الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحج والتوحيد
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله حق التقوى واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا ألا وإن تقوى اللهِ أمانٌ من كل خوف، وغنى ما بعده فقر، وسعادة لا شقوة فيها -ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب- ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا.
أيها المسلمون عاد حجاجُ بيت الله بعد أن طوفوا بالبيت العتيق، وقفوا على صعيد عرفات خاشعين متذللين مبتهلين إلى الله والله غنيٌّ كريم أفاضوا من حيث أفاض الناس وذكروا اللهَ عند المشعرِ الحرام، ورموا الجمار، وتقربوا إلى الله بالهدي وهم على يقين أن الله لن يناله شيء من لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى مِنكم.
ألا ما أعظم رحلةَ الحج حين تذكرُ المسلم بقضايا العقيدة الكبرى فالتوحيدُ الخالصُ شعارُ الحجاجِ من أولِ وهلة وهم يُلبون عند عقد الإحرام «لبيك اللهم
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 12/ 1417 هـ.
لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك لبيك».
والتوحيدُ كذلك أساسُ بناءِ البيت العتيق، والهدفُ من بنائه ودعوةِ الناسِ للوفود إليه، كذلك أوحى اللهُ لخليله إبراهيم عليه السلام وكذلك سار على خطاه محمدٌ عليه الصلاة والسلام:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (1).
وذكرُ اللهِ في الحج وهو مظهر من مظاهر التوحيد لا يكاد يفارق الحجاج فهم يذكرون اللهَ ويكبرونه وهم يطوفون حول البيت، وحين يسعون بين الصفا والمروة وحين يُهلون بالحجِ أو العمرةِ أو كليهما، وخير ما قال النبيون الأولون والآخرون «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير» .
ويذكرون الله ويكبرونه وهم يرمون الجمار، وينحرون الهدي والأضاحي وأدبارَ الصلوات المكتوبة، أو قبلها، وكذلك يرتفع اسمُ الله في مناسك الحج، وكذلك ينبغي أن يشهد الحجاجُ منافعَ الحج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (2).
ويبدو ذكر اللهِ واضحًا لمن تأمل في مناسك الحج كلها .. كيف لا والحقُّ تبارك وتعالى يقول في سياق آيات الحج {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} (3).
(1) سورة الحج، الآيتان: 26، 27.
(2)
سورة الحج، آية:28.
(3)
سورة البقرة، آية:198.
إنه التذكيرُ بالوحدانية لله وإدامةُ ذكره وحده، وتذكير كذلك بنعمة الله على من نزل عليهم القرآن حيث كانوا من قبل يتمرغون في أوحالِ الشرك والوثنية والضلالة «وإن كنتم من قبله لمن الضالين» وسواء أكان المقصودُ بذكر الله عند المشعر الحرام الصلاتين جميعًا أم ما هو أعمُّ من ذلك (1).
فإن ذكر الله سمةٌ بارزة في الحج وهي مظهرٌ من مظاهر التوحيد ويستمر الحجاجُ يلهجون بذكر الله حتى يتموا حجهم كما قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (2).
وهنا لفتة وخروجٌ عن تقاليد أهل الجاهلية في الذكر وهي تسيرُ في إطار التوحيد وتحقيق العبودية، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم كان أبي يطعم ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكرٌ غير أفعال آبائهم، فأنزل اللهُ على محمد صلى الله عليه وسلم {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} فحثوا على ذكر الله والتعلق به أشد من ذكرهم وتعلقهم بآبائهم .. » (3).
إنها نقلة في المفاهيم .. وتبعة من تبعات هذا الدين الحق، عقلها المسلمون أول ما نزلت وينبغي أن يعقلها المسلمون وهم يتلون كتاب الله، ويؤدون شعائر الحج، فيديموا ذكر الله ويتعلقون به أكثر من تعلقهم بغيره، ولو كان المتعلق به أقرب الناس نسبًا.
عبادَ الله يلخص الرسول صلى الله عليه وسلم أعمالَ الحج والهدف منها بإقامة ذكر الله ويقول
(1) انظر تفسير ابن كثير عن الآية: 1/ 378.
(2)
سورة البقرة، آية:200.
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 381.
عليه الصلاة والسلام: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» (1).
أيها المسلمون تظل ظاهرةُ الذكر معلمًا بارزًا في أيام الحج لمن تأمل والله يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (2).
وفي سبيل الدعوة للتوحيد وإعلاء شأنه عاتب الله قريشًا يوم أن كانوا سدنة البيت فأشركوا معه في العبادة غيره، وصدوا الناس عنه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (3).
ونفى عنهم الولاية: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (4).
أيها المسلمون حين تدرك أهمية التوحيد في شعيرة من شعائر الله، وركن من أركان الإسلام، فليس يخفى أثرُ التوحيد وأهميتهُ في شعائر الإسلام الأخرى وأركانه الأساسية أو ليست كلمة التوحيد هي الركن الأول من أركان الإسلام، وأَوَلسنا في كل قيام للصلاة نردد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فضلًا عن إعلان التوحيد وإعلاءِ شأن الذكر في أعمال الصلاة كلها، وليس التشهد إلا مظهرًا من مظاهرها بل ويظهر التوحيد في مقدمات الصلاة من الأذان والوضوء، وهكذا الشأن في بقية أركان الإسلام أو لا يقودنا ذلك كله إلى تعظيم شأن
(1) رواه أبو داود والترمذي بسند حسن (جامع الأصول 3: 217).
(2)
سورة البقرة، أية:203.
(3)
سورة الحج، أية:25.
(4)
سورة الأنفال، أية:34.
التوحيد والاهتمام به والبعد عن الشرك دقيقه وجليله، أَوَليس الحق تبارك وتعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (1).
ومن وصايا العبد الصالح لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2).
وفي واحة التوحيد ورياض الإيمان يكون الهدى ويتوفر الأمن في الدنيا والآخرة وذلك ذكرى للذاكرين: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (3). أجل لقد أشكلت هذه الآية على الصحابة وقالوا: أيُّنا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم، قال:«ليس كما تقولون، ذاك الشرك» .
وتأمل يا أخا الإسلام عظيمَ فضلِ الله ومغفرته للذنوب، ما لم يقع العبدُ في الشرك، وفي ذلك أعظمُ دليلٍ على أهمية التوحيد في حياة المسلم يقول عليه الصلاة والسلام:«يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشرُ أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً ومن لقيني بقُراب الأرضِ خطيئةً لا يشرك بي شيئًا لقيتهُ بمثلها مغفرة» (4).
فتأملوا هذا الشرط «لا يشرك بي شيئًا» .
يقول ابن القيم رحمه الله في معنى الحديث: ويُعفى لأهلِ التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يُعفى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحدُ الذي لم يشرك
(1) سورة النساء، آية:48.
(2)
سورة لقمان، آية:13.
(3)
سورة الأنعام، آية:82.
(4)
رواه أحمد ومسلم (5/ 172)، (2687).
بالله شيئًا ربه بقراب الأرض خطايا، أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيدُه، فإن التوحيد الخالصَ الذي لا يشوبه شركٌ لا يبقى معه ذنب، لأنه يتضمن من محبةِ الله وإجلاله وتعظيمه وخوفِه ورجائه وحده ما يوجب غسلَ الذنوب ولو كانت قرابَ الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوي (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (2).
اللهم سلم قلوبنا من الشرك قليله وكثيره صغيره وكبيره، اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
(1) فتح المجيد ص 61.
(2)
سورة الشعراء، الآيتان: 88 - 89.