الحديد، الآيتان: 22، 23.