الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله يُطْعِم ولا يُطعَم، وأشكره على جزيل النعم، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له رزقه ما له من نفاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رضي من الدنيا بالكفاف، وخرج منها ودرعه مرهونةٌ عند يهودي .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء ..
أيها المسلمون إذا كان غنى النفس مفهومًا شرعيًا وعقليًا للغنى الحقيقي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيه:«ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» (1).
فثمة مفهومٌ آخر ينبغي أن يستقر في أذهان المسلمين فيقنعون وهم يطلبون الرزق من الله، ويقول عنه صلى الله عليه وسلم:«من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًا في جسده، عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (2).
الله أكبر توفيرُ قوت يوم يعدل حيازة الدنيا بحذافيرها .. ألا ما أعظم القناعة في هذا الدين .. وما أجمل الرضا والثقة برزق رب العالمين.
وهاكم وصيةً ثالثةً من وصايا خير المرسلين في الرزق ما أحوجنا إلى فهمها، وإقناع النفس بها، يقول عليه الصلاة والسلام:«قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» (3).
أتدرون ما الكفاف؟ قيل: «هو الذي لا يفضل عن الحاجة ولا ينقص» (4).
(1) متفق عليه (شرح السنة 14/ 243).
(2)
رواه الترمذي وحسنه، وحسنه غيره (صحيح الجامع 5/ 245).
(3)
الحديث رواه مسلم (رياض الصالحين 194).
(4)
جامع الأصول 10/ 138، وانظر: النهاية 4/ 191 مع اختلاف يسير).
وسئل سعيد بن عبد العزيز: ما الكفاف من الرزق؟ قال: «شبعُ يومٍ وجوع يوم» (1).
وإذا كان ذلك كذلك فهل علمتم أن رزق آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم كفافٌ، فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند حسن:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبرهم خبز الشعير» (2).
عباد الله فإن قلتم فما الطريق إلى القناعة والرضا بما قسم الله أجبتكم بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلْقِ، فلينظر إلى ما هو أسفل منه» (3)، وفي رواية لمسلم:«انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» (4). وإليكم نموذجًا عمليًا قال عون بن عبد الله بن عتبة: كنتُ أصحبُ الأغنياء، فما كان أحدٌ أكثر همًّا مني، كنت أرى دابةً خيرًا من دابتي، وثوبًا خيرًا من ثوبي، فلما سمعتُ هذا الحديث صحبتُ الفقراء فاسترحت» كذا جاء في رواية عن رزين (5).
أيها المسلمون .. هذه المفاهيمُ الشرعية وأمثالها ينبغي أن يتذكرها المسلمون دائمًا وأبدًا وهم يطلبون الرزق، فتريحهم من العناء، وتصلهم بالأخرى وحين تختل هذه المفاهيم، وتُنسى هذه القيمُ، يُصاب الناسُ بأدواء الدنيا المهلكة، فتسود المنافسة والشحناءُ، ويسري الحسدُ والبغضاء، وتتحقق خشية
(1) شرح السنة للبغوي 14/ 245.
(2)
رياض الصالحين 194، صحيح الجامع الصغير 4/ 254.
(3)
أخرجه البخاري.
(4)
جامع الأصول 10/ 142، 143.
(5)
جامع الأصول 10/ 143.
المصطفى صلى الله عليه وسلم: « .. فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهاكتهم» (1).
أو يكون الرزقُ داعيًا للكبر والخيلاء والعلو والفساد، وينسى هذا المسكينُ أن الرزق لا يعني الرضا، وإنما هو فتنةٌ وامتحان للمُعطى وفي نموذج «قارون» عبرةٌ وذكرى، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} إلى قوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (2).
عباد الله .. كما ينتج عن هذه المفاهيم الخاطئة في طلب الرزق الغفلة عن ذكر الله، والله يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (3). أو عن الصلاة، والله يقول:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (4).
أما بيع الذمم، وضياعُ الدين بسبب الدنيا .. والمداهنة في بيان الحقِّ ضمانًا لحصول العيش وتوفر الرزق فذلك الذي توعد الله عليه بالويل {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (5). وأصحابه لا خلاق لهم في
(1) متفق عليه (رياض الصالحين 179، فضل الزهد في الدنيا .. ).
(2)
سورة القصص، الآيات: 78 - 83.
(3)
سورة الححنافقون، آية:9.
(4)
سورة الماعون، الآيتان: 4، 5.
(5)
سورة البقرة، آية:79.
الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
أيها المسلمون إياكم أن يكون طلبكم للرزق مفضيًا إلى الكسب الحرام من ربا أو غش أو خداعٍ أو قمار أو نحوها مما يُتحصل به على الحرام ففي الحلال غنية عن الحرام، والله يقول:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (2).
إياكم واتباع خطوات الشيطان في رزق الله {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (3).
وإياكم أن تكون هذه الأرزاق من الله لكم سبيلًا للفساد في الأرض أو الصدود عن سبيل الله أو منع ما أوجب الله، وقد جاءكم النذير منه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (4).
وبالجملة فما أحرانا جميعًا للتنبه لمخاطر الدنيا وفتنتها وأن ندرك أننا مستخلفون فيها يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الدنيا حُلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعلمون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» (5).
(1) سورة آل عمران، آية:77.
(2)
سورة البقرة، آية:188.
(3)
سورة الأنعام، آية:142.
(4)
سورة التوبة، آية:34.
(5)
رواه مسلم (رياض الصالحين 179).