الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون والإعلام
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فأما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون لعلكم ترحمون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} .
أيها المسلمون! تحتاج أي أمة من الأمم إلى وسيلة تنشر بها تراثها، وتوصل- عن طريقها- للآخرين أساليب حضارتها، ومقومات فكرها، أيًا كانت هذه الحضارة، وأيًا ما كان نوعُ هذه الأفكارِ المصدرة.
وتتشكل هذه الوسيلة- لنقل الحضارة والأفكار- حسب ظروفِ الزمانِ والمكان، وتتطور وفق تطورِ الحضارات وتفوقِ الأمم.
هذه الوسيلةُ اصطلح عليها مؤخرًا باسم «وسائل الإعلام» وحين يعرفه الغربيون بأنه «التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير وروحها وميولها واتجاهاتها في نفس الوقت» (2).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/ 5/ 1418 هـ.
(2)
الإعلام الإسلامي، د. محيي الدين عبد الحليم ص 21.
فهو في نظرة المسلمين أداةٌ هامة؛ لنقل الخير والدعوة إليه، والتعريف بالشر والتحذير منه، أو هو باختصار كما قال أحدُ المختصين المسلمين بالإعلام: هو إعلاءُ كلمة الله في كل عصر بكافةِ وسائل الاتصال المناسب لكل عصر، والتي لا تتناقض مع مقاصد الشريعة الإسلامية» (1).
أجل لقد استخدم الأنبياء عليهم السلام وسيلة البلاغ للناس أسلوبًا من أساليب الدعوة إلى دين الله، والتعريف بخالق الكون والحكمة من الوجود في هذه الحياة، وذلك بالأسلوب واللغة التي تناسبهم، كل ذلك ليتحقق البلاغ، ويصل البيان، وتقوم الحجة، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2).
وقيل لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (3).
فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأشهدهم على البلاغ، أشهد ربَّه- وهو به أعلم- أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ » قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت، فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكثها إلى الناس:«اللهم اشهد» ثلاث مرات.
إخوة الإيمان! ومنذ القدم عرف الناسُ البلاغ ووسائل التأثير، فهذا موسى عليه السلام في سبيل دعوته لفرعون وقومه- رغب أن يكون إحقاقُ الحقِّ
(1) د. زين العابدين الركابي، النظرية الإسالأمية في الإعلام، عن: وسائل الإعلام وأثرها .. الغلايني ص 46.
(2)
سورة إبراهيم، آية:4.
(3)
سورة المائدة، آية:67.
وإبطالُ الباطل على ملأ من الناس، وفي يوم اجتماعهم:{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (1).
وفرعون في المقابل يبعث في المدائن حاشرين مثيرًا ومُضللًا: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} (2).
وينقلب السحر على الساحر، ويعلو الحقُّ الأصيل، وينكشف الباطل المزيف!
وسليمان عليه السلام يستخدم الكتاب أسلوبًا من أساليب الدعوة لملكة سبأ التي قالت: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} .
وكانت النتيجة {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3).
والعرب قبل الإسلام انتشرت لديهم وسائل كثيرةٌ للاتصال تتلاءم مع طبيعة تلك المرحلة، فعن طريق التجارة كانوا ينقلون الأخبار ويطلعون على الأحوال، وأسهمت البعثات اليهودية والنصرانية المتتابعة لأرض الجزيرة العربية في نقل أفكار الأمم المجاورة ومعتقداتها، وكانت إمارتا الحيرة والغساسنة على تخوم الفرس والروم صلة الوصل بين العرب والأمم التي تجاورها، وبين العرب أنفسهم كانت توجد وسائل اتصال فيما بينهم عن طريق الشعر والخطابة، والأعياد والأسواق وإشعال النار على رؤوس الجبال، وعقد الندوات والمشاورات (4).
(1) سورة طه، آية:59.
(2)
سورة الشعراء، الآيات: 54 - 56.
(3)
سورة النمل، آية:44.
(4)
محمد موفق الغلايني، وسائل الإعلام ص 36.
وحين جاء الإسلام استبقى ما هو صالح للبقاء من هذه الوسائل وزاد عليها، فكان المسجدُ قاعدة ينطلق منها المسلمون إثر تجمعهم وتشاورهم، وكانت خطبة الجمعة بلاغًا للحاضر والباد، ونافح الشعراءُ والخطباء المسلمون عن الإسلام ونبي الإسلام، مؤيدين بملائكة السماء «اهجهم وروح القدس يؤيدك» .
وكتب عليه الصلاة والسلام إلى ملوك الأرض، وأرسل الرسلَ يدعوهم إلى الإسلام، وكانت البعثات التعليمية والدعوية الموجهة من الرسول صلى الله عليه وسلم تجوب جزيرة العرب وسطها وأطرافها، فبلغت الدعوة اليمن والبحرين والحبشة، وأرض فارس والروم، ومقوقس مصر .. وغيرهم.
ثم جاءت حركة الفتوح الإسلامية والجهاد في سبيل الله لتنشر دين الله في الآفاق، ولم يبق بيت وبر ولا مدر، ولا أحمرَ ولا أسود إلا بلغتهم الدعوة. ووقف المجاهد الشهم في سبيل الله على ساحل البحر ليقول كلمته: والله لو أعلم أن خلف هذا البحر بشرًا لم تبلغهم دعوة الإسلام لخضت البحر إليهم .. الله أكبر، ويفوح شذى الذكريات، وإن كانت مؤرقة.
إني تذكرت والذكر مؤرقة
…
مجدًا تليدًا بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
…
تجده كالطير مقصوصًا جناحاه؟
واستمر المسلمون، والعالم الآخر من حولهم يعنون بوسائل الإعلام وأساليب التأثير- ولكلٍّ وجهة هو موليها- حتى إذا كان العصر الحاضر تطورت وسائل الإعلام، وبلغت في تنوعها وتقنيتها وأساليب تأثيرها شأوًا بعيدًا، وأصبح العالم الكبير يعيش وكأنه في قرية واحدة - كما يقال- ولا تخفى أحداث الغرب على من هو في الشرق، ولا من هو في الشمال على من هو في الجنوب، والعكس. ولكن المؤلم والمؤسف أن مراكز القيادة الإعلامية، وقنوات التأثير الكبرى، ووكالات الأنباء العالمية من نصيب غير المسلمين، ويمتلكها مناوئون
للإسلام وقومٌ خصمون للمسلمين، يكفي- دليلًا على ذلك- أن تعترف الصحف الغربية نفسها بسيطرة اليهود على الصحافة العالمية- وخاصة في أوربا وأمريكا- ومنذ أمد بعيد (1).
وليس يخفى سيطرة اليهود كذلك على أغلب وكالات الأنباء، وهذا يفسر التعتيم الإعلامي على كثير من قضايا المسلمين من جانب، وإشغال الناس بقضايا تافهة وفرضها على الإعلام العالمي، لأنها تخدم أغراضًا معينة يريد تصديرُها أولئك المنتقدون من جانب آخر- والله المستعان-.
أيها المسلمون! ومكمنُ الخطر أن وسائل الإعلام باتت وجهة للرأي العام- بشكل عام- والمتفوق في هذا الميدان يفرض حضارته، ويصدر أفكاره، ويحشر الآخرين معه في اهتماماته ولو كانت ساذجة، ويؤثر في مشاعر الناس في أحداثه ولو كانت ساقطة.
أجل أن من أبرز الآثار التي خلفها الإعلام المعادي على مجتمعات المسلمين زعزعة المعتقد عند بعضهم، ونشر الأفكار الهدامة عند بعضهم الآخر، كما أثرت في تصدير العوائد والأخلاق الرديئة، وساهمت في خلخلة بناء الأسرة المسلمة، وروجت للاقتصاد الحرِّ بزعمهم- وهو عين الربا والاحتكار، وشوهت صورة الإسلام، واختارت أبشع الصور لإلصاقها بالمسلمين، كما اختارت أسوأ المصطلحات المنفرة لترمي بها- زورًا وبهتانًا- أبناء المسلمين- ولو كانوا يُدافعون عن حقوقٍ مغتصبة- ولو حوصروا في معاشهم وضيق عليهم المستعمر أوطانهم، وأساءَ إلى مقدساتهم!
مصيبة عُظمى حين تُؤَثِّر وسائل الإعلام المعادية في مجتمعات المسلمين،
(1) اعترفت بذلك صحيفة الجرافيك اللندنية عام 1879 م (الغلاييني، وسائل الإعلام ص 240).
فيستوردون من عوائدهم القبيحة ما يستوردون، وينقلون من زبالة أفكارهم ما يجعلهم في ذيل القافلة وهم مؤهلون للقيادة.
مصيبة أن يحزن المسلمون أو يتأثروا لمن يحزن أو يتأثر له الآخرون وهزيمةٌ فكرية حين تصبح قضاياهم النكدة قضايا مطروحة في بلاد المسلمين دون أن يتضح الفرق في طرحها باختلاف القيم والموازين، وتباين المعتقدات واختلاف قيم الحضارات؟ !
إذا كان خبر المسلم الفاسق لابد من أن يتبين ويمحص، فكيف بأخبار الكفار المعاندين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .