الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طرق السعادة
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدَّر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قسم الخلق- بعلمه وحكمته- إلى أشقياءَ وسعداء ففريق في الجنة وفريق في السعير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه وخيرتُه من خلقه، حمل رسالة الخيرِ إلى أمتِه ففاز بالاتباع أهلُ السعادة، وانتكس أهلُ الفسوقِ والشقوة ولا يظلم ربُّك أحدًا.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين ومن سار على هديهم إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد إخوةَ الإسلام فإن السعادةَ مطلبُ العقلاء ومبتغى الكبراء، وحُلُم يُراود الضعفاء، ولكن الناسَ متفاوتون في فهمِ حقيقتها، ومتباينون في طرق
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 11/ 1417 هـ.
(2)
سورة التوبة، آية:119.
(3)
سورة الحجرات، آية:13.
(4)
سورة النساء، آية:1.
الوصول إليها، منهم من يراها في المال والولد، ومنهم من يراها في الجاه والمنصب، ومنهم من يراها في توفر الشهواتِ يعَبُّ منها عبًّا، غير آبهٍ بما يحلُّ وما يحرم، ولا فرق عنده بين ممنوعٍ ومشروع، ومنهم من يراها في السبقِ في مجالِ الصناعةِ والاختراع ومنهم من يراها في القصورِ الفارهة، والحسانِ الغانية، والخيلِ المسوَّمة والأنعام والحرث، وكل ذلك من متاعِ الحياة الدنيا الفانية، ولكن ثمةَ ما هو أنفعُ وأبقى.
أجل لقد أخطأ طريق السعادةِ فرعونُ الذي ظن الملكَ والجبروت طريقَه الآمنَ الدائم، فقال قولتَه الظالمةَ الآثمة «يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي» وأعلن على الملأ عقيدتَه الجائرة {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} وجعل فيه عبرة وكان لمن خَلفهِ آية وأبصر هو وجندُه المخدوعون به آثارَ الشقوة وهم بعدُ لم يفارقوا الدنيا، أعلن الندمَ والتوبة ولكن هيهات (2){آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (3).
أيها المسلمون حين أضل طريقَ السعادة فرعون ومن على شاكلتِه في الكفر والطغيان، وجدها فتيةٌ مستضعفون آمنوا بربهِّم واعتزلوا معبودات قومهم، وكان
(1) سورة آل عمران، آية:15.
(2)
انظر: -خطب الفوزان 1/ 184.
(3)
سورة يونس، الآيتان: 91، 92.
نصيبُهم من الأرض -حين العزلة- كهفًا تقلُّ مساحتُه في الأرض وتضيقُ منافذُه الظاهرة نحو السماء، حتى إن الشمسَ إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذاتَ اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، ولو اطلعت عليهم داخله لوليت منهم فرارًا ولملئتِ منهم رُعبًا، ومع ذلك فالسعادةُ تحيط بهم، والرحمةُ منشورةٌ عليهم، والعقبُى كانت لهم تلك ثمراتُ الإيمان وذلك طريقُ السعادةِ لمن رام الجنان.
أيها المؤمنون لقد جاء في كتاب الله تحديدُ طريقِ السعادة والفلاح فمرةً باتباع هدى الله {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (1){فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) ومرة بالإيمان وعمل الصالحات {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3). ومرة بتزكيةِ النفس وتحليها بالصفات الحميدة وإبعادها عن الصفات المذمومة:
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (4). ومرة بالقيام بالواجبات والانتهاء عن المحرمات: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (5).
(1) سورة طه، آية:123.
(2)
سورة البقرة، آية:38.
(3)
سورة النحل، آية:97.
(4)
سورة الشمس، الآيتان: 9، 10.
(5)
سورة المؤمنون، الآيات 1 - 11.
أيها المسلمون إذا كانت الحيرةُ والشكُّ والضلالُ عذابًا وجحيمًا لا يطاق في الدنيا، والآثارُ في الآخرة أشدُّ وأبقى، فإن الإيمان واليقين سبيلٌ للسعادة في الآخرة والأولى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (1). {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (2)، {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} (3).
