الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين يمن على من يشاء بفضله، والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فضل بعض خلقه على بعض في الدنيا .. ولكن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكرمه ربُّه إذ أنزل عليه القرآن وكان خُلقه القرآن. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإيمان: لا تجارة أعظم من تجارة الإيمان وعمل الصالحات، وتلاوة كتاب الله ضمن التجارة التي وعد الله أنها لن تبور .. وهنيئًا لقراء القرآن لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} ، قال قتادة: كان مطرف بن عبد الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القُراء (1).
ومع فضل الجهاد فقد سئل سفيان الثوري يرحمه الله، عن الرجل يغزو أحب إليك، أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» .
ويروى أن بعض فقهاء مصر دخلوا على الشافعي- يرحمه الله- وهو في المسجد وبين يديه المصحف، فقال له الشافعي: شغلكم الفقه عن القرآن، إني لأصلي العتمة، وأضع المصحف بين يدي، فما أطبقه حتى الصبح» (2).
وبقدر ما تكشف هذه النصوص عن قدر القرآن وقيمته وصرف الهمم له عند
(1) تفسير ابن كثير 1/ 532
(2)
البرهان في علوم القرآن 1/ 462.
هؤلاء الأخيار، فهي تكشف عن جلدهم وطول مكثهم في تلاوته وتدبره، كيف لا والمشغول بالقرآن يُعطى أفضل ما يُعطى السائلون، ففي الحديث القدسي يقول الربُّ تبارك وتعالى:«من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» (1).
عباد الله وقيمة التلاوة للقرآن بتدبره والتأثر به، وإنما أنزل القرآن ليتدبر ويعمل به، قال تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (2).
قال البقاعي- يرحمه الله- في تفسير هذه الآية، أي لينظروا في عواقب كلِّ آية وما تؤدي إليه، وما توصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نتوجٌ لا يستولدها، وكان جديرًا بأن يضيع حدوده فيخسر خسرانًا مبينًا» (3).
وفي قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (4)، وقوله {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (5). قال القرطبي: دلت هذه الآيات على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه (6).
أيها المسلمون: إذا كانت قلةُ التدبر ظاهرةً فاشية فينا، فإنما أتينا من غفلتنا
(1) رواه الترمذي، (القرطبي 1/ 4).
(2)
سورة ص، آية:29.
(3)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي 16/ 3375.
(4)
سورة محمد، آية:24.
(5)
سورة النساء، أية:82.
(6)
تفسير القرطبي 5/ 290.
عن أهمية التدبر من جانب، ورغبتنا أحيانًا لكثرة القراءة على أي حال كانت مع إنهاء السورة من جانب آخر، حتى قال أحد العارفين: إنما يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها» (1).
أما المنافقون فمن سيماهم الإعراض عن تدبر القرآن والتماس الهداية منه، وذلك لأن قلوبهم مريضة بالشهوات والشبهات ولذا عاب الله عليهم بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر في معانيه (2).
يا أخا الإيمان فإن قلت فما السبيل لتدبر القرآن وكمال الانتفاع به؟ وجدت ذلك في قاعدةٍ جليلة جعلها ابن القيم- رحمه الله على رأس الفوائد في كتابه الفوائد حيث قال: «إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (3) إلى أن قال: فإذا حصل المؤثر- وهو القرآن- والمحل القابلُ، وهو القلبُ الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر» (4).
يا أيها الشيخ الكبير ماذا معك من القرآن، وما نصيبك من تلاوته وتدبره، ولئن فاتك منه شيء فيما مضى فاستدرك ما فاتك، فإن لم تستطع فشجع أولادك على حفظ كتاب الله والعناية به، ففضل الله واسع.
(1) البرهان 1/ 471، شرح الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله، عبد العزيز مصطفى ص 20.
(2)
القرطبي 5/ 290.
(3)
سورة ق، آية:37.
(4)
الفوائد ص 3، شرح الأسباب العشرة ص 24.
أيها الموظف والمدرس والعامل النشط تُرى هل تستثمر شيئًا من نشاطك وفراغك في تلاوة كتاب الله وحفظ ما استطعت من حفظه، فالقوة يعقبها الضعف، والفراغ يعقبه الشغل، وتحية للمعلمين أو الموظفين وغيرهم الذين يجتمعون على حفظ كتاب الله وتدبره.
أيها الشاب الفتي ما نصيبك من كتاب الله حفظًا .. وما نصيبك منه تدبرًا، إياك أن يغلبك الفتيانُ في الحفظ في أيامك الأولى فتندم بعد على التفريط ولات ساعة مندم.
أيها المسلمون- رجالًا ونساءً- استوصوا بكتاب الله خيرًا، وأحلوه بالمنزلة التي أرادها الله له تفلحوا في الحياتين وتسعدوا في الدارين.
أما أنتم معاشر الحفاظ لكتاب الله فلي معكم حديث آخر يسره الله، اللهم أعنا جميعًا على العناية بكتابك وتدبره، واجعله لنا في الدنيا رفيقًا.