الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخيرَ كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أما بعد فاذكروا الله- معاشر المسلمين- يذكركم، اذكروه ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرة وأصيلًا، اذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم، وتعرفوا إلى الله في حال الرخاء يعرفكم في حال الشدة إياكم والغفلة عن ذكره وشكره {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (1).
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (2).
معاشر المسلمين استقيموا على طاعة ربكم، واتخذوا من فرص الخير ومواسمه محطاتٍ تتزودون بها للقاء ربكم، واعلموا أن الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دارُ القرار .. ما أهون الخلق على الله وما أضعف حيلهم إذا حزبت الأمور، وعصفت العواصف وحل بهم شيءٌ من أقدار الله .. ولقد عاد كثيرٌ من الناس بذاكرته إلى الوراء يتذكر ما قدَّم يوم أن وقع في اليوم الثامن ما وقع في منى .. وربما خيُل لبعضهم أن القيامة قاب قوسين أو أدنى، وبلغ الرعب والهلعُ أن قتل بعض الناس بعضًا ولقيت ربها نفوسٌ قد تجردت من الدنيا، ولم يكن عليها إلا لباس تُشبه أكفان الموتى، وسلم اللهُ من سلم ليمتحنهم في بقية أعمارهم في الدنيا، ونسأل الله أن يتغمد أموات المسلمين بواسع رحمته، وأن يجعلها تذكرة لمن أنجاه الله منها وأن يقي الجميع نار جهنم فهي أشد حرًا
(1) سورة الزمر، آية:22.
(2)
سورة الزخرف، آية:36.
وأنكى .. ، كما نسأله تعالى أن يقي المسلمين الشرورَ والفتن وأن يكشف الباطل وأهله، وأن ينزل شفاءه العاجل على مرضي المسلمين.
أيها المؤمنون ما فتئ القرآن يذكرنا بنار جهنم وشدة حرها وسمومها .. فهي نزاعةٌ للشوى، وهي لواحةٌ للبشر وأصحابها لا يقضي عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها وهم يصطرخون فيها ويستغيثون بمالك خازنها {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} (1).
وكلما فنيت فيها الجلود أبدلوا بجلود غيرها ليذوقوا العذاب أي نفسٍ تطيق هذا العذاب -أي أقدام لها جلدٌ وصبرٌ على النار-.
ألا فلننقذ أنفسنا من النار، ولنحملها على طاعة الله فما أصبر الكافرين على النار؟ وصدق الله {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ} .
وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (2).
عباد الله كم نركن إلى هذه الدنيا وهي غدارةٌ غرارة وكم نفسٍ حملت ما حملت من الأضغان والأحقاد وأضمرت من الشرور والفسوق والعصيان، وأنفاسها معدودة، ولربما كانت ورقتها ذابلة، وقد محيت من اللوح المحفوظ، وويل لمن لقي الله وهو غاشٌّ لنفسه، أو غاش لمن استرعاه الله عليه، تذكروا عبادَ الله هولَ المطلع يوم العرض على الله، وتذكروا سرعة النقلةِ وفجأة الموت فلا تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
(1) سورة الزخرف، آية:77.
(2)
سورة الزخرف، الآيات: 74 - 76.
وتأملوا هذه الوصية من الحسن إلى عمرَ بن عبد العزيز وقد كتب إليه يقول: أما بعد فإن الدنيا دارُ ظعن، ليست بدار إقامة إنما أُنزل إليها آدم عقوبةً فاحذرها يا أميرَ المؤمنين فإن الزادَ منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حينٍ قتيل، تُذل من أعزها، وتُفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلًا مخافةَ ما يكره طويلًا، ويصبر على شدة الدواء مخافة طولِ البلاء، فاحذر هذه الدارَ الغرارة الخداعة الخيالة. إلخ كلامه يرحمه الله (1).
أيها المسلمون حققوا التوحيد ولا تصرفوا شيئًا من أنواع العبادة لغير الله، فمن حقق التوحيد دخل الجنة.
وخافوا على أنفسكم من الشرك كبيره وصغيره، وقد خافه صلى الله عليه وسلم على أمته وقال:«أخوف ما أخاف عليكم الشركُ الأصغر، فسئل عنه فقال: «الرياء» (2).
وإذا كان الشركُ الأصغر مخوفًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ كذا قال العالمون (3).
حافظوا على الصلوات فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأقيموا الواجبات، واجتنبوا المحرمات، ولا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ولا تنخدعوا بطول الأمد فتقسوَ قلوبكم ..
معاشر المسلمين حجاجًا ومقيمين عادت صحائفهم بيضاء نقية، «فمن حج
(1) إغاثة اللهفان، 1/ 61.
(2)
رواه أحمد بسند صحيح 5/ 428، 429.
(3)
فتح المجيد ص 82.
ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» ومن صام عرفة كفر الله عنه سنة ماضية وقابلة .. ألا فحافظوا على هذه الصحائف بيضاء وتزودوا لآخرتكم فإن خيرَ الزادِ التقى .. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا واستر عيوبنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .. هذا وصلوا ..