الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو العليم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، الملكُ ملكه، والدينُ دينه، والنصرُ من عنده، وهو مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرتُه من خلقه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وبعد:
فلا تظنن -أيها المسلم- أن هجرةَ الحبشةِ كانت سياحةً يرغب المهاجرون فيها التنعمَ بالراحةِ والتلذذَ بشهوات الدنيا حيث ولا تتوفر مثيلُها في مكة.
ولا يدور بخلدك أن المهاجرين استسلموا للراحة حيث ابتعدوا عن المحنة، بل وافتهم في أرض الحبشة صعوبات، وتعرضوا فيها أكثر من مرة لمخاطرَ ومساءلات- وكانت حواراتُهم صادقةً، يعظمون فيها الإسلام وإن لم يكن ثمة مسلمون غيرهم، ويلتزمون بهدي القرآن، وإن كان الحكمُ هناك للإنجيل، ويحافظون على صلواتهم وعباداتهم وإن لم يشاركهم فيها غيرُهم، بل تحدثنا كتب السير أن جعفرًا كان بالحبشة يجمع أصحابه ويحدثُهم (1)، كما نقل ذلك الذهبي.
إخوة الإسلام الإسلامُ الذي هاجر المهاجرون من أجله، ظل في أرض الغربةِ عزيزًا عندهم، واستطاعوا بصدقهم وصبرهم وتوفيق اللهِ لهم أن يُدخلوا الآخرين فيها، ولو لم يكن من آثار هجرتهم إلا إسلامُ النجاشي ملكُ الحبشة لكان ذلك كافيًا وأثرًا عظيمًا، ولئن كان قارئُ السيرة يُعجب بعقلِ النجاشي وعدلِه، وهو الذي لم يأخذِ المسلمين بالظنة ولا صدق فيهم التهمَ الباطلة، التي
(1) سير أعلام النبلاء 1/ 437.
روجتها قريشٌ ضدهم حتى استدعاهم وسمع منهم، وأعجبه حديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عن أسباب هجرتهم واختيارهم أرضه حين قال: «
…
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلَم عندك أيها الملك فقال النجاشي: هل معك مما جاء به محمد عن اللهِ من شيء؟ قال: نعم فقرأ عليه جعفر صدرًا من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى اخضلَّت لحيتُه وبكت أساقفتُه حتى أخْضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاةٍ واحدة» (1).
يا أخا الإسلام إذا كان يُعجبكَ هذا الموقفُ المتعقلُ من النجاشي للمسلمين المهاجرين إليه، وتُسرُّ لإسلام النجاشي حين أصبح في عِداد المسلمين، وتغتبطُ إذ يُصلي عليه الرسولُ صلاة الغائب حين مات في أرض الحبشة ولم ير الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يره الرسول صلى الله عليه وسلم.
فيزداد عجَبُك بالنجاشي حين تعلمُ أن العدل مبدأ أرسى عليه دعائمَ ملكه منذ أن صار إليه أمرُ الأحباش، ولقد رد هدايا قريش عليهم حين تبين له صدقُ المسلمين، وما هم عليه من حق وتذكَّر أن الرشوةَ لم تُؤخذ منه من قبل فيأخذها هو، وقال قولته المشهورة: ردوا عليهما -يعني مبعوثي قريش- هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ اللهُ مني الرشوةَ حين ردَّ عليَّ ملكي وآخذ الرشوةَ فيه، وما أطاع الناسَ فيَّ فأطيعهم فيه (2).
يا أخا الإسلام، النجاشيُّ بهذه المقولةِ يتذكر فضلَ الله عليه حين حسده
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 359.
(2)
السيرة لابن هشام 1/ 361.
الحاسدون وباعوه رقيقًا، ثم مكَّنه الله نتيجةَ صدقه وعدله وصلابته في دينه وتروي قصته العجيبة أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وتقول:
إن أبا أصحمة النجاشي كان ملكَ قومِه، ولم يكن له من الولد إلا النجاشي (أصحمة) وكان له عمٌّ له من صلبه اثنا عشر رجلًا، وكانوا أهل بيتِ مملكةِ الحبشة، فقالت الحبشةُ بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه، فإنه لا ولدَ له غير هذا الغلام وإن لأخيه اثني عشر ولدًا فتوارثوا ملكه من بعده، فبقيتُ الحبشةُ بعده دهرًا، فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملكوا أخاه، فمكثوا على ذلك، ونشأ (النجاشي، أصحمة) مع عمه، وكان لبيبًا حازمًا من الرجال، فغلب على أمرِ عمه ونزل منه بكل منزلة، فلما رأتِ الحبشة مكانَه مِنه قالت بينها: والله إنا لنتخوفُ أن يُملكه، ولئن ملكه علينا لَيَقتلَنا أجمعين لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه، فمشوا إلى عمِّه فقالوا له: أما أن تقتل هذا الفتى، وأما أن تُخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خِفنا على أنفسنا منه، قال: ويلكم: قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم؟ بل أخرجوه من بلادكم، فخرجوا به فباعوه من رجل تاجر بستِ مائةِ درهم، ثم قذفه في سفينة، فانطلق به حتى إذا جاء المساءُ من ذلك اليوم هاجت سحابةٌ من سحاب الخريف، فخرج عمُّه يستمطرُ تحتها، فأصابته صاعقةٌ فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هم حمقى ليس في ولده خير، فمرجَ على الحبشة أمرُهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضُهم لبعض: تعلمون والله إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيرُه الذي بعتموه غدوةً، فإن كان لكم بأمرِ الحبشةِ حاجةٌ فأدركوه، قال: فخرجوا في طلبه حتى أدركوه فأخذوه من التاجر، ثم جاءوا به، وأقعدوه على سرير الملك وملكوه، فجاءهم التاجرُ فقال إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك، فقالوا: لا نعطيك شيئًا، قال إذًا واللهِ لأُكلمنَّه، قالوا: فدونك، فجاءه فجلس بين يديه فقال أيها الملك ابتعت غلامًا
من قومٍ بالسوق بست مائة درهم فأسلموه إليَّ وأخذوا دراهمي، حتى إذا سرتُ بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي، فقال لهم النجاشي
لتعطينه دراهمه أو ليُسلمَنَّ غلامَه في يده، فليذهبن به حيثُ يشاء؟ قالوا: بل نعطيه دراهمَه .. فذلك حين يقول النجاشي: ما أخذ اللهُ مني الرشوة حين ردَّ عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه (1).
أيها المسلمون هذه وقفةٌ عاجلة عند حدثٍ من أحداثِ السيرة، وكم في قصص الماضين من عبرة وكم فيها من تسليةٍ للنفس وتسرية، وما أحوج المسلمين لقراءة السيرةِ النبوية قراءةً واعيةً وفيها دروسٌ عظيمة، وسيرةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهديُه هي الطريقُ الآمنُ لمسيرةِ الأمة، وهي السبيلُ السويُّ لنشر هذا الدين، وقبل ذلك فهي النموذجُ الحي للثبات على هذا الدين وفهمِه فهمًا صحيحًا، اللهم ألهمنا رشدنا وبصرنا بمواطنِ الضعفِ في نفوسنا، وأعنّا على الاقتداءِ بسنة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، هذا وصلوا
…
(1) سير أعلام النبلاء 1/ 429، 430