الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين أنزل على عبده الكتاب لينذر به وذكرى للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعلى منزلة القرآن بين كتبه المنزلة، وجعله نورًا يهدي به من يشاء من عباده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أمره ريُّة بقراءة القرآن على مُكثٍ، كما أوحى الله:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (1) فقام به صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، واستن بسنته أصحابه والتابعون وخيار الأمة سلفًا وخلفًا ولا تزال العناية بالقرآن حتى ينقضي الليلُ والنهار تحقيقًا لوعد الله بحفظ كتابه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2).
أيها المسلمون عمومًا .. وأيها الحافظون لكتاب الله خصوصًا استشعروا عظيم نعمة الله عليكم بالقرآن، وإياكم أن يكون أغلى ما عند الناس أرخص ما لديكم.
ومن وصايا الأئمة أسوق لكم قول الفضيل- يرحمه الله-: «ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجةٌ إلى أحد من الخلق وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه، وحامل القرآن حاملُ راية الإسلام لا ينبغي له أن يلغو مع من يغلو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو» (3).
ووصية الآجري- هي الأخرى- ذات قيمة فاعقلوها واعملوا بها، يقول- يرحمه الله-: فأول ما ينبغي لحافظ القرآن أن يستعمل تقوى الله في السر
(1) سورة الإسراء، آية:79.
(2)
سورة الحجر، آية:9.
(3)
الآجري، أخلاق أهل القرآن (37)، أبو نعيم 8/ 92.
والعلانية باستعمال الورع في مطعمه ومشربه، وملبسه ومسكنه، بصيرًا بزمانه وفسادِ أهله فهو يحذرهم على دينه، مقبلًا على شأنه، مهمومًا بإصلاح ما فسد من أمره، حافظًا للسانه، مميزًا لكلامه، همه في درس القرآن إيقاعُ الفهم لما الزمه الله من اتباع ما أمر والانتهاء عما نهى، ليس همتُه: متى أختم السورة؟ بل همتُه: متى استغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من المحسنين، متى أكون من المتوكلين؟ متى أكون من الخاشعين؟ متى أكون من الصابرين؟ متى أكون من الصادقين .. إلخ الصفات الحميدة والخلال الكريمة التي يسائل نفسه متى يبلغها؟ (1).
أما أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو من يُعرف بحسن التلاوة لكتاب الله، فقد روي أنه جمع الذين قرءوا القرآن- وهم قريبٌ من ثلاثمائة، فعظم القرآن وقال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخرًا وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زخَّ به في قفاه فقذفه في النار» (2).
يا حامل القرآن إياك أن ترائي بحمله، أو تتكبر فتغمط أحدًا حقه أن آتاك اللهُ القرآن .. ولا خير فيك إن لم يهذب القرآن خلقك، ويحببك للناس ويحبب الناس إليك، بل وينبغي أن تسجد لله شكرًا أن آتاك القرآن، وتحمده سرًا وجهرًا وظاهرًا وباطنًا أن جعلك من أهل القرآن، فلم تحفظه بحولك وقوتك، ولا بفرط ذكائك وقوة صبرك بل بحول الله وتوفيقه وإعانته .. فهناك من يفوقك في هذه الصفات كلها ولم تمكنه هذه القدرات كلها في حفظ كتاب الله. فاعقل وثمن نعمة الله عليك واعلم أنك ممتحن فيها، فاشكر الله عليها، وأدِّ حق الله فيها،
(1) الآجري، أخلاق أهل القرآن (79)، محمد الدويش، حفظ القرآن 61.
(2)
الدارمي (3328)، والآجري (3)، وانظر: حفظ القرآن 61.
وليرى الناس فيك أخلاق القرآن، وصفات المؤمنين، وسيما الخاشعين فيعلموا بها وبآثارها إنك من أهل القرآن وان لم يجزموا أنك من حفاظ كتاب الله.
يا حامل القرآن من حق الله عليك في هذه النعمة أن تعلم القرآن من احتاج إلى تعليمه .. وتذكر بقيمة تلاوته وتيسير حفظه من ظن ذلك أو توهمه أمرًا عسيرًا .. لتكن مصباحًا يضيء حيثما حلَّ أو ارتحل، ولتكن نموذجًا للعلم والوعي تذود عن حياض الإسلام سهام الموتورين، وتذود عن لغة القرآن كيد الكائدين.
أيها المسلمون كبارًا وصغارًا، ذكرانًا وإناثًا. هذه بعض مزايا وفضائل حفظ كتاب الله .. إلا وإن الفرصة لا تزال متاحة لمن فاته الركبُ في سني عمره الأولى .. فلا حدَّ للحفظ وإن كان في زمن الصبا أولى وأحرى بالثبات .. ولكن التاريخ يثبت والواقع يشهد بأن مجموعة من الناس حفظوا كتاب الله على كبر، إنها الهمة الصادقة والعزيمة القوية والاستعانة بالله وحده تذلل الصعاب وتجعل العسير سهلًا والمستحيل أمرًا واقعًا .. فجدوا معاشر المسلمين في طلب كتاب الله وحفظه .. واحرصوا معاشر الآباء والأمهات على تنشئة أبنائكم وبناتكم على حفظ كتاب الله والعناية به، فمن أسرار القرآن وإعجازه أن الصبي قد يتهيأ لحفظ كتاب الله وهو بعدُ لا يعرف للحرف شكلًا، ولا يملك من اللسان العربي إلا كلماتٍ محدودة .. ثم ما يلبث زمنًا إلا وقد حفظ كتاب الله.
معاشر المسلمين لا يغب عن بالكم وأنتم تحاولون حفظ كتاب الله أو تحفيظه لأولادكم أن تذكروا قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} .
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: «أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد
حفظه، فهل من طالب لحفظه فيُعان عليه» (1).
اللهم يسر لنا حفظ كتابك، وأعنا على تدبره والعلم به، والعمل بمقتضاه .. اللهم اجعلنا من أهل القرآن .. اللهم حكمه فينا وفي المسلمين.
(1) الجامع لأحكام القرآن 17/ 134.