الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه
.. (1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وتلك وصية الله لكم ولمن قبلكم:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (2).
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (3).
ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه وهو الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق- قال: «إن أحدهم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يُرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 5/ 1419 هـ.
(2)
سورة النساء، آية:131.
(3)
سورة الطلاق، آية:5.
أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (1).
أيها المسلمون .. في هذا الحديث سرٌّ عظيم من أسرار الحياة والأحياء، وقدرة إلهية عظيمة تتكرر وتتجدد عبر القرون، ويشهد بها الناس في أنفسهم وذراريهم ومن حولهم، وإن لم يقفوا على سرِّها.
والتأمل في هذا الخلق العجيب، والنظر في هذه الأطوار المتعاقبة للجنين حتى يخرج إلى الوجود يزدادُ لها المؤمنون إيمانًا وتقطع دابرَ الشكِّ، وتفحم أهل الإلحاد المنكرين لوجود الخالق جل جلاله ..
إن هذه النطفة بتشكلها وأطوارها واحدةٌ من دلائل الإيمان بالخالق جل جلاله، فهي لا تختلف في أسبابها، ولا تنقطع عن الوجود بتكررها، وهي آية كبرى تدل على عظمة من خلق فسوى والسرُّ الأعظم أن هذا الإنسان المدرك فيما بعد، صاحب القوى والقدرات، والطاقات والانفعالات .. أصله من ماء مهين التقى فيه ماءُ الرجل مع ماء المرأة، فتولى الله خلقه وتكوينه عبر مراحل وأطوار، لا يعلمُ بها أقرب الناس إليها- إلا بعد تحركها ونفخ الروح فيها فتبارك اللهُ أحسن الخالقين.
هذه النطفة يعلم الله بدءها وهو الذي يصورها ويعلم ما ستكون إليه، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2).
(1) البخاري ح 6594، مسلم 1847 (المنذري) وهذا لفظه.
(2)
سورة آل عمران، آية:6.
ولا يقف علمه -سبحانه- بكونها ذكرًا أو أنثي، بل يعلم قدرها وأجلها وفقرها وغناها، وشقاها وسعادتها، وحيث أطلق علمُ اللهِ فيها بقوله:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} (1). فهو شاملٌ لكل ما يتعلق بهذه النطفة منذ بدء تكوينها إلى نهاية حياتها، وإلى أن تنتهي إلى المصير المقدر لها في الجنة أو في النار، وهذا ما يقف البشر عاجزين عن معرفته مهما تقدمت بهم وسوائل المعرفة، إذ هو من المغيبات التي لا يعلمها إلا الله - وهذه النطفة بما فيها من أسرار وإعجاز، وكثرة وانتشار في الأمم الخالية واللاحقة هينة على الله في خلقها وفي بعثها وكأنه لم يخلق إلا نفسًا واحدة:{مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (2).
وفي ذلك ردٌّ على المنكرين للبعث، الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم يقولون إن الله خلقنا أطوارًا، نطفةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عظامًا، ثم تقول: إنا نبعث خلقًا جديدًا جميعًا في ساعة واحدة، فأنزل الله هذه الآية، والله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، بل يقول للقليل والكثير كُن فيكون (3).
عجبًا لك يا ابن آدم إذا اشتد عودك، وكملت قواك، نسيت الذي خلقك من ضعف، وبدأت تجادلُ وتخاصم ناسيًا أو متناسيًا أصل خلقتك، وسرِّ العظمة في بداية تكوينك، {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} (4).
(1) سورة لقمان، الآية:34.
(2)
سورة لقمان، آية:28.
(3)
تفسير القرطبي 14/ 78.
(4)
سورة يس، الىيتان: 78، 79.
وعجبًا لك يا ابن آدم، ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، ثم أنت بعدُ تكذب أو تشك في يوم الدين، وإن لم تقل هذا بلسانك، فلسان حالِك يشهد بإضاعتك للواجبات وارتكابك لكثير من المحرمات وقد لا تشعر بخطئك، وقليلًا ما تستغفر ربك، فأين ما يستلزمه الإيمان بالدين من خالص المحبة لله والتوكل عليه، والخوف منه، والرغبة إليه.
أيها المسلمون الإيمانُ بعظمة الخالق وقدرته من خلال بدء الخلق وتصوير الأجنة ينبغي أن يقود لمزيد الإيمان بالبعث والجزاء، وكثيرًا ما تأتي آيات الخلق وانتشار الأحياء في الحياة الدنيا، يقول تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَاّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} (1).
بل يقرر الله أن إعادة الخلق للبعث أهون عليه من بدئه- وله المثل الأعلى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2).
عباد الله في هذا الحديث الذي بين أيدينا إخبارٌ صادق بتقدير الرزق وتحديد الأجل لابن آدم وهو بعدُ في بطن أمه، فعلام الجشع في طلب الرزق إلى حدٍ
(1) سورة الحج، الآيات: 5 - 7.
(2)
سورة الروم، آية:27.
يتجاوز المرءُ الحلال إلى الحرام؟ أو إلى درجةٍ يشغله هذا الوزن المضمون عن المصير المحمود في الجنان وهو غير مضمون.
ولماذا التخوف على الحياة إلى درجة يخشى الناس فيها أكثر من خشية الله، ولربما قال الإنسان باطلًا أو كتم حقًا، تخوفًا أو تحسبًا أو توهمًا من الشيطان والله يقول:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (1)، ويقول في آية أخرى:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (2).
يا عبد الله لا يعني ذلك بحال ترك فعل الأسباب المأمور بها شرعًا ولا التقحم في المهلكات والمنهيات، ولكن اليقين والتوكل، والصدق مع الله، والإيمان بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، بهذا جفت الأقلام وطويت الصحف وجرى قدر الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} (3).
(1) سورة آل عمران، آية:175.
(2)
سورة الأعراف، آية:34.
(3)
سورة الواقعة، الآيات: 57 - 62.