الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبرة في هجرة الحبشة
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى وسائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن صحابته أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أما بعد إخوةَ الإسلام فما أروع سيرةَ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه، حين تُطالع أو تُروى، والمسلمون يجدون فيها في كلِّ زمَانٍ ومكان المرشدَ الهادي في حالِ عزِّهم وسؤددهم كما يجدون فيها السلوى وطرائق للثباتِ في حالِ ضعفِهم وتسلطِ الأعداء عليهم.
ولاشك أن الحديث عن محمد صلى الله عليه وسلم حديثٌ عن خير البرية والحديثُ عن صحابته حديثٌ عن خير القرون، وسأتذكر وإياكم نموذجًا للفتنة التي أصابت
(1) ألقيت هذه الخطبة في 19/ 11/ 1417 هـ.
(2)
سورة الحشر، آية:18.
(3)
سورة آل عمران، آية:102.
هؤلاء الصفوة، وكيف خرجوا منها سالمين منتصرين، وفي قصَصِهم عبرة، وفي حياتهم وجهادهم أسوةٌ للمسلمين.
أخوةَ الإيمان وفي السنة الخامسة لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم جُنَّ جنون قريشٍ لظهورِ الإيمان وكثرةِ الداخلين في الإسلام، واشتدَّ أذاها على محمدٍ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وما من وسيلة ترى فيها حربًا للإسلام وتقليلًا من شأن المسلمين إلا واستخدمها -وليس هذا موطنَ التفصيل فيها- وتحدثُنا كتبُ السير أنها استخدمت فيما استخدمت -سلاح القبيلة- أسلوبًا في النكالِ بالمسلمين يقول الإمامُ الزهريُّ يرحمه الله: فلما كثر المسلمون وظهر الإيمان فتحدثَ به ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذين آمنوا به تفرقوا في الأرض، قالوا: فأين نذهبُ يا رسول الله؟ قال: هاهنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة (1).
أيها المسلمون لقد كانت هجرةُ الحبشة فرارًا بالدين، كانت صعبةً على المهاجرين، وفي حوارٍ جرى بين أميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه وبين إحدى المهاجرات إلى الحبشة تتضح صورةُ المعاناة وألمُ الغربة، فقد روى البخاريُّ في صحيحه أن أسماءَ بنتَ عميسٍ رضي الله عنها وكانت إحدى المهاجرات دخلت على حفصةَ زوج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم من الحبشة، فدخل عمرُ على حفصة وأسماءُ عندها فقال عمرُ لأسماء: سبقناكم بالهجرة -يعني إلى المدينة- فنحن أحقُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطعم جائعكم ويعظُ جاهلكم، وكنا في دارِ أو في أرضِ البُعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم .. الحديث (2).
(1) المغازي للزهري ص 96، الطبقات لابن سعد 1/ 203.
(2)
الفتح 7/ 484.
وكيف لا تكون الهجرةُ صعبةً عليهم وهم يهاجرون إلى أرض لم يألفوها، لغةُ الأحباشِ غير لغتهم، وعوائدُهم تختلف عن عوائدهم، ودينُهم غير دينهم، وشوقُ الأهلِ وحنينُ الديار وغربةُ المقامِ كلُّ هذه وتلك تشكل ضغطًا نفسيًا عليهم، ولكن الأمنَ من الفتنةِ في الدين، والسلامةَ من أذى المشركين، والرغبة في نشرِ هذا الدين تُخفف من آلام غربتهم، وتحفزهم على البقاءِ في أرض البُعداءِ البغضاء.
أيها المسلمون وبرغم ارتياح المهاجرين بالحبشة وطمأنينتهم وفي ظروف الفتنِ تروجُ الشائعات، ولم يطلْ مكثُ المسلمين بالحبشية حتى بلغهم أن قريشًا قد أسلمت، فرجعت طائفةٌ منهم إلى مكة .. ولكنهم أدركوا حين اقتربوا من مكةَ أن الخبرَ كاذب وأن قريشًا أشدُّ في أذاها بعد هجرتهم، ولم يستطع أحدٌ من هؤلاء العائدين من الحبشة أن يدخل مكة إلا بإجارة- أو كفالة- أحدِ المشركين، ومن بين هؤلاء عثمانُ بن مظعون رضي الله عنه الذي دخل في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى إيذاءَ المشركين للمسلمين- وهو آمنٌ- ردَّ على الوليدِ جوارَه ولم تطب نفسه أن يرى المسلمين يعذبون وهو آمن.
وبينما هم في مجلس لقريش، وفَد عليهم لبيدُ بنُ ربيعة قبل إسلامه فقعد يُنشدهم من شعره فقال:
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطل.
فقال له عثمانُ: صدقت.
ثم قال لبيد:
وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائلُ.
فقال له عثمانُ: كذبت.
نعيم الجنةِ لا يزول، فقال لبيد: متى كان يؤذى جليسُكم يا معشرَ قريش؟ فقام رجلٌ منهم فلطم عثمان فاخضرت عينه فلامه الوليدُ على رد جواره فقال: قد كنتَ في ذمةٍ منيعة فقال عثمان: إن عيني الأخرى إلى ما أصاب أختها في الله لفقيرة. فقال الوليد: فعد إلى جوارك، فقال: بل أرضى بجوار الله تعالى.
إخوة الإيمان- قال بعضُ كتاب السيرة معلقًا على هذا الحديث:
إن دعوة هذا بعضُ رصيدها من المفاهيمِ لن تُقهرَ ولن تُغلب وإن دينًا هذه بعضُ سمات رجاله لحريٌّ بالظهور والتمكين (1).
إنه الثباتُ على دين الله رغم المحن واللؤى، وإنه الشعور بعزةِ الإسلام رغم المسكنةِ والضعف؟ !
وكم هو عجيبٌ هذا الجيل في صدقهِ مع الله وثباتِه على الدين الحق ويطول عجبُك حيث تعلمُ صورًا من ثبات المهاجرين للحبشة تجاوزت الرجالَ إلى النساء، وأمُّ حبيبة رضي الله عنها ثبتت على إسلامها وهي في أرض الغربة رغم ردةِ زوجها عبيد الله بن جحش ودخوله في النصرانية، وهي بذلك تضرب نموذجًا رائعًا للمرأةِ المسلمة، وتستحق على ذلك عظيمَ المكافأة، فقد عقد عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهي بعدُ في أرض الحبشة، وكانت واحدةً من أمهات المؤمنين، فور انقضاء عدتها.
وإذا رأيتَ ثم رأيت دلائل الصدق وعظيم الصبر من المهاجرين في أكثر من موقفٍ وحادثة زال عجبُك من تهاوي أركان الجاهلية على أيدي هؤلاء، ولم تستغرب تغيُّرَ قناعةِ قريش بهذا الدين وإعجابهم بالمسلمين حتى إذا أتيحت الفرصةُ المناسبةُ أعلن عددٌ من قادةِ قريشِ إسلامهم وانضموا إلى صفوف
(1) من معين السيرة ص 57.
المسلمين وكان حدثًا عظيمًا في الزمان وتغيرًا كبيرًا في الأذهان يوم أن أسلم خالدُ بن الوليد وعكرمة بنُ أبي جهل وعمرو بن العاص وغيرُهم كثير، وما دام الحديث متصلًا عن هجرة الحبشة وآثارها فدونكم خبرَ إسلامِ عمرو بن العاص وهو سفيرُ قريش لردِّ المهاجرين أولًا، والمسلمُ على يد النجاشي آخرًا يقول عمروٌ عن نفسه: كنتُ للإسلام مُجانبًا معاندًا، حضرت بدرًا مع المشركين فنجوت، ثم حضرتُ أحدًا فنجوت، ثم حضرتُ الخندق فنجوت، فقلتُ في نفسي: كم أوضع؟ والله ليظهرنَّ محمدٌ على قريش، فلحقت بمالي بالرهط، ثم بدا لي فلحقت مع رفقةٍ لي بالحبشية بعد صلح الحديبية وقلت نلحق بالنجاشي فنكون معه فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي أحبُّ إلينا أن نكون تحت يد محمد، وأن تظهر قريشٌ فنحن مَنْ قد عرفت، فلحقنا به، وذات يوم جاءه عمرو بنُ أمية الضمري بكتاب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزوجه أمَّ حبيبة، فلما خرج من عنده دخلتُ عليه وقلت: أيها الملك خرج من عندك رجلٌ هو رسولُ عدوٍّ لنا قد وترنا وقتل أشرافنا، فأعطنيه فأقتله- يقول عمرو وإنما أردتُ بذلك أن أتخذ يدًا عند قريش بقتل رسول محمد- فلما قلتُ له ذلك غضب النجاشي ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننتُ أنه كسره، فابتدرتَ منخراي، وجعلتُ أتلقى الدَّم بثيابي، فأصابني من الذلِّ ما لو انشقت بي الأرض لدخلتُ فيها فرقًا منه، ثم قلتُ أيها الملك لو ظننتُ أنك تكره ما قلتُ ما سألتُك، قال: فاستحيا، وقال: يا عمرو: تسألني أن أعطيك رسولَ من يأتيه الناموسُ الأكبرُ الذي كان يأتي موسى وعيسى لتقتله؟ قال عمرو فغيَّر اللهُ
قلبي عما كنتُ عليه، وقلتُ في نفسي: عرف هذا الحقَّ العرب والعجمُ وتُخالف أنت؟
ثم قلت؟ أتشهد أيها الملكُ بهذا؟ قال: نعم أشهد به عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فواللهِ إنه لعلى الحق، وليظهرنَّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده،
قلتُ: أتُبايعُني له على الإسلام؟
قال: نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم دعا بطست فغسل عني الدم وكساني ثيابه .. (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (2).
(1) البداية والنهاية 4/ 264.
(2)
سورة الأنعام، آية:36.