الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين كتب العزة والغلبة لأوليائه الصادقين وجعل الذلَّ والصغارَ للكافرين والمنافقين وما ربُّك بظلام للعبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يمتحن الناس في إيمانهم ويبلو صبَرهم، وحقٌّ عليه نصرُ المؤمنين، ويجعل العاقبَّة للمتقين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاهد في الله حق جهاده، وفي سيرته وسنته عبرٌ للناظرين ..
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله والمرسلين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام إذا كان الدرسُ الأولُ في حادثةِ بني قينقاع يكشف عن طبيعة نفسيات اليهود، وتلبُسِهم بالغدر والخيانة وانطواء نفوسهم على الحسدِ والبغضاء والاحتقار للآخرين.
فالدرسُ الثاني يكشف عن حلفائهم وإخوانهم من المنافقين الذين نشأوا على أيديهم، واستمر ودُّهم فيهم، وإن أظهروا للمسلمين المودة وحسبوا عليهم.
أخرج ابنُ إسحاق -بسند صحيح- أن بني قينقاع كانوا أولَ يهود نقضوا ما بينهم وبين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسوله الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه فقام عبدُ الله بنُ أبي ابنِ سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمكنه اللهُ منهم، فقالَ: يا محمد: أحسن في مواليَّ، فأعرضَ عنه، فأدخلَ يدَه في جيبِ درعِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني، وغضب حتى رؤي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلال، فقال له: ويحك أرسلني، فقال: والله لا أرسلك حتى تُحسنَ في موالي أربعمائةِ حاسرٍ، وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمرِ
والأسود تحصدهم في غداة واحدة، أي والله، إني لامرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هم لك» (1).
إنه الدفع المستميتُ عن اليهود يصنعه المنافقون، ولو غضب لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحرصُ الشديدُ على سلامتهم ولو كان في بقائهم شرٌ وبلاءٌ مستطير، والمنافقون لا يثقون بقوتهم الخاصة، ولا يثقون إلا باليهود تحسبًا لوقوع الدوائر ..
ولئن عفى رسولُ الهدى عليه الصلاة والسلام عن ابن أبي، وتكرم بترك قتلهم استجابةً لمطلب هذا المنافق اللئيم .. فقد تولى اللهُ كشف الحقائق، واقتضت حكمته أن يكشف عن العلاقة بين اليهود والمنافقين في كل زمان ومكان، ونزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (2).
أجل لقد تتابعت آياتُ القرآنِ الكريم تكشف ما بين اليهود والمنافقين من ودٍّ وتعاون، وإخاءٍ نصَّ الله عليه بقوله:{أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} (3).
ويأبى الله إلا أن تتكشف حقيقةُ النفاق، وينفضحَ المنافقون إثر علاقاتهم المريبة مع اليهود على مرِّ العصور واختلاف الزمانِ والمكان.
(1) السيرة لابن هشام، صحيح السيرة النبوية؛ إبراهيم العلي ص 198.
(2)
سورة المائدة، الآيتان: 51، 52.
(3)
سورة الحشر، آية:11.
وإذا حكم اللهُ بالأخوة بين المنافقين واليهود فلا مزيد على هذا الوصف والبيان.
أيها المسلمون .. أما الدرسُ الثالثُ من حادثةِ يهود بني قينقاع فهو درس في الإيمان، اختص اللهُ به أهلَ الإيمان الذين يوالون في الله ويعادون في الله، ويحبون للهِ ويبغضون للهِ وتلك أوثق عرى الإيمان .. ويمثل هذا الموقف الإيماني عبادةُ بن الصامت رضي الله عنه، وتأملوا الفرق بين موقفه مع اليهود الناكثين، وبين موقف عبد الله بن أبي رأسِ المنافقين.
فقد أخرج ابنُ إسحاق في السيرة- بسند صحيح- قال: لما حاربت بنو قينقاع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبدُ الله بنُ أبي، وقام دونهم، فمشى عبادةُ بنُ الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحدَ بني عوف بنِ الخزرج لهم من حلفهم مثل الذي لهم من حلف عبدِ الله بنِ أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم فقال: يا رسول الله: أتبرأُ إلى اللهِ وإلى رسولهِ من حلفهم وأتولى اللهَ ورسولَه والمؤمنين وأبرأ من حلف الكفارِ وولايتهم، ويقال فيه نزل قوله تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (1)
وهكذا يتضح الفرق بين المنافقين والمؤمنين في الولاء أو البراء من الكافرين .. والمسافة لا شك هائلةٌ بين منافق يُغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الدفاع عن اليهود والصدِّ عن قتلهم ..
وبين مؤمن يتولى أمر جلائهم، فقد كان ذلك لعبادةِ بن الصامت رضي الله عنه منقبةً، ولابد أبي فضيحةً وخزيًا إلى يقيم الدين. ألا ما أحوج الأمة إلى رجالٍ كعبادةِ بن
(1) سورة المائدة، الآيتان: 55، 56.
الصامت يقدمون الولاء لله ولرسولهِ وللمؤمنين على كلِّ ولاء، ولا تقعد بهم مصالحهم الشخصية دون مصلحةِ الأمةِ وعقيدتها .. تلك تربيةُ محمد صلى الله عليه وسلم وأولئك أفراخ اليهود وربائبهم. وفرق بين الثرى والثريا. وهكذا تظل سيرةُ محمد صلى الله عليه وسلم بأحداثِها ودروسها معلمًا هاديًا ودرسًا بليغًا، وَعَتْه الأجيال المسلمة فيما مضى، وينبغي أن تعيَه في زماننا .. وهنا يردُ السؤالُ المهم: إلى متى سيظل المسلمون غافلين عن هدي السيرةِ النبوية؟ وإلى متى سيبقون يتمرغون في أوحال الذلِّ والهزيمة، ويتجرعون كؤوس الفرقة والشتات يرجون اليهودَ تارةً، ويتسيدون النصارى تارة ويقود ركابَهم المنافقون تارة .. ويستثمر اليهود والنصارى هذه الأوضاع المأساوية، فيستحلون المقدسات، ويزيدون في بناء المستوطنات ويُستذل المسلمون، وتستباح المحرمات، ويستحوذ على المقدرات. الجواب باختصار كامن في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .