الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا حامل القرآن
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون لا ينتهي الحديث عن القرآن عند حدٍّ معين وعجائب القرآن لا تنتهي، والموعظة بالقرآن لا تقتصر على جيلٍ دون جيل، ولا عن فئة من الناس دون أخرى، لقد جعل الله القرآن مأدبته الأخيرة من السماء، لم ينزله جملة كغيره من الكتب، بل نجومًا متفرقة مرتلة ما بين الآية والآيتين والآيات، والسورة والقصة، في مدة زادت على عشرين سنة وذلك لتتلقاه الأمة بالحفظ ويستوي في تلقفه في هذه الصورة الكليلُ والفطن، والبليد والذكي والفارغ
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 7/ 4/ 1419 هـ.
(2)
سورة الحشر، آية:18.
(3)
سورة النساء، آية:1.
والمشغولة، والأمي وغيرُ الأمي، فيكون لمن بعدهم فيهم أسوة في نقل كتاب الله حفظًا ولفظًا قرنًا بعد قرن وخلفًا بعد سلف (1).
عباد الله لقد نزل في وصف كتاب الله قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (2).
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرأه نائمًا ويقظان» (3).
وعلق النووي رحمه الله على الحديث بقوله: فمعناه: محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليها الذهاب، بل يبقى على مرِّ الزمانِ (4).
يا حافظ القرآن هنيئًا لك بحفظ القرآن إذ كنت في عداد العلماء، فانظر يا هذا ماذا علمك القرآن؟ وماذا تعلم من علوم القرآن، وأسراره، وحكمه؟
يا حافظ القرآن .. لك البشرى إذ كنت في طليعة أمة جاء وصفها في الكتب المتقدمة بأن أناجيلهم في صدورهم (5).
ألا ويح الأناجيل المكرمة أن لم تغن عن أصحابها شيئًا ألا ويح القراء والحفاظ، إن حملوا ما لم يُعظموا، أو جهلوا بما حملوا، أو لم يعملوا بما علموا؟
يا حافظ القرآن جاء في وصف القرآن الذي تحمله في صدرك قوله صلى الله عليه وسلم: «لو
(1) الرازي، فضائل القرآن، 49.
(2)
سورة العنكبوت، آية:49.
(3)
رواه مسلم 2865.
(4)
شرح مسلم 17/ 204.
(5)
تفسير ابن كثير، عند آية العنكبوت 3/ 689.
جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في الناس ما احترق» (1).
وقد فسره بعض أهل العلم بأن المقصود بذلك حافظ القرآن، وقال أبو أسامة «اقرأوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف فإن الله لا يعذب بالنار قلبًا وعى القرآن» (2).
وقال أبو عبيدة: «وجه هذا عندنا أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن» (3) ألا فاغتبط بهذا الفضل، وعظم كتاب الله، وما أسعدك حين تكون في عداد الناجين- برحمة الله- من النار. وفي لفظ:«لو جُمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار» (4).
يا حافظ القرآن وأنت مغبوط، بل محسودٌ على حفظ كتاب الله وتلاوته، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسدَ إلا في اثنتين، رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه أناءَ الليل وآناء النهار
…
» (5) الحديث.
فهلا قدمت هذه النعمة، وهل تقوم بحقها فتتلو كتاب الله آناء الليل وآناء النهار .. تقرأه حضرًا وسفرًا راكبًا أو ماشيًا أو قاعدًا أو نائمًا .. ويظل يُسرج في قلبك حتى تضيء منه على الآخرين .. ويظل يمدك بالنور فتكشف به أمارات الطريق لمن ضلوا السبيل.
أجل لقد نزل القرآن أول ما نزل، ومهمته إخراج الناس من الظلمات إلى
(1) رواه أحمد والدارمي وغيرهما.
(2)
فضائل القرآن للرازي 155، 156، محمد الدويش: حفظ القرآن 24.
(3)
فضائل القرآن: 23.
(4)
صحيح الجامع 5/ 62.
(5)
ح 5026
النور، وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيما أوحى:{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1).
وسائل نفسك يا حامل القرآن- ما نصيبك من إخراج من عمي في الضلالة إلى نور الهداية .. إن القرآن حجة لك أو عليك وأنت مؤتمن في حمله، ومسؤول عن العمل به، والدعوة إلى هديه.
يا حافظ القرآن وخليق بك أن تُعرف بخشوعك في صلاتك إذ بعضُ الناس عن صلاتهم ساهون، وبحسن سمتك إذا بدأ بعض القوم في حديث الباطل يخوضون، وببكائك وخوفك إذا ما الناس يضحكون وعن أهوال يوم القيامة غافلون، وبصدق أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، إذا علمت البلوى بالمداهنة، وضعف جانبُ الأمر والنهي بين العامة والخاصة يا أهل القرآن أوتروا وليطل قيامكم بالقرآن، ولتمتلئ محاريبكم بالدموع خوفًا من الرحمن، وحزنًا على واقع أمة القرآن وأين هممكم من همة الشاب عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقصته مشهورة في الصحيحين وغيرهما- قال: كنتُ أصوم الدهر واقرأ القرآن كلَّ ليلة، فإما ذُكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أرسل لي، فأتيته فقال:«ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كلَّ ليلة؟ » قلتُ: بلى يا نبي الله، ولم أردْ إلا الخير، قال:«فإن بحسبك أن تصوم من كل شهرٍ ثلاثة أيام» ، إلى أن قال:«واقرأ القرآن في كل شهر» ، قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال:«فاقرأه في كل عشرين» ، قال قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال:«فاقرأه في سبعٍ ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقًا، ولزورك عليك حقًا، ولجسدك عليك حقًا .. » الحديث (2).
(1) سورة إبراهيم، آية:1.
(2)
انظر صحيح مسلم ح 1159.
يا أيها الحافظ فإن تقاصرت همتُك عن هؤلاء، وقلت في نفسك: تلك أمة قد خلت، ولا سبيل لمحاكاة رجالها .. ويصعب التعلق بقصص أولي العزم فيها؟ قلتُ دونك وفي همم المعاصرين ما يشحذ العزائم، ويجدد ذكرى السابقين وقد حدثني من أثق به أن الله فتح عليه وأعانه في مرحلة من مراحل عمره، فكان يختم القرآن كل ليلة، وما انقضت العشرُ الأواخر من رمضان حتى أتم معها عشر ختمات للقرآن. وكم لله من فضل على عباده وكم في المحن من منح إلهية، وفيما تكره النفس خيرًا كثيرًا.
إنها فتوحات ربانية، وعزائم بشرية صادقة .. تقوي العزائم وتجدد الهمم، وتثبت أن في النفس قدرة على العطاء إذا ما أُخذت بالجد، واستعانت بالواحد الأحد .. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ومن لم يستطع أن يبلغ ما بلغه أولو العزائم فليتشبه بهم، وليحدث نفسه بسيرهم، وليحافظ على ما استطاع من ورده من القرآن فالعمل القليل الدائم يحبه الله، وهو وصية وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في القرآن قليل، والآيتان منه خير من ناقتين كوماوين والثلاث خيرُ من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل، كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصيته لأهل الصفة في الغدو إلى المسجد وتلاوة كتاب الله (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2).
(1) رواه مسلم (803).
(2)
سورة الأنعام، آية:155.