الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أيها المسلمون، ومن وقفات معركة القادسية حديثٌ عن الأتقياء الأخفياء أولئك الذي وضعوا نصب أعينهم الآخرة ونعيمها فعملوا ما في وسعهم لها، واستشعروا محبة الله فعملوا بطاعته والبحث عن رضاه، لم تقعد بهم جراحات المعركة عن حزبهم من قيام الليل وتلاوة كتاب الله، ولم ينقص من جهادهم أن الخليفة لا يعرفهم بأعيانهم أولئك أقوامٌ يستشعرون رقابة الله فتكفيهم عن رقابة سواه، ويدركون دورهم في الحياة ومسؤوليتهم الفردية أمام الله فيدفعهم ذلك إلى أن يكونوا آسادًا بالنهار، رهبانًا بالليل .. يصفهم سعد رضي الله عنه في رسالته التي بعث بها إلى الخليفة عمر يخبره بالفتح ثم يقول:
وأصيب من المسلمين سعدُ بن عبيد القارئ، وفلانٌ، وفلانٌ ورجالٌ من المسلمين لا يعلمهم إلا الله فإنه بهم عالم، كانوا يدوُّون بالقرآن إذا جنَّ عليهم الليل كدوي النحل، وهم آسادٌ في النهار لا تُشبههم الأسود، ولم يَفضُل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذ لم يُكتب لهم» (1).
أيها المسلمون بهذه النوعية من الجند انتصر المسلمون وبهذه العناصر الجادة في الجهاد والعبادة فُتحت البلادُ والقلوب ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وامتد رواقُ الإسلام شرقًا وغربًا، تلك من إيحاءات وقعة القادسية التي لم يكن
(1) البداية والنهاية 7/ 51.
عددُ جيش المسلمين فيها مقاربًا لجيش الفرس، فقد نُقل أن جيش المسلمين كانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وأن جيش الفرس كانوا أربعين أو ستين ألفًا، وقيل كانوا ثمانين ألفًا، وقيل كانوا في مائة ألف وعشرين ألفًا» (1). وأيًا ما كان العدد والفرق كبير بين الجيشين عددًا وعدة، ومع ذلك كتب الله النصر للمسلمين، وكانت بداية الأفول لإمبراطورية الفرس الكبرى.
وذلك يدعونا إلى الحديث عن الغثائية في مجتمع المسلمين في الأزمنة المتأخرة زمان التردي والضعف والانحسار حين يكثر عددهم ويقلُّ صدقهم، وتتفرق كلمتهم وتذهب ريحهم، فيسومهم العدو سوء العذاب، ويستولي على بلادهم، ويهيمنُ على مقدراتهم أين نحن من أهل القادسية، أين رجالاتنا من رجالاتهم، وأين نساؤنا وصبياننا من نسائهم وصبيانهم، وتلك هي الوقفة الأخيرة التي تتعلق بالمرأة وحشمتها وعفافها، مع مساهمتها في الجهاد ونكاية الأعداء، ودونكم هذه الرواية فتأملوها وحريٌّ بنسائنا وبناتنا وأخواتنا أن يفقهنها ويسرن علي منوالها.
عن أمِّ كثير امرأة همام بن الحارث النخعي قالت: «شهدنا القادسية مع سعدٍ مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فُرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيانُ فنوليهم ذلك -تعنى استلابهم- لئلا يكشفن عن عورات الرجال» (2).
وهكذا تُشكل المرأة المسلمة لبنة مهمة في كيان المجتمع المسلم، ويشارك
(1) سير أعلام النبلاء 1/ 365، البداية والنهاية 7/ 42، 48.
(2)
البداية والنهاية 7/ 51.
الرجال همتهم في الجهاد ونكاية الأعداء، دون أن تتجاوز أنوثتها أو تتنازل عن شيءٍ من حشمتها وعفافها، فهي لم تشترك إلا حين فرغ الناسُ من القتال وانحازت الصفوف وبقي من يحتاج إلى المساعدة من المسلمين فيُسقى، ومن به رمقٌ من المشركين ولا يستطيع الحراك فينهى.
وقبل الإقدام على هذه الخطوة تُشدُّ الثياب فلا يبين منها عورة، ولا يطمعُ الذي في قلبه مرضٌ بنظرة أو شهوة وتترفع الحرائرُ العفيفات عن كشف عورات الرجال، وتترك للصبيان مهمة الاستلاب وأخذ ما مع الأعداء من عدة أو سلاح.
ألا ما أروع الصورة، وأنظف المسؤولية، ودقة الأداء مع كمال الحشمة والحياء ..
أين هذا من نساء يلهثن وراء الدعوة للاختلاط، ورجالٍ يرون الحشمة والحجاب مظهرًا من مظاهر التخلف وعهود الظلام؟ الفرق كبيرُ بين نساءٍ يساهمن في نشر الإسلام والتمكين لحضارة المسلمين والقضاء على الظلم والجهل والاستعباد وبين نساءٍ أو رجالٍ يتمنطقون بالعلمنة والتغريب ويريدون لأمتهم أن تكون ذيلًا في ركب الأمم التائهة في بيداء الظلام ويريدون لنسائهم أن يكن رقمًا ملحقًا بالغانيات الراقصات المائلات المميلات، وعلى الأقل يَكنَّ من النساء المترجلات فلا حشمة ولا حياء ولا عُزلة عن الرجال الأجانب يدفع الفتن والشرور ولا قرار في البيوت يتيح للمرأة إيجاد المحاضن المسلمة، إنه السُعار المحموم والتقليد الأبله وإفساد المرأة باسم المطالبة بحقوقها، وإذابة القيم باسم التقدم والحرية وليس يخفى فحيح الأفاعي على أولي الأحلام والنهى، ومن فضل الله علينا أن نساءَ هذه البلاد تربت وستظل بإذن الله على الحشمة والحياء رافضة موجات التقليد، ودعوات الاختلاط والسفور والناسُ
بعمومهم يدركون الفرق بين المفسدين والمصلحين، وإن قال المفسدون إنما نحن مصلحون.
إخوة الإيمان أختم الحديث عن هذه الوقفات باهتمام الخليفة عمر بأمور الإسلام والمسلمين في نهاية المعركة كما كان مهتمًا في بدايتها .. رحمك الله يا عمر وأنت تخرج من المدينة إلى ناحية العراق تستنشق الخبر، وفي ذات يوم أبصر راكبًا يلوح من بعد، فاستقبله عمرُ واستخبره فأخبره أن الله فتح على المسلمين بالقادسية وغنموا غنائم كثيرة، وجعل الرجلُ يُحدث عمر وهو لا يعرفه، وعمر ماشٍ تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناسُ يُحيون عمرَ بالإمارة فعرف الرجلُ عمر فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين، هلا علمتني أنك الخليفة؟ فقالت عمر: لا عليك يا أخي» (1).
هكذا إخوة الإيمان تبدو صورة المجتمع المسلم في القادسية نموذجًا للصدق والإخلاص والجهاد والتفاني والتواضع والحشمة والحياء، بأمرائه ومأموريه، بقادته وجنده، برجاله ونسائه وصبيانه .. وإذا أراد المسلمون العزة اليوم فلابد أن يتخذوا من تاريخ المجاهدين الصادقين نموذجًا يحتذى به وسُلمًا للوصول .. اللهم أصلح أحوال المسلمين واجمع كلمتهم على الحق والدين ..
(1) البداية والنهاية 7/ 49.