الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقفات من معركة القادسية
(1)
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين كتب العزة والغلبة له ولرسوله وللمؤمنين، وجعل الذلَّ والصغار على الكافرين والمنافقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُديل على المؤمنين فترة ثم ينصرهم، ويمكن للظالمين حينًا ثم يأخذهم وربك يحكم ما يشاء ويختار.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله استخرج الله به الأمة من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله المؤمنين وصحابته الغرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد إخوة الإيمان فيطيب لي أن أنتقل وإياكم نقلتين بعيدتي الزمان والمكان، إحداهما أبعد من الأخرى- أما الزمان فإلى ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة- وبالتحديد ما بين أربعة عشر وستة عشر للهجرة، أما المكان فيتردد ما بين طابة الطيبة، وتخوم العراق حيث وقعت معركة القادسية.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 6/ 1416 هـ.
(2)
سورة آل عمران، آية:102.
(3)
سورة المائدة، آية:35.
لقد بلغ الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه هزيمةُ المسلمين في وقعة الجِسْرِ التي قُتل فيها خلق من المسلمين وفي مقدمتهم قائدهم أبو عبيد رحمهم الله جميعًا ورضي عنهم، كما بلغ الخليفة- أيضًا- انتظام شمل الفرس تحت قيادة يزدجرد، ونقض أهل الذمة بالعراق عهودهم، وإيذاء المؤمنين وإخراج العمال من بين أظهرهم .. وبلغت الغضبة العمرية لله مداها، وقرر الخروج بنفسه غازيًا للفرس في العراق، ولو كان يدير أمور الأمة كلها ومع أنه ركب ونزل على ماءٍ يُقال له صرار، واستصحب معه عثمان وسادات الصحابة، واستخلف عليًا على المدينة .. إلا أن بعض المسلمين أشار عليه أن يبعث غيره وأن يعود هو إلى المدينة، وفي هذا يقول عبد الرحمن بن عوف: إني أخشى إن كُسرت أن يضعف المسلمون في سائر أقطار الأرض .. فيرعوي عمر للمصلحة الكبرى ويقتنع المسلمون بمشورة ابن عوف رضي الله عنهم أجمعين، ويُنتدب لهذه المهمة العظيمة الأسد في براثنه - كما قال المشير ابن عوف: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع سابقة سعدٍ وشريف نسبه، وصدق جهاده وبلائه، فقد أوصاه عمرُ وذكره الله قائلًا: يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل خالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحدٍ نسبٌ إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، والله ربُّهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بُعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه الأمر» (1).
ألا ما أعظمه من تجرد .. وأصدقها من نصيحة، وأصعبها من مهمة يستجيب سعدٌ للمهمة وهو يرى أنه سهم من سهام الإسلام مستعدٌ لأن يُرمى به في أي نحرِ من نحور الأعداء، ويقود المعركة العظيمة وإن بقي متكئًا على صدره فوق وسادة
(1) البداية والنهاية 7/ 39.
لا يستطيع الركوب ولا الجلوس، فقد أصيب بمرض عرق النساء، وأصاب جسده دمامل في فخذيه وإليته.
عباد الله إذا صدق القادة والأمراء انسحب ذلك على الجند وإن كانوا من أولي الأعذار والضعفاء، أوليس الأعمى من أولي الضرر الذين استثناهم الله في قوله:{لَاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1). مع ذلك أثبتت القادسية بطولاتٍ لرجالٍ كانوا من أولي الضرر قلَّ أن يجود الزمانُ بمثلها.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه رأيت يوم القادسية عبد الله بن أمِّ مكتوم رضي الله عنه وعليه درعٌ يجزُّ أطرافها، وبيده راية سوداءُ، فقيل له: أليس قد أنزل الله عُذرك؟ قال: بلى، ولكني أُكَثِّر سواد المسلمين بنفسي» (2). وهو الذي كان يقول: ادفعوا إلي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين» (3).
يُقال إنه استشهد يوم القادسية (4) رضي الله عنه وأرضاه.
أمة الإسلام إذا قام أهل الأعذار بما أعفاهم اللهُ من القيام به، أفيليق بالأسوياء الأقوياء أن يفرطوا بما أوجب الله عليهم من تكاليف هذا الدين؟
ألا إنها الهممُ العالية لا ترضى بأصحابها دون أعالي الجنان وسيطرة الهوى والشهوة يوردان المرءَ موارد الردى.
أيها المسلمون وثمة مواقف وعبرُ تلفت نظر المتأمل في هذه الوقعةِ العظيمة،
(1) سورة النساء، آية:95.
(2)
تفسير القرطبي 4/ 266.
(3)
سير أعلام النبلاء 1/ 364.
(4)
السوابق 1/ 365.
وما أولانا بالاستفادة منها فهل من مُدَّكر؟ وتحمل لنا الروايات التاريخية أنه كان عند سعدٍ في قصره رجلٌ مسجونٌ على الشراب، كان قد حُدَّ فيه مراتٍ متعددة .. فأمر به سعد فقيد وأودع في القصر، فلما رأى الخيول تجول حول حِمى القصر، وكان من الشجعان الأبطال قال:
كفى حزنًا أن تدحم الخيل بالفتى
…
وأترك مشدودًا عليَّ وثاقيا
إذا قمتُ عناني الحديد وغُلِّقت
…
مصاريع من دوني تُصِم المناديا
وقد كنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ
…
وقد تركوني مفردًا لا أخاليا
ثم سأل من «زَبراء» أمِّ ولدِ سعدٍ أن تطلقه، وتعيره فرس سعد، وحلف لها أن يرجع آخر النهار، فيضع رجله في القيد، فأطلقته، وركب فرسَ سعدٍ وخرج فقاتل قتالًا شديدًا، وجعل سعدٌ ينظر إلى فرسه فيعرفها وينكرها ويُشبه الفارس بأبي محجن، ولكن يشكُّ لظنه أنه في القصر موثق، فلما كان آخر النهار رجع (الفارسُ الموثق) من رحلة الجهاد فوضع رجله في قيدها- وفاءً بالعهد ونزل سعدٌ فوجد فرسه يعرق، فقال: ما هذا؟ فذكروا له قصة أبي محجن، فرضي عنه وأطلقه رضي الله عنهما» (1).
أيها المؤمنون .. وليست الخطيئة ضربة لازبٍ لا يستطيع المخطئ الفكاك عنها، وليس المخطئون عناصر فاسدة في المجتمع لا يمكن الاستفادة من طاقاتهم، ولا يُقال عثراتهم كلا، وليس يُكتب على المرء- في ظل شريعة الإسلام- الشقاوة أبد الدهر إن هو قصَّر يومًا أو استزله الشيطان وحثه فعمل محظورًا، فالخطيئة تُداوى بالتوبة، والسيئة تمحوها الحسنة بعدها، ومن مراغمة الشيطان عدم الاستسلام لنزغاته حين مقارنة الذنب، أو توهينه وتيئيسه بعد
(1) البداية والنهاية 7/ 49، 50.
الوقوع في الذنب، فالله كريم يبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومن تمام عقل الإنسان وتوفيق الله له أن يزداد في الحسنات كلما أحسَّ من نفسه ضعفًا وارتكابًا للخطيئات، والله تعالى يقول:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (1)، بل ربما تحولت السيئة إلى حسنة بفضل الندم على فعلها وكثرة الاستغفار منها، ومحاولة التعويض عنها، وعكس ذلك الحسنة التي يعجب بها صاحبها ويمن بها على الله وربما كانت سببًا لغروره وقعوده عن عمل الصالحات، ودونكم هذه المقولة لأحد السلف يقول سعيد بن جبير يرحمه الله:«إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينيه ويُعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينيه فيستغفر الله ويتوب إليه منها .. » اهـ (2).
ألا فلا تقعدَّن بكم الخطايا- معاشر المسلمين- عن عملِ الصالحات ولا يصدنكم الشيطان معاشر المخطئين عن المساهمة مع المسلمين في الدفاع عن حياض الدين ومجاهدة المشركين والمنافقين، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وربما ارتفع سهمُ الغيرة لدين الله ومحارمه عند شخص يرى أنه مسرف على نفسه بالمعاصي، فكانت تلك الغيرةُ سببًا لانعتاقه من أسر الخطيئة أولًا، وطريقًا إلى سلوكه صراط الله المستقيم وثباته على شرعه القويم، ومجاهدتهم في سبيل الله بما يستطيع ثانيًا، وفضل الله يؤتيه من يشاء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (3).
(1) سورة هود، آية:114.
(2)
الفتاوي 10/ 45.
(3)
سورة العنكبوت، آية:69.