الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فابتغوا عند الله الرزق
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله واهب النعم، ومحلِّ النقم، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو خيرُ الرازقين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين وارجوا اليوم الآخر، ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
عباد الله يظل الرزق حبلًا ممدودًا بين السماء والأرض: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (4). توهم وفاجرهم ونعمة ووحدة يتفضل الله بها على الخلق أجمعين: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (5).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 7/ 1417 هـ.
(2)
سورة الحجرات، آية:13.
(3)
سورة آل عمران، آية:102.
(4)
سورة الذاريات، أية:22.
(5)
سورة الذاريات، أية:58.
والله هو المقر لكل شيء: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} (1). أي: مقتدرًا يُعطي كلَّ إنسانٍ قوته (2).
لا إله إلا الله ينفردُ وحده بالربوبية والألوهية، ويختص وحده ببسط الرزق أو تقديره:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (3).
ولا إله إلا الله امتد رزقه فضلًا عن العقلاء، فرزق الطير في أوكارها، والسباعَ في جحورها، والحيتان في قاع البحار والمحيطات، وشمل رزقه الدواب بأنواعها وصدق الله:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (4).
معاشر المسلمين تأملوا عظمة الله وإحسانه وكمال قدرته فالذي لا يَحْملُ الرزق يُحمل له، والذي لا يملك قوتَ يومه أو غده ييسره الله له:{وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (5).
ومن لطائف ما يُذكر في تفسير هذه الآية: أن الغُراب إذا فقس عن فراخِه البَيْضَ خرجوا وهم بيضٌ، فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أيامًا حتى يَسْوَدَّ الريشُ فيظل الفرخُ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيضُ الله تعالى طيورًا صغارًا كالبرغش فيغشاه فيتقوت به تلك الأيام حتى يسودَّ ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفروا عنه، فإذا رأوه قد اسودَّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق (6).
(1) سورة النساء، الآية:85.
(2)
شرح السنة؟ للبغوي 14/ 245.
(3)
سورة سبأ، أية:36.
(4)
سورة هود، أية:6.
(5)
سورة العنكبوت، أية:60.
(6)
تفسير ابن كثير للآية: 3/ 669.
أرأيتم كيف يتولى الله رزق الضعفاء حين يتخلى عنه أقرب الأقرباء الرحماء؟ إنها منتهى الرحمة وكمال الربوبية؛ رُحماك ربي، تمتلئ بطوننا، وتمتد ثرواتنا، وتتضخم أرصدتنا، ولا نزال نلهث وراء الدنيا، وربما خرجنا ولم نستمتع بما جمعنا، وربما صعب علينا إنفاقُ القليل منها .. ولو كان في ذلك الخير لنا ما هذا السُّعار، وما هذا اللهاثُ ..
أين نحن من قوم هانت عليهم الدنيا، والتفتوا بهمم عالية إلى الأخرى .. وربما خروا على الأرض صرعى من الفاقة، والمخمصة فيظن الغريب أن بهم مسًا من الجنون، وما هو إلا الجوع، عن فضالة بن عبيدٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يَخِرُّ رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخصاصة- وهم أصحاب الصفة- حتى يقول الأعراب هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال:«لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجة» (1).
أين التوكل على الله والرضا بما قسم، والشكر على ما أنعم في الحاضر، والثقة برزق الله في المستقبل:«لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا» (2).
ألا ما أحوجنا- جميعًا- إلى أن نأخذ هذا المال بسخاوة وطيب نفس، فذلك الذي يُبارك له فيه، أما الشرهُ والطمع والحرص والشح؛ فتلك تورد المرء موارد الردى، وهل تُروي البحار ظمأ العطش؟ تلك وصيةٌ من وصايا المصطفى صلى الله عليه وسلم: «يا حكيم بن حزام إن هذا المال خضرٌ حُلو، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له
(1) الحديث رواه الترمذي وقال حديث صحيح (رياض الصالحين 194).
(2)
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، والحاكم بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 5/ 60).
فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى .. » (1).
أيها المسلمون ويَظلُّ أقوامٌ فقراء لما في قلوبهم من الهلع والجزع والحرص على الدنيا، وإن كانوا في عداد الأغنياء ويظل آخرون أغنياء يتعففون ويتكففون ولا يسألون الناس إلحافًا، وإن باتوا لا يجدون من الدنيا ما يطعمون لو شاءوا لكانوا من ذوي الثروة والغناء.
صلى عليك الله يا علم الهدى وأنت تربط على بطنك الحجرين من شدة الجوع والإعياء، ولو سألت ربَّك لأحال لك الصفا ذهبًا، وأنى لك أن تسأل هذا وأنت القائل:«اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا» (2)، والقوت ما يسد الرَّمقَّ- عند أهل اللغة-.
وأبو هريرة رضي الله عنه يقول عنك: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير» (3). كان غنى النفس هو مفهوم الغنى الحق عندك، وكذلك أورثت أصحابك، ولقد خرجت والمؤمنون معك بعد ثلاث سنوات من الحصار الاقتصادي الذي فرضته قريش عليكم في الأرزاق والمناكح، وأنتم أصلبُ عودًا، وأشدُّ على المبدأ الحق ثباتًا، وإن أكل المسلمون ورق الشجر، وإن كان أحدُهم ليضع كما تضعُ الشاة ماله خَلْطٌ .. لكنه الإيمانُ والصبر واليقين تندُك له الصخور الراسيات، وتستجيب له القلوبُ وإن لم تتخلص بعدُ من حمأة الجاهلية، ولم يسلم أصحابها مع محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه.
(1) الحديث متفق عليه (رياض الصالحين 201).
(2)
متفق عليه، رياض الصالحين ص 191.
(3)
رواه البخاري (رياض الصالحين 188).
أجل لقد تنادى قومٌ مشركون بنقض الصحيفة الآثمة الظالمة وكانت ترد بين الفينة والأخرى الإبل محملة بالأرزاق من المحسنين إلى حيث يُحصر المسلمون، فأُنهي الحصار، وأنزلت الصحيفة، وانتصر الحق، وخسر المبطلون في هذا اللون من الحصار على المسلمين، وكذلك يُروق صاحب التقوى من حيث لم يحتسب {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (1).
وكذلك تفلس وسيلة الحصار في الرزق التي عمدت إليها قريش في شعب أبي طالب، قبل ما يزيد على ألفٍ وأربعمائة سنة، وفي ذلك درسٌ وعبرة.
ألا فلنتق الله جميعًا في طلب أرزاقنا «اتقوا الله وأجملوا في الطلب» ولنثق بما عند الله لنا {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (2)، ولنشكر الرازق على ما حباها {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} (3)، ولنثق بالخلف بعد الإنفاق {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (4).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (5).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، أقول ما تسمعون واستغفروا الله.
(1) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.
(2)
سورة طه، آية:131.
(3)
سورة سبأ، آية:15.
(4)
سورة سبأ، آية:39.
(5)
سورة طه، آية:132.