محالٌ أن يجدَ السعادة أصحاب الخنى والغناء، والكؤوس المحرمة، وأهلُ الريب والرذيلةِ والمعاصي مهما أوتوا من حظوظ الدنيا، إن لم يهتدوا ويتوبوا، ذلكم لأن ذلَّ المعصية يحيط بهم يقعد بهم عن السعادة الحقيقية:«إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذينُ، إن ذلَّ المعصية لا يفارق قلوبَهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه» (4).
وإذا أفلس من السعادة أرباب الأموالِ العظيمةِ والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وقارن نموذجٌ للانتكاسة والشقوة، ولم يمنعه مالُه، وقد أتاه اللهُ من الكنوز ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولو القوة فقد خسف اللهُ به وبداره الأرض فهو يتجلجل بها إلى يوم القيامة.
إذًا أفلس هؤلاء ووجد السعادةَ وحققها بكل معانيها من اتصلوا بالله وأطاعوه، ولو كان نصيبُهم من العيش كفافًا، ولو كان فرشهُم حصيرًا يبقى لها بعد النوم في الجنوب أثرٌ.
(1) سورة مريم، آية:96.
(2)
سورة الأنعام، آية:82.
(3)
سورة طه، آية:112.
(4)
كذاقال الحسن البصري يرحمه الله (ابن القيم، الداء والدواء ص 113).
عبادَ الله إن للإيمان والاستقامة على الحق أثرًا حميدًا حاضرًا ومستقبلًا، والله يقول:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (1).
وطاعة الله ورسوله سببٌ للفوز والفلاح كما قال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (2).
وتأمل يا أخا الإسلام نعيمَ الأبرار، وجحيم الفجار الوارد في قوله تعالى:{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (3).
يقول ابنُ القيم رحمه الله: ولا تظنَّ أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} مختصٌّ بيوم المعادِ فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة وأيُّ لذةٍ ونعيمٍ في الدنيا أطيبُ من برِّ القلوب، وسلامةِ الصدر ومعرفةِ الربِّ تعالى ومحبتِه، والعملِ على موافقته، وهل العيشُ في الحقيقة إلا عيشُ القلب السليم، وهو الذي سلم من الشركِ والغل والحقدِ والحسد والشح والكبر وحبِّ الدنيا والرياسة فهذا القلبُ السليمُ في جنةٍ معجلةٍ في الدنيا، وفي جنة قي البرزخ، وفي جنة يوم المعاد (4).
قال بعض العارفين وهو يستشعر محبة الله ويتنعم بعبادته: أن كنتُ في الجنةِ في مثلِ هذه الحالةِ فإني إذا في عيشٍ طيب (5).
أيها المؤمنون للرضا بالمقدور والقناعةِ بالميسور أثر في السعادة في الدنيا
(1) سورة فصلت، الآيتان: 30، 31.
(2)
سورة الأحزاب، آية:71.
(3)
سورة الانفطار، الآيتان: 13، 14.
(4)
الداء والدواء باختصار ص 218، 219.
(5)
ابن القيم، زاد المعاد 2/ 25.
والمثوبةِ في الآخرة والله يقول: «ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه» وهذا حوارٌ لطيف في مسكن السعادة وطرق جلبها قيل: للسعادة أين تسكنين؟ قالت: في قلوب الراضين قيل: فبم تتغذَين؟ قالت: من قوة إيمانهم قيل: فبم تدومين؟ قالت بحسب تدبيرهم قيل فبم تُستجلبين؟ قالت: أن تعلمَ النفسُ أن لن يصيبها إلا ما كتب اللهُ لها، قيل فبم ترحلين؟ قالت: بالطمع بعد القناعة وبالحرص بعد السماحة، وبالهم بعد السرور وبالشك بعد اليقين (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (2). نفعني الله وإياكم.
(1) السباعي، هكذاعلمتني الحياة ص 103.
(2)
سورة هود، الآيات: 106 - 108.