الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أيها المسلمون: من مقامات الأنبياء إلى وصايا الحكماء يقص القرآنُ علينا نموذجًا لتربية الآباء ووصاياهم للأبناء، وفضلُ الله يؤتيه من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ولو كان الحكيمُ عبدًا حبشيًا، قصيرًا، أفطسَ الأنف، ذا مشافر عظيم الشفتين، مشقق الرجلين. وكذا كان لقمانُ الحكيم .. ولكن الله رفع ذكرَه بالإيمان والتقى والصدق واليقين، فقد كان عبدًا صالحًا وآتاه الحكمة ولم يكن نبيًا (1).
وبدت حكمتُه لسيده حين أمره قائلًا: اذبح لي شاةً وائتني بأطيبها مُضغتين، فأتاه باللسان والقلب، فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟
فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق أخبث مضغتين فيها، فألقى اللسانَ والقلب، فقال له: أمرتُكَ أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تُلقىَ أخبثَها فألقيت اللسانَ والقلب؟ قال لقمان: إنه ليس شيء أطيبَ منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثَا (2).
إخوة الإيمان كم يمرُّ بنا ذكرُ لقمانَ ووصاياه العظام فلا تلفت أنظارنا كثيرًا، وربما لم تحرك عند البعض منا ساكنًا، وفي وصايا لقمانَ لابِنه وهو يعظه دروسٌ
(1) تفسير القرطبي 4 - 9/ 59، ابن كثير 3/ 731.
(2)
تفسير القرطبي 14/ 61.
للآباء والأبناء، وفي مواعظِه ما يحيي به اللهُ القلوبَ الغافلة ذكرانًا كانوا أم إناثًا أن أولَ ما تتجه له عاطفةُ الأب الناصح لابنه أن يدعو بعبادة الله وحده ولا يشرك به شيئًا:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1).
فالعبوديةُ لله وحده هدفُ الوجود .. وهي أساسُ دعوة الرسل، والشرك محبطٌ للأعمال موجب للخسران {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} (2).
ولئن قيل إن ابن لقمان، وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما (3).
فحري بالآباء أن يُحذِّروا الأبناء من طرائق الشرك ووسائله وإن كانوا في الأصل مسلمين، وكذلك نزل القرآنُ محذرًا المؤمنين عن الشرك بقوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (4).
قد شقت هذه الآيةُ على الصحابة حين نزلت، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: وأينا لا يظلم نفسَه، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (5). ويلفت لقمانُ نظرَ ابنه إلي عظيم قدرةِ الله فالحبةُ وإن كان قدرها صغيرًا، والحسُّ لا يدرك لها ثقلًا، ولا تُرجِّح ميزانًا لخردلة، فالله يعلم وجودها، ولو كانت محصنة محجبة داخل صخرة صماء، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السموات والأرض فإن الله يأتي بها فلا
(1) سورة لقمان، 13.
(2)
سورة الزمر، الآيتان: 65، 66.
(3)
ذكره القشيري، تفسير القرطبي 14/ 62.
(4)
سورة الأنعام، آية:82.
(5)
الحديث رواه مسلم.
تخفى عليه خافية {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (1).
قيل أن لقمان هنا وعظ ابنه ألا يشغله الرزقُ عن أداء فرائض الله فلو كان رزقُ الإنسانِ مثقالَ حبةِ خردلِ في هذه المواضع جاء بها الله حتى يسوقها إلى من هي رزقُه.
وقيل المعنى تخويفٌ عن اقترافِ المعاصي وتنبيهٌ لرقابة الله ولو ظن العاصي أنه لا يُرى.
فقد روي أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبتِ إن عملتُ الخطيئةَ حيث لا يرانا أحدٌ كيف يعلمها الله؟ فقال له لقمان: يا بُني إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتي بها الله .. فما زال ابنه يضطربُ حتى مات ذكره مقاتل، ونقله القرطبي (2).
أيها المسلمون لا يزال لقمانُ يوصي ابنه، وينقله من موعظةٍ إلى أخرى .. وتحتاجُ بقيةُ الوصايا إلى خطبة أخرى ولكني أقفُ في النهاية مستخلصًا أعظمَ ما ينبغي أن يمنحه الآباءُ للأبناء، ومن الاستعراض الموجزِ لسلوكيات الأنبياءِ أو الحكماء نعلم حاجة الآباء إلى تخصيص أبنائهم بالدعوة والدعاء، وأن يمنحوهم الأدب، ويمحضوهم النصحَ، ويخصوهم بالوصايا والعظاتِ النافعة، «فما نحل والدٌ ولدًا من نحلٍ أفضل من أدبٍ حسن» (3).
وعلى الأبناء أن يخلصوا الطاعة لله، وأن يكونوا مثالًا للطاعة بالمعروف
(1) تفسير ابن كثير 3/ 735.
(2)
تفسير القرطبي 14/ 67.
(3)
رواه الترمذي.
والبرِّ والإحسان إلى والديهم، والشكر لهم، كيف لا، وقد قرنَ شكرُ الله بشكرهما «أن اشكر لي ولوالديك» قيل: الشكرُ للهِ على نعمةِ الإيمانَ وللوالدين على نعمة التربية، وقال سفيانُ بنُ عيينة:«من صلى الصلوات الخمسَ فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما» (1).
ما أحوجَ الأبناءَ للقول الكريم للآباء والله يقول: «وقل لهما قولًا كريمًا» .
أورد القرطبي في أدب الخطاب مع الوالدين عن أبي البَدَّاح التُجيبي قال: قلت لسعيد بن المسبب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفتُه إلا قوله: «وقل لهما قولًا كريمًا» ما هذا القولُ الكريم؟ قال ابن المسيب: قولُ العبدِ المذنب للسيد الفظِّ الغليظ» (2).
اللهم وفق الآباء وأصلح الأبناء، واجعلنا جميعًا ممن ينتفع بمواعظ القرآن وطرائق الأنبياء ووصايا الحكماء.
(1) تفسير القرطبي 14/ 65.
(2)
تفسير القرطبي 10/ 243، وانظر: محمد جمال، بناء شخصية الطفل ص 84.