الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بتدبر القرآن فقال جلَّ قائلًا عليمًا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1).
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوحى إليه ربُّه فيما أوحى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَاّ يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (2).
وتكفل اللهُ له بحفظهِ ما بقي الليلُ والنهار، وكانت تلك معجزةً من معجزات هذا النبي وهذا القرآن:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3).
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى سائر المرسلين.
أيها المسلمون: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (4).
فأين المتلمسون لهدي القرآن ليقودهم لأقومِ الطرقِ وأوضح السبل، وإذا لجت البشريةُ في طغيانها، واستحكمت الظلمةُ على أهل الأرض في برها وبحرها وسادت الحيرة والضياع فئامًا من البشر في مشرق الأرض ومغربها، كان للمؤمنين بهذا القرآن منجاةٌ ومخرجٌ ونورٌ يضيءُ الطريق، ويُبدد ظلماتِ الحيرة والشك، فهل يعقل المسلمون - قبل غيرهم- هدايةَ القرآن، وهل
(1) سورة محمد، آية:24.
(2)
سورة الواقعة، الآيات: 77 - 80.
(3)
سورة الحجر، آية:9.
(4)
سورة الإسراء، آية:9.
يستشفون به من كلِّ داء، والله يقول:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلَاّ خَسَارًا} (1).
أجل إنه القرآن يذهب ما في القلوب من أمراض الشكِّ والنفاق والشركِ والزيغِ والميل، وهو رحمةٌ يحصل فيها الإيمانُ والحكمةُ وطلبُ الخير والرغبةُّ فيه، ولكن ليس ذلك إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه- كذا قال العارفون (2).
أفيليق يا عبادَ الله أن تتصدعَ الجبال الراسيات لعظمة القرآن، وتخشعَ الحجارةُ الصمُّ لو نزل عليها هذا القرآن، وتظلُّ قلوبُ البشر صلدةً لا تهزها قوارعُ القرآنِ، ولا تؤثر فيها مواعظُ الذكر الحكيم، ويختم المسلم كتابَ اللهِ ويهذُّه هذَّ الشعر وربما لم تنزل منه دفعة أو يقشعر له جلدٌ، فضلًا عن إصلاح حياته، أو تهذيب سلوكه وفق توجيهاتِ القرآن، ولو كان في الكتب الماضية كتابٌ تُسيرُ به الجبالُ عن أماكنِها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تُكلَّمُ به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآنُ هو المتَّصفُ بذلك دون غيره، لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيعُ الإنسُ والجنُّ عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا
(1) سورة الإسراء، آية:82.
(2)
تفسير ابن كثير 3/ 99.
(3)
سورة الزمر، آية:23.
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (1).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت ليلةَ أُسري بي على قوم تُقرض شفاههم بمقاريضَ من نار، كلما قُرضت وَفَت، فقلتُ يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتِك الذين يقولون ما لا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به» (2).
أيها المسلمون أين النصحُ في دين الله لكتاب الله، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح:«الدينُ النصيحةُ» - ثلاثًا- قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: «لله عز وجل ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمةِ المسلمين وعامتهم» (3).
أتدرون ما النصحُ لكتاب الله؟ قال العلماء: أما النصيحة لكتابهِ فشدةُ حبِّه وتعظيمُ قدره إذ هو كلام الخالق، وشدةُ الرغبةِ في فهمه، وشدةُ العنايةِ في تدبره والوقوفُ عند تلاوتهِ لطلب معاني حبِّ مولاه أن يفهمَه عنه أو يقومَ به له بعد ما يفهمه، والخشوعُ عند تلاوتهِ والتصديقُ بما فيه، والوقوفُ مع أحكامه، والاعتناء بمواعظِه والتفكرُ في عجائبه، ونشرُ علومِه، والدعاء إليه .. (4).
يا حملةَ القرآنِ تمثلوا هديَ القرآنِ في ذواتِ أنفسكم، واحملوه إلى غيركم، علموه الأبناءَ، وادعوا إليه الآباء، واعقدوا له الحلقِ في المدنِ والقرى،
(1) سورة الرعد، آية: 31، وانظر تفسير ابن كثير عندها 4/ 381.
(2)
رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن، وحسنه الألباني وصحيح الجامع الصغير (1/ 96).
(3)
رواه مسلم.
(4)
انظر: ابن رجب: جامع العلوم والحكم ص 78، 79، التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 97.
واصبروا وصابروا على ما ينالكم في سبيله من اللأواء، وليكن الإخلاصُ رائدَكم، والمتابعةُ لهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم منهجًا في حياتكم، وخذوا من هممِ السلف الصالحين ما يُقوي عزائمكم (1).
كتب يزيدُ بنُ أبي سفيان إلى عمرَ رضي الله عنه يقول: إن أهلَ الشام قد كثروا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقهُهم، فأعني برجالٍ يُعلمونهم، فدعا عمر الخمسة الذين جمعوا القرآن .. فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يُعلمهم القرآن، ويُفقههُم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثةٍ منكم أن أحبهم، وإن انتدب ثلاثةٌ منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخٌ كبيرٌ - يعنون أبا أيوب- وأما هذا فسقيمٌ يعنون أبي بنَ كعب، فخرج معاذٌ، وعبادةُ بنُ الصامت، وأبو الدرداء، فقال عمر ابدءوا بحمص فإنكم ستجدون الناس فيها على وجوه مختلفةٍ، فإذا رضيتم منهم، فليقمْ بها واحدٌ، وليخرج واحدٌ إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، قال فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادةُ، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذٌ إلى فلسطين فمات في طاعون عمواس، ثم صار عبادةُ إلى فلسطين وبها مات، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات .. رضي الله عنهم وأرضاهم (2).
وهكذا تكون الجديةُ في تعليم كتابِ الله والدعوةِ لدينه والنفع للخلق، حتى ولو تغرب عن الأوطانِ المعلمون وتحملوا الموتَ في سبيل الغاية النبيلة عند المجاهدين الصادقين.
يا أهل الدثور، ويا أصحاب الولاياتِ والمسؤوليات في بلاد المسلمين، إنه
(1) أخرجه ابن سعد في طبقاته، والبخاري في تاريخه الصغير بسند رجاله ثقات.
(2)
الطبقات 2/ 356، التاريخ الصغير 1/ 41، عن سير أعلام النبلاء 2/ 344.
لشرفٌ لكم أن تساهموا في تعليم كتابِ اللهِ بأموالكم أو بجاهكم، وكم هو عظيمٌ أن تشمل الخيريةُ التي وعد بها الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» اللهم اجعل لنا في الخير نصيبًا وافرًا، واجعل القرآن لنا في الدنيا رفيقًا، وفي القبر مؤنسًا وفي عرصات القيامة شافعًا. هذا وصلوا